}

"قصائد تتوشّح الكوفيّة": رسائل وفاء من وَجدة إلى غزة

عمر شبانة 20 فبراير 2024

تستوقفنا مبادرة "شعراء وَجدة"، المبادرة المتجسّدة بين أيدينا في كتاب "قصائد تتوشّح الكوفيّة"، (وهي نتاج "مهرجان طوفان الأقصى 2023"، الذي نظَّمته جمعية النبراس للثقافة والتنمية بوجدة، تحت شعار: "عيوننا إليكِ ترحل كل يوم" يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وسوف يصدر الكتاب قريبًا)،  لما تحمل من دلالات في تعبيرها عمّا يمكن "فعله" ثقافيًّا وإبداعيًّا حيال ما يجري في غزّة وفلسطين من أشكال الإبادة البشرية، على أيدي قوى عدّة، من الإمبرياليّة والصّهيونية، وبعض القوى المتصهينة، في جهة، ومن مقاومة في جهة مقابلة.

وتحيلنا هذه المبادرة، بصورة ما، إلى أسئلة عدّة عن دور الشعر والشاعر، ودور المثقّف عمومًا، في الحرب والمقاومة. كيف يمكن أن يكون متفاعلًا شعريًّا، ولكن بأقلّ قدر من الانفعالات العابرة، بحيث يلتقط ويعبّر عمّا هو جوهريّ في الحالة التي يعيشها، وليس مجرّد الوقائع الظاهرة للعيان التي يستطيع أي شخص التقاطها ونقلها والتعبير عنها أو تصويرها؟!

فإذا كان الجميع ممّن يعيشون هذا الواقع الشرس، قابلين للانفعال به، وراغبين في التعبير عنه على مستويات مختلفة، شكلًا ومضمونًا، فإن ما تستطيع الصحافة- مثلًا- نقله والتعبير عنه بأدواتها، وما تقدّمه فعلًا من صور صادمة ومروّعة، ليس هو ