}

ما انتزعه كفاح غزة من التحالف الإسرائيلي ـ الغربي

فيصل درّاج 30 يناير 2024
هنا/الآن ما انتزعه كفاح غزة من التحالف الإسرائيلي ـ الغربي
خدمت تصورات مارك توين ونابليون وجيمس فن الأغراض الصهيونية

ما الذي أقام بين دول الغرب وإسرائيل علاقات وطيدة منذ ميلاد هذه الأخيرة؟ لماذا قال أعلام من الغرب بمقولات صهيونية قبل ولادة الصهيونية؟ هل هي الثقافة الكارهة للشرق أم بقايا تصورات من القرون الوسطى؟

حين مرّ مارك توين، الأديب الأميركي الشهير، بمرج بني عامر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كتب: "لا شيء يتحرك في مرج بني عامر"، جملة قطعية لا تردد فيها تختصر المرج الشهير إلى موات وسكون. هل جاء بهذا اليقين من رحّالة سبقوه إلى زيارة فلسطين أم أرضى تخيّلات ذهنية دون أن يرى شيئًا؟ عابثت ذهنه صورة الشرق "الاستشراقي" واخترعه قبل أن يراه. وإذا تقرّينا النظر وجدنا أنه اخترع ما لا وجود له واخترع معه مقولة صهيونية مبكرة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. فمرج رائق الخضرة تحف به عرّابة وجنين ونابلس ولا حياة فيه برهان أكيد على أرض قفراء لا يسكنها أحد، جديرة بشعب مختلف يحسن الزراعة ويمتلئ بالحركة.

ألغى توين، صاحب الرواية الواسعة القراءة "توم سوير"، مثلما سيلغي مواطنه "الديمقراطي" جو بايدن سكان غزة، فلو اعترف بوجودهم لما زوّد حليفه نتنياهو بآلاف الأطنان من المتفجّرات، ذلك أن النظر المتحضّر ينكر قتل الأطفال وتحويل مدينة إلى مقبرة، أي إلى مكان لا يتحرك فيه أحد.

الإلغاء يساوي الكذب، وهو شأن "رئاسي أميركي" لا جديد فيه. فقد وعد رونالد ريغن الفلسطينيين عام 1982، حين أُخرجوا من بيروت، بأدوات إسرائيلية، "بدولة" مثلما يعد اليوم بايدن أهل غزة بدولة أخرى إن ارتضوا بشروط نتنياهو المستحيلة.

الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت وعد اليهود، وهو ذاهب إلى غزو الشرق عام 1800، بالمساعدة كي يعودوا إلى "أرض أجدادهم". لم يقل برجوعهم، بل عودتهم. ذلك أن صاحب "أرض الميعاد" لا يرجع إليها، إنما يعود بعد غياب، ولو طال. الرجوع يليق بالغرباء واليهود ليسو أغرابًا عن أرض أجدادهم. أخذ الإمبراطور بمقولة صهيونية أخرى تسوّغ "احتلالًا قادمًا" ليس له صفة الاحتلال. وإذا كان بايدن لم يرَ أهل غزة وهو يقتلهم، مزودًا بما شاء من أسلحة "الدمار الشامل". فقد كان الفرنسي، ابن كورسيكا المولد، سيء الحظ ارتد عن أسوار عكا بعد حصار طويل. كما لو كانت روح عكا تسرّبت إلى غزة قبل زمن. كان نابليون ابن الثورة الفرنسية القائلة: بالعدل والحرية والمساواة. سقط منه العدل في الطريق، مثلما أن بايدن ابن الديمقراطية الأميركية التي قامت على دماء "الهنود الحمر".

عرفت فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر قنصلًا إنكليزيًا، أنيق الملبس بليغ العبارة يدعى: جيمس فن. كان رائدًا في فن الكذب، يعد الفلسطينيين بالصدق ويكذب في وعوده، نشر بينهم الشقاق والفرقة، طارد كل جديد وعاقب الداعين إلى التجديد، وعقد صداقة مع "العائلات المختلفة". نصر ما هو متخلّف من العادات العثمانية واجتهد في تقويض "الزعامات الوطنية". كان عنصريًا كذوبًا شعاره، أفضل المجتمعات ما كنت متساوية الرؤوس، وأعلى من رؤوس "الرواد الصهاينة". انتسب إليه الكولونيل "لورانس العرب" الذي كان يزعجه "لونه" الذي يقاسمه فيه بعض العرب. ولم يكن غريبًا على وزير المستعمرات، لاحقًا، ونستون تشرشل القول: ستصل الكهرباء إلى العرب بعد ألف عام... على اعتبار أن تأصيل التخلّف يسهّل ميلاد المشروع الصهيوني المتحصّر.

خدمت تصورات مارك توين ونابليون وجيمس فن الأغراض الصهيونية، كانوا صهاينة قبل صعود الأصوات الصهيونية. بل إن سياساتهم المختلفة، الممتدة من "أرض بلا شعب" إلى يهود يعودون إلى أرض أجدادهم وصولًا إلى عرب خاملين جديرين بالاضطهاد والاحتلال. أسست هذه المقولات، بمقادير مختلفة، لصهيونية منتصرة مذكرّة بما سيدعى لاحقًا: مسيحيون صهاينة لا علاقة لهم بالسيد المسيح، يحوّلون السياسة إلى كذب مسلّح، والاحتلال إلى تخلّف متجدّد والدين إلى تجارة بذيئة.

تجيب الوقائع السابقة على سؤال الاستهلال الخاص بالعلاقة الوطيدة بين الحكومات الغربية وإسرائيل، إذ لكل مسؤول يسوّغ "دفاع إسرائيل عن ذاتها" ينتسب إلى مسؤول سابق رأى في الدولة العبرية خيرًا خالصًا، كما لو كان يقاسمها ثقافتها المبرّأة من التخلّف والكذب؛ ويرى، اليوم، في دفاع غزة عن حقها في الوجود عدوانًا تستنكره "الدول المتمدنة".

انتزع كفاح أهل غزة من التحالف الإسرائيلي ـ الغربي حقيقتين: الشعب الفلسطيني موجود له أرض ـ وطن وذاكرة وتاريخ منسوج من الكفاح وثقافة أجداده، وأن ادعاءات الغرب كاذبة ظالمة. ولعل سياسة العدوان الموزعة على طرفيّ التحالف هي التي جعلتهما يتقاسمان "ذبح مدينة غزة" إخلاصًا منهما لتاريخ مشترك عار من الحقائق عامر بالخديعة والمجازر. بيد أن هذا الإخلاص تطاير في الهواء، فجيش "شعب الله المختار" صدّته غزة بشجاعة نادرة، مثلما صدت عكا، ذات يوم، جيش الإمبراطور الفرنسي، كما أن التربية الموروثة، الممتدة من مارك توين إلى اللورد بلفور، أسقطتها المظاهرات الواسعة التي قام بها جيل جديد في لندن ونيويورك وبرلين، تابع وتأمل حقائق غزة وخرج بوقائع جديدة حُجبت عنه، أو حجبها عنه إعلام زائف صاغ "صناعة الهولوكوست"، بلغة نورمان فنكلشتاين ورفع مرة شعارًا ذميمًا: ادفع دولارًا تقتل عربيًا، كما لو كان قتل العرب من شيم الكِرام لبيض البشرة.

مرّ روائي أميركي على مرج بن عامر ولم يرَ شيئًا يتحرك، وكان كاذبًا، وافترض جندي فرنسي لامع أن على اليهود أن يعودوا إلى أرض أجدادهم في فلسطين وكان كاذبًا أيضًا. وعرفت فلسطين قنصلًا إنكليزيًا وعد أهلها بالحرية والنعمة وكان كذوبًا قاتلًا. واجه الفلسطينيون قبل النكبة، الروائي والإمبراطور والقنصل وخرجوا خاسرين. لا يزالون يواجهون ما واجهوا ويراهنون على "وعيهم" ومكر التاريخ.

طرحت غزة في زمننا الصعب سؤال: من أين تأتي القيم الصادقة؟ وأجابت: من الدفاع عن الكرامة والحرية.

وطرح نتنياهو وبايدن وماكرون وكاميرون سؤالًا: كيف تُهزم غزة وتُحمى إسرائيل من الإرهاب؟ أجابوا بالحديد والنار ومتواليات الكذب وتقتيل الأطفال واغتيال الحياة واستباحة الضعفاء... والعبث بالقيم القتيلة.

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.