}

غزة: الاستباحة والتخلّي والتواطؤ المربح

فيصل درّاج 23 فبراير 2024
آراء غزة: الاستباحة والتخلّي والتواطؤ المربح
الفلسطينيون اختبروا حدود الخير والشر منذ عام النكبة (Getty)
يتداول البشر قولًا مألوفًا يوحي بالأمان: لا جديد تحت الشمس على اعتبار أن الطبيعة البشرية أسفرت عن خيرها وشرها بلا نقصان، وأن ما تُمكن إضافته يتاخم الاستحالة. والقول فاسد وكامل الفساد منذ أن ضربت الولايات المتحدة هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة الذرية التي اقترح وزير الصحة الإسرائيلي، مؤخرًا، أن تضرب بها غزة.
من المفترض أن الفلسطينيين اختبروا حدود الخير والشر منذ عام النكبة، وعرفوا اغتصاب الأرض ونقل القرى من سطح الأرض إلى باطنها والمجازر الجزئية والواسعة، تعرّفوا على عنف المنافي وبؤس المخيمات و"تهافت اللغة العربية"، التي تقول ما تشاء ولا تُلزم أحدًا بما تقول.
لكنه يبدو، بعيدًا عن "لا جديد تحت الشمس"، أن عنف النكبة في ألوانها المختلفة ترك متسعًا لعنف لاحق أشد سوادًا وأوسع غرابة هو العنف الجهنمي الواقع على قطاع غزة منذ شهور، الذي يسخر من "تقدم التاريخ" والقيم السماوية واجتهاد عقلاء البشر القائلين "بحقوق الإنسان"، تلك الحقوق التي تُطلق الرصاص أو يُطلِق عليها الرصاص. لكأن العنف الصهيوني المطلق السراح شاء مع مؤيديه وضع بداية جديدة للشر الإنساني وصوْغ شعارات تنفع الأشرار وتتحدث "بلغات متحضرّة".
التقطت إعلامية من الغرب، فرنسية على الأرجح، صوت بنيامين نتنياهو وهو يتوجّه إلى مستشاريه الأشاوس: يجب أن نضرب الفلسطينيين بكل عنف ممكن، أن نرهبهم ونروّعهم وأن نكسر أرواحهم إلى أن يختاروا بين أمرين: الانتحار أو الرحيل. ولأن هؤلاء الفلسطينيين الصامدين لا يلبّون أهداف نتنياهو ويضربهم بدمار شامل مرتكنًا على القصف والتدمير والحريق وترميد المدارس والمساجد والكنائس ومصادرة الماء والدواء والهواء دون أن يستعير من تاريخ "الهولوكوست" شيئًا لأن ما قام، ويقوم به يتجاوز كثيرًا ما قام به النازيون... إنه يمارس الإبادة الجماعية وحصد الأطفال وتسميم الذين لم يولدوا بعد، والانتقام من الأرض والعجائز والجدران التي لم تسقط وتكسير أقلام الحبر والرصاص وإطلاق القذائف على الكتب المدرسية وعيون الشهداء والمقابر الصامتة.
وقد ينظر الفلسطيني المضطهد بأشكال كثيرة، إلى نتنياهو ويرى فيه عنصريًا قاتلًا، كما لو كان قد تأبلس وغادر مملكة البشر.... لكن النظر يرتدُ حسيرًا حين يقرأ الفلسطيني الخبر التالي: مجلس الشيوخ الأميركي يقترب من إقرار مساعدة إسرائيل وأوكرانيا... وإذا كان دعم الأخيرة بداهة في مواجهة روسيا بوتين، فما الداعي إلى زيادة المساعدة الأميركية لإسرائيل؟ والأرجح أن بايدن يكره بدوره الأطفال الفلسطينيين ويضيره أن بعضًا من أهل غزة لا يزال يمشي على الأرض وأن "مآذن قليلة في غزة" لا تزال واقفة. ولهذا، واستمرارًا لنفاق قديم، ينصح صديقه العنصري أن "يخففّ من استعمال القوة المفرطة".




