}

الديجيتال: هل هو فن المستقبل؟

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 4 يناير 2024
هنا/الآن الديجيتال: هل هو فن المستقبل؟
عملان بالفن الرقمي حول غزة للفنان إيهاب محمد (خاص)
خدمت التكنولوجيا، متنوعة الأغراض والأهداف، جوهر الحياة المعاصرة منذ نهايات القرن السابع عشر تقريبًا، عبر تصنيع الآلة وسواها مما كان يضيف إلى الحياة العملية ما يساعد على مستجدات الحياة وابتكاراتها الصناعية. وعبر ثلاثة قرون تغيرت المعالم اليومية والحياتية، عندما أوجدت التكنولوجيا مساحة كافية للابتكارات والإبداعات في شتى المنافذ. ومنها الفنون والآداب بأنواعها البَصَرية والمرئية والكتابية، وهذا ما نعيشه اليوم بتفاصيل حثيثة بانتظار ما يستجد عليها من تقويم ومعالجات وإضافات.

وليس الفن التشكيلي غريبًا على البشرية منذ عصر الكهوف الأول حتى اليوم. لكن حدث، بتطور نوعي يناسب حياة ما بعد الحداثة في تجلياتها الكثيرة، أن امتزج الفن بالتكنولوجيا مستفيدًا - أخيرًا- من معطياتها الرقمية والإلكترونية والخيالية، فلم تعد الفرشاة واللون وقماشة اللوحة كافية لتوطيد صلتها بالصورة البَصرية والحساسية التي تدربت ذائقتها على رائحة الزيوت وأنواع الأقمشة ومسوحات الفرشاة، بل انتقلت إلى فضاءات إلكترونية لا بد منها لغرض استحداث موجات وصدمات جمالية، تعزز من وجودها الجديد، وتغيّر من ذائقة المتلقي، بوصفه مشاركًا في عملية الجمال والتجميل أيضًا. وبالتالي فإن حاسة الشم والنظر واللمس اختلفت عن سابقتها كثيرًا، عندما أظهرت الشاشة الكومبيوترية مزاجًا فنيًا يكاد يكون غريبًا عن الزيت والفرشاة والقماشة. لكنه حاصل بالنتيجة عبر برامج كثيرة إلكترونية متطورة.

الفن الكومبيوتري أو الفن الرقمي في وسائطه المتعددة، ليس جديدًا على الحياة العلمية والتكنولوجية، فعمره أكثر من نصف قرن، لكن إشهاراته انتشرت مع شيوع الحواسيب والبرامج المخصصة لتطويع الفن إلى وجود رقمي باستخدام التكنولوجيا، لخلق خيالٍ موازٍ إلى خيال اللوحة الزيتية، والتخلص من أعباء كثيرة، ليس أقلها الأعباء التحضيرية والاستعدادات الخاصة لتكوين خيال اللوحة، بما في ذلك الأعباء المالية التي تقتضي الحصول على المواد الأولية للرسم. وبالتالي فمثل هذا الفن يُعد قديمًا نسبيًا قياسًا إلى زمن انتشاره الحالي بخوارزمياته التصميمية في الإعلانات والمشاريع العمرانية الهندسية والتسويقية وفي أفلام الرسوم المتحركة وأفلام الكبار التي وظفت هذه الطاقة العلمية في إنشاء خيال موازٍ لحقيقة مضامينها. ومن ثم في الرسم التشكيلي الذي أنشأ من خلال الرقميات لوحات ساطعة بألوانها التزيينية وأهدافها الجمالية.

أبسط الأمثلة الموازية للحقيقة الواقعية هو الفيلم الشهير "تايتانيك" الذي وُظّفت فيه إمكانيات الفن الإلكتروني بطريقة مرنة وإبداعية رائعة بالمؤثرات الحركية الصوتية والبَصرية، التي طابقت الواقعة التايتانيكية إلى حد كبير. لهذا كان تسويقه عاليًا بالمشاهدة العالمية وقتها، وما يزال أبرز الأفلام الرومانسية لكن بصناعة تكنولوجيا الفن الرقمي، فاختراق الواقع بهذه التكنولوجيا المرنة والخيالية، هو هندسة الواقع عبر برامج الفن الرقمي الراقي وإعادة خلقه ثانية. وهندسة مضامينه الصورية، على أن لا يكون هذا بديلًا عن فن الرسم الأصيل، لكن يمكن عدّهُ إضافة شكلية إليه، ما دامت تكنولوجيا الإلكترونيات توفر أكثر من منفذ له، وأكثر من صيغة جمالية. وإذا وضعناه بحساب الجماليات، فإنه يخترق منظومة الواقع المباشر، ويتجلّى في آفاق أكثر خيالًا في اللون والتصميم والمعالجة المستمرة للّوحة حتى تأخذ شكلها الأخير.

