}

"سماء القدس السابعة": تجديد الكتابة الروائية الفلسطينية

فيصل درّاج 22 أبريل 2024
آراء "سماء القدس السابعة": تجديد الكتابة الروائية الفلسطينية
أسامة العيسة وروايته "سماء القدس السابعة"

أشهرت جائزة البوكر العربية، هذا العام، روايتين فلسطينيتين تتسمان بالتميز: "قناع بلون السماء" لباسم خندقجي، و"سماء القدس السابعة" لأسامة العيسة(*).
واجه الأول سجنه الإسرائيلي الطويل بإبداع تكشّف في ثقافة رحبة وأسلوب غير تقليدي، وأنجز الثاني عملًا "هائلًا"، أكان بصفحاته (676 صفحة)، أم بجهد بحثي ــ استقصائي جدير بصفة الندرة، يضيف إلى تاريخ الرواية الفلسطينية شكلًا غير مألوف يطرح أسئلة كثيرة على الكتابة الروائية. لكأن العيسة، الذي قدم سابقًا عملًا استُقبل بحفاوة ("مجانين بيت لحم" ـ 2015)، شاء تجديده كتابيًا شاملًا ونجح في رهانه. انتهى إلى "موسوعة مقدسية"، أو إلى موسوعة عن القدس في حاضرها وماضيها، وأبوابها وقبورها ومساجدها وكنائسها وحواريها وشوارعها وعادات أهلها وشهدائها المتوالدين من عام النكبة إلى ما تلاه من أزمنة لا ينقصها الأنين الفلسطيني ولا النكبات الجاثمة والمحتملة...
أسهمت رواية جبرا إبراهيم جبرا "صراخ في ليل طويل" (القدس، 1946)، التي طبعت بعد النكبة، في تأسيس أول رواية جادة للفلسطينيين، أمدّه غسان كنفاني في "رجال في الشمس" بمنظور جديد عنوانه: "مأساة العار في زمن الفرار"، وعاد إميل حبيبي ووسّع مداه في: "مغامرات سعيد أبي النحس المتشائل" التي ارتكنت إلى سخرية سوداء بديعة الكلام. ومع أن الرواية الفلسطينية بدت مكتفية "بهذه العلامات الثلاث". أضاف إليها حسين البرغوثي، الذي غادرنا مبكرًا، روايتيه "نهار أزرق"، و"سأكون بين اللوز" ووضع فيهما نثرًا متألقًا لا نقف على نظيره في الرواية العربية إلا صدفة.
اقترح كلٌّ من غسان، وجبرا، وإميل، العناوين الكبرى للرواية الفلسطينية المسكونة بالتأسيّ والمقاومة والمنىفى والاغتراب، وبالثقافة الروائية والعمل في اللغة، وتأمل شفيف لمعنى الوجود والاستلاب. أكّد الأول الحرية والمقاومة، واحتفى جبرا ببطولة الثقافة، وذهب إميل إلى هُجنة مبدعة، ووقع على الرواية التي يشاء.
استوعب أسامة العيسة إبداع الذين سبقوه، وعالجه بوسائل فنية خاصة به، بدءًا من زمن بالغ القدم، مرورًا بالنكبة. فكفاح فدائي بدأ هادرًا، وانتهى إلى الكساد، كما لو كان على الفلسطينيين أن يحتملوا شقاء الذين احتلوا أرضهم، ولهم جنسيات متعددة، ومهازل قيادات مشبعة بأخطاء تتاخم الفضيحة. هيمن على نصه المكتنز، إن صح القول، صوت التاريخ، إذ للرومان دورهم، وللعرب العاربة والمستعربة نصيبها، وللسيد المسيح، وعمر بن الخطاب، وجهد الأمويين، وعبث الانتداب الإنكليزي الدامي أزمنتهم "المشظاة"، فليس للقدس تاريخ بصيغة المفرد، إنما لها أقدارها التي لا يسيطر عليها أحد. انطوى تاريخها على "احتلالات" متعاقبة، وعلى جسد فلسطيني لا يكفّ عن النزيف.




أجابت رواية "سماء القدس السابعة" على سؤالين: كيف تكتب رواية مدينة تصارع فيها، منذ أزمنة عدة، المقدّس والمدنّس؟ وكيف تجعل من القدس مجازًا تاريخيًا متعدد الوجوه والأطراف، يسرد كفاح الفلسطينيين من "ما قبل النكبة إلى ما بعد الحاضر"، ويفصح عن دلالات المتعدد والتسامح والإقصاء والاستبداد، كما لو كانت القدس مرآة للطبيعة الإنسانية، بصيغة الجمع، فالطبيعة الإنسانية المفردة أسطورة المخلوقات البريئة؟

القدس (Getty) 


كان نجيب محفوظ قد اتخذّ من مدينة القاهرة بطلًا روائيًا وزعه على أمكنة متجاورة الأزمنة: خان الخليلي، بين القصرين، والسكرية.... شخصن فيها أحوال مدينته في النصف الأول من القرن العشرين. ارتكن العيسة إلى قدس تاريخية متعددة الأديان والثقافات، واشتق تاريخها الطويل من الأحجارالمختلفة الألوان، والقبور المتواترة، والشوارع والحارات والكنائس والمساجد، وعادات البشر، وسطوة المحتل الصهيوني، وأحوال الفلسطيني الذي يرفض الهزيمة ولا يستطيع دحرها، وحياة الذي افتدوا مدينتهم المقدسة بدماء لا تعرف الجفاف.