وهو في هذا لا يغاير موقف "الحزبين الكبيرين في بلاد وعد بلفور"، اللذين جازفا بشعبيتهما أرضاء لشعب الله المختار وطبّقا على غزة ما طبّقاه على "حرب العراق"، التي أحوجت منافقًا إنكليزيًا "يدعى بلير" إلى "الاعتذار من الشعب العراقي" عن حرب فنت خمسة ملايين في انتظار أن يعتذر مواطنه "كاميرون" من ركام البيوت في غزة...
وواقع الأمر أن الجمهوري الأميركي بايدن والقائد "العمالي" الإنكليزي أنطوني بلير والاشتراكي الفرنسي "أولاند" يتقاسمون مع الصهيوني نتنياهو مبدأ: "الاحتلال الاستيطاني الكامل"، فلأميركا "بطولاتها" ضد الهنود الحمر، وكان للطائرات الإنكليزية دورها في قصف ثورة فلسطين 1936 ـ 1939، بل إن الإنجليز كانوا سبّاقين في استعمال "البراميل المتفجّرة" في ضرب القرى الفلسطينية، ولفرنسا تاريخها الحافل في تقتيل العرب في الجزائر وتونس والمغرب وسورية وغيرها من الشعوب.
بعد مظاهرات حاشدة في باريس احتجاجًا على الإبادة الجماعية في غزة صرّح "أولاند" ـ الزعيم الاشتراكي ورئيس فرنسا الأسبق: "أنا ضد القتل، لكن علينا أن نميّز بين القتلى الفلسطينيين والضحايا الإسرائيليين، فهؤلاء القتلى جزء من معركة عسكرية بينما الإسرائيليون يدافعون عن أنفسهم. أكثر من ذلك إننا  نتقاسم معهم ثقافة واحدة"... ولكن ما هي هذه الثقافة التي يتقاسمها "الاشتراكيون الفرنسيون" و"الصهاينة"؟ إنها ثقافة القتل العنصرية، فقد بذل دعاة "الأممية الثانية" جهودًا جبارة، بعد الحرب العالمية الثانية، في دعم الصهيونية وولادة دولة إسرائيل، تزعمها آنذاك فرنسوا ميتران وردّ عليها المستشرق مكسيم رودنسون. والطريف في الأمر أن الزعيم الاشتراكي ميتران حين كان رئيسًا للجمهورية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي اجتمع بالراحل عرفات وتحدث عن "حل إنساني للقضية الفلسطينية"، خلافًا "لخليفته" أولاند الذي برّر مجازر أهل غزة الجماعية بانتمائهم إلى "ثقافة أخرى" وافتراقهم تاليًا عن الحضارة الأوروبية السوية!
الثقافة السويّة المقبولة "حضاريًا" هي: ثقافة الموت العنصرية التي تعود، وراء، إلى عصر التنوير الأوروبي، الذي فصل بين الإنسان الأوروبي و"البشر الذين هناك" بلغة معظم التنويريين الأوروبيين باستثناء جان جاك روسو وكارل ماركس. فالأوروبي له حقوق إنسانية معترف بها، بينما "إنسان الهناك" كيان مستباح، حال أهل غزة، ما يجعل من نتنياهو"تنويريًا أوروبيًا قديمًا" يدعم "إنسان الهنا" ويدمر "إنسان الهناك". إنها ثقافة الاستباحة المميتة التي تضع غزة خارج نطاق البشر وتُخضع أرضها لتجريب الأسلحة المختلفة.
قتل جندي إسرائيلي فتاة من غزة عمرها اثني عشر عامًا، ثم قال: إنني حزين... وسبب حزنه "تنويري" يثير الاحتقار قال: كنت أرغب أن تكون القتيلة أصغر عمرًا على اعتبار أن التنوير الصهيوني يفضّل قتل الأطفال الفلسطينيين الذين يقودهم بايدن وبلير وأولاند وغيرهم من أنصار "حقوق الإنسان".
الإنسان الفلسطيني في غزة فائض عن الحاجة، متوحش الثقافة، لا مكان له في "أيديولوجيا الغرب الرسمية"، له مكانه المستريح في أيديولوجيا الاستباحة المتوحشة التي تعود إلى الشهير هيجل الذي فصل بين الفكر الشرقي والفكر الغربي، إذ الأول "فقاعة من أذى تعالج بالسلاح" بينما الثاني يجمع بين علم المنطق وتعاليم هرتسل...
ثقافة أوروبا العنصرية، في شكلها السلطوي، تعطف الوجود الفلسطيني في غزة على الاستباحة الدامية، وقد تجد أنصارًا في نطاق "ثقافة القربى" حيث نجد صحافيًا ومفكرًا وروائيًا أيضًا يتأسى على مقتل إسرائيلي في الاسكندرية، برصاص مصري، ويرى في ممارسات حماس جريمة لا تغتفر، فهذا الكاتب، الذي يتلفع برداء "العلمانية" يستنكر بعنف "عقلاني" الاعتداء على الأبرياء ويغضُ البصر عن الدم الفلسطيني المسفوح، بسبب وبلا سبب، يطرد أطفال غزة من "عالم البراءة". وهو مع غيره، يوسّع فضاء الاستباحة الدامية بفضاء "التخلّي"، كما لو كان العربي الذي يثرثر بلا تعب عن العقلانية والعلمانية لا يدافع عن غزة إلا بشرط أساسي: القتال النظيف والحفاظ على البراءة. يواجه الفلسطيني، أغزوايًا كان أو اقتلع من صفد في الجليل، شكلين لا متكافئين من العقاب: الاستباحة القاتلة والتخلّي الآسيف، قبل أن يضاف إليهما التواطؤ المربح.

يواجه أهل غزة الاستباحة والتخلّي والتواطؤ (Getty)

يعقُب الاستباحة التخلي ويأتي بعدهما: التواطؤ، حيث لا يمكن "اللجوء" من غزة إلى "مكان عربي أمين" إلا بقدر معلوم من "الدولارات" متفق عليه وتوسّط "عروبي" ماسخ اللون والطعم معًا. شكل جديد من استثمار الوجع الفلسطيني، فبعد ثقافة الأدعية و"النصائح الأخوية" يأتي: الإتّجار. في زمن مضى كان يقال: ادفع دولارًا تقتل عربيًا، وكان القول صهيونيًا. جاء تحوّل الأزمنة ببلاغة أخرى: ساعد غزاويًا على اتقاء الموت واربح كيسًا من الدولارات. والقول هذه المرة بلغة عربية فصيحة.
من حسن الحظ أن الفلسطينيين المجبرين على إتقاء الموت قلائل، وأن تجار المصائب من العرب قلائل أيضًا، وأن نفوسًا عربية تدعم الفلسطينيين وتنصرهم، وتذرف الدعم على دمائهم وتقاتل من أجلهم وتطلق النيران على أكثر من موقع صهيوني وتجازف بأمنها نصرة لهم...
يواجه أهل غزة الاستباحة والتخلّي والتواطؤ، ويستأنفون بطولة البقاء من النكبة الأولى إلى النكبات المستجدة ويعرفون أن الاستسلام موت، وأن الصمت موت، وأن تصديق العروبة الزائفة موت أخير. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.