وُظّفت في "تايتانيك" إمكانيات الفن الإلكتروني بطريقة مرنة وإبداعية رائعة بالمؤثرات الحركية الصوتية والبَصرية


كثير من الفنانين ومخرجي الأفلام، من الذين ظهروا مع الموجة الإلكترونية المفاجئة، استهوتهم البرمجيات المرنة التي أتاحت لهم الإبداع في إنشاء لوحات مناسبة تنسجم مع برامج رقمية معينة كالراستور والفكتور لتوفّر الغطاء المريح بخلق بورتريه، أو لوحة، أو إنشاء علاقة جمالية من رصيد صور ولوحات وبورتريهات شائعة أو غير شائعة، لخلق وإبداع عالم يتكامل إلى حد كبير مع واقعة الصور والبورتريهات، ولكن بإعادة تكوين فن خوارزمي، يتشكل مع اللوحة المنتقاة، لإعادة رسم لوحة جديدة بألوان ممكن التحكم فيها على نحو يتيح لفنان الديجيتال أن يبدع في تأثيث ما يرسمه، بألوان عشوائية ذات ديكورات جاذبة، أو واقعية تعيد إنتاج الطبيعة مثلما هي، وهذه أسلوبية تتبع طريقته في تكوين الأثر الجمالي والحسي، برسم الفكتور الذي ينظّم اللوحة مهما كانت درجة التكبير لها، او يميل إلى الرسم ذي البُعدين الثنائي والثلاثي بوظيفتيهما التطورية التي تمنح الرسمة واقعًا بَصَريًّا متميزًا. وقد يكون في التشكيل الجديد إدهاشًا مرنًا، لتحويل الصورة إلى غير ما هي عليه، أو صناعة فيلم يعتمد على هذه البرمجيات الحاسوبية الدقيقة، لإظهار واقع محايث للواقع الأصلي لكن بصورة أكثر تجسيمًا ووضوحًا، في خدع جمالية لا تفترق عن الواقع إلا بمقدار ما هو واقع أساسي، يحاذيه واقع لا نقول افتراضي، لكنه هكذا بنسخة مطابقة، قد تتفوق عليه جماليًا في بعض الأحيان، تبعًا لمهارة المخرج ومساعديه الفنيين في تشييء الموضوعة إلى جزئيات فاعلة لأغراض ضبط التقنيات ورصد الواقع من تلك الأجزاء الصغيرة.

يبدو مثل هذا التشكيل الرسْمي كما لو أنه تصميم على اختيار من الطبيعة بالمعنى الواقعي، لهذا فإن ما يعزز جمالياته هو إدخال عنصر الخيال عليه، بمنحه بعض العناصر التكميلية، ذات المؤثرات الموازية للطبيعة بالمعنى التعبيري، كإنشاء كتل ضوئية، أو صناعة خلفيات من الطبيعة، أو مزج الخلفيات الصورية بالكثير من الضوء أو الألوان البرّاقة، وهو ما تتيحه الخوارزميات المؤسسة للتشكيل المختلف، وما ينبغي أن نُظهره عند فناني الديجيتال الذين يرسمون بطريقة (الحافر على الحافر) لكن ليس نقلًا صوريًا، بل براعة في استكمال التقنية الرسمية على وفق ما تنتجه خوارزميات الإلكترونيات من أشكال تجتذب الأنظار بسطوعها المباشر. فالفن الرقمي ابتكار صناعي- إلكتروني- إبداعي بأدوات ليست مادية، كالفرشاة واللون، إنما يعتمد الخيال أيضًا في طريقة إيصال أفكاره من خلال البرامج المخصصة لهذه الفكرة الإلكترونية، بما فيها من أدوات علمية وهندسية ورسمية وخلفيات متعددة الأشكال والحجوم، ليساهم في إنتاج فني آخر، يعتمد فكرة التطوير المتعارف عليه في الرسم الفني والأكاديمي.

ليست الطبيعة وحدها مثار خيال الفنان الرقمي، إنما كل ما يتعلق بالوجود اليومي هو ما يشغله ويلهمه، ويمرر له خيال الرسم بطريقة ذكية، كالصراعات السياسية التي تتحول إلى كاريكاتور رقمي، والنزاعات الإقليمية وما فيها من مفارقات، والحروب العبثية التي تنال من الإنسان ومادياته الثمينة، والوجوه السياسية والاجتماعية والأدبية والفكرية المعروفة لها حصتها من الوجود الرقمي، المتكون من لمسات فرشاة إلكترونية ومؤثرات بصرية، وتتقدم مثل هذه الفنون الجمالية المرأة والطبيعة، بوصفهما الجمالي الاستثنائي.

سنلاحظ أوجه التشابه بين الفنان التشكيلي في مرسمه، إذ يعتمد اللوحة والألوان والفرشاة والسكاكين الصغيرة والمماحي والأقمشة السميكة، وبين فنان الديجيتال الذي يعتمد على الإلكترونيات، بما فيها من لوحات رقمية، وفرشاة، وممحاة، وأصباغ، وتصحيحات. الأمر الذي يكوّن انطباعًا بأن نوعين من الفن يرتقيان إلى مستوى الإبداع في تصميم اللوحة، وإخراجها بأسلوب فني.

لكن بقي أن نتساءل: بما أنه قد ظهرت مدارس فنية وصيحات وبيانات عالمية في الفن التشكيلي على مدار التطور الفني منذ القرن السابع عشر، أو حتى ما قبله وحتى اليوم، فهل سنشهد بيانات وصيحات ومدارس في الفن الرقمي، بوصفه إبداعًا...؟

إضافات معرفية:

  • عام 1950 صنع الأميركي بن لوبوسكي أول لوحة فن رقمي اسمها "اوسيلون" Oscillon.
  • عام 1958 استخدم السير جون هويتني الكومبيوتر التوافقي في صنع فيلم إيحائي Animation.
  • عام 1963 صنع إدوارد زاييك أول فيلم بواسطة الكومبيوتر.
  • عام 1974 فاز فيلم " شريط الجوع" وهو من الأفلام الإيحائية بجائزة السينما في مهرجان كان.
  • عام 1980 ظهر أول برنامج رسم على الكومبيوتر.
  • عام 1986 صنع أول برنامج "فوتو شوب" ليلائم احتياجات أفلام "حرب النجوم".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.