بنى العيسة التاريخ المقدسي بمتواليات حكائية متعددة المراجع، فللحجر المقدسي ألوانه وتاريخه، وفضاء المدينة تتصادى فيه أصوات الفلسطينيين، واليهود، والأرمن، والأقباط، والمغاربة، والجيش البريطاني الذي سرق "أموال وذهب" الفلاحين خلال الثورة الكبرى في الثلاثينيات، و"أرزاق بدو بئر السبع" التي اغتصبها الجنود العثمانيون عندما دهموا مضارب البدو لتحصيل الضرائب... لكل موضوع وحَدَث وحديث حكايته، ولكل حكاية أخرى تضيئها، والمحصلة "منمنمات حكائية" تؤالف بين البشر والحجر وبين الحياة اليومية الراهنة ووقائع وطنية تمتد من زمن الأحلام إلى أزمنة الكوابيس. فالحكايات المتداخلة تعانق التاريخ وتقوم بتأويله وتنتهي إلى حزن مديد.
تأمل العيسة في منمنمات حكائية متوالدة مواضيع لا تقبل الاختزال، مراياها: أقدار القدس التي تأسىّ عليها السيد المسيح قبل أن يرى "أبناء الشهداء، أيتام الثورات المتتابعة في فلسطين"... والمأساة الفلسطينية الممثلّة بفلسطيني مهزوم يصارع هزيمة قوية البنيان، وبصهيوني تسيّد المكان لأسباب واضحة وغامضة. وهنا حكايات السجون والعشق والسياح الذين جذبهم عبق القدس، فتاهوا في جمالها الحزين.
في رواية "سماء القدس السابعة" ما يعلن عن بطولة المكان، الذي يضع البشر جانبًا، ويتابع حياة مضطربة، ويعلن أكثر عن تشاؤم الفلسطيني الذي كان مرتاحًا إلى مدينته، وغدا سجينًا بين جدرانها. تنشر نهايات فصول الرواية، وهي ستة وعشرون، ألوان التشاؤم المتعددة، كأن نقرأ في نهاية الفصل الأخير: "ما يزال سُلّم القدس الخشبي في مكان، ينظر من علٍ ويتعجب السّلم رمز الصعود، ليتحوّل لدينا إلى مهزلة تقهقر. فتعجَّبْ من مكانك القصيّ على حالنا. وحال أرضنا المقدسة...!"... "أحاول النوم، ولكنه كيف يجيء في مدينة العجائب؟ّ ص: 676"، أو أن نقرأ في بداية الفصل الواحد والعشرين: "في القدس ظهرت عائلات كثيرة تتوارث النبوّة. وفي يوم واحد قتل اليهود سبعين نبيًّا في القدس. ص227". كما نقرأ في الفصل "العشرون" صورة "اليأس المقاوم": إذا استمر التمدّد الأفقي للقبور، فإن القدس ستتحول كلها إلى مقبرة، وخصوصًا وأن هذه المقبرة تستقبل موتى يهود من مختلف أنحاء العالم..."، ويرتفع صوت الألم في جملة لاحقة: "ستذرف القدس الدموع مرات ومرّات، وكأنها ليست مدينة للسلام وإنما للقهر... القدس لم تُنه حسابها بعد مع الألم والدموع. ص: 111".
أدرج العيسة في عمله المتميّز المثير للدهشة إلى جانب حكاية القدس الكبيرة حكاية "صغرى" قوامها عائلة فلسطينية حسم مصيرها الموت قبل الأوان: الأب فدائي رحّله إلى العالم الآخر شقاؤه الممتد، والأم خنقتها هموم الحياة، والجار الذي خذله العمل الوطني وسقط في "العِنّة" وأكمله بالانتحار، وابن لقيط الذاكرة يحفظ ما يعيش يتلو على ابنه القادم آيات من جمال القدس ومصير الأبطال الخائبين. الذاكرة، لا التذكّر، هوية فلسطينية، فالذاكرة الصحيحة فعل وطني منفتح على المستقبل، والتذكّر "قراءة الفاتحة" على ما كان جميلًا وذهب. واءم الروائي المتميّز بين الحكاية المجاز والحكاية المباشرة ورسم القدس في أزمنتها المختلفة.
نقد العيسة في كتابته الوطنية المبدعة وجوه التخلّف الاجتماعي التي تستولد الهزيمة، بدءًا "بشيخ" يعهد بأحوال البشر إلى إيمان مجهول الهوية وصولًا إلى تربية ذكورية تختصر المرأة في شيء رخيص الثمن. احتفى بجغرافيا القدس، أمكنة وبشرًا وتاريخًا، مصرّحًا: أن الكتابة المبدعة فعل وطني مضيء، وأن الروائي النبيه الذاكرة يستدرك ما ينساه تجاّر السياسة وصغار الكتبة. من المحقق أن رواية العيسة عمل بارز الريادة والتجديد، وبداية كبيرة لرواية فلسطينية مختلفة، رواية واسعة المعرفة متقنة الكتابة توجع القلب وتحتفل بالذاكرة المقاومة، تبدأ من المعيش وتنتهي إليه، فلا أحد يتجوّل بصيرًا بين عيون القدس ومسامها إلا فلسطيني أدمن التجوال في مدينة عشقها. إنه الشغف الذي يحفظ صاحيًا تفاصيل الحياة، ويؤثّث الرواية الوطنية بالمعرفة والبصيرة. لكأن رواية العيسة دليل إلى ما كان مقدسيًا ولا يزال، وصوت مقاتل يحترم الشهداء، ويرجم "فدائيين زائفين" تحرّروا من حمل السلاح وانجذبوا إلى الملاهي، كما جاء في فصل من هذه الرواية. وإذ كان اللسان الإنكليزي يقول: "شاهد لندن ومُتْ"، فإن لسان أسامة يقول: "اعشق القدس تكتب لك النجاة". لذلك أوغل في وصف ملامح وجهها المرئي وتفاصيل وجوهها المحتجبة.
و"سماء القدس السابعة" مرآة تاريخ وذاكرة ومدينة ورواية مختلفة الأقلام وشعبٌ وثقافة وحيوات متعددة المآلات، ومرآة كتابة متقنة تعلمت من غيرها، وتعلِّم غيرها، وتبقى عصيةٌ على المحاكاة.


(*) "سماء القدس السابعة"، منشورات المتوسط، أواخر 2023، 676 صفحة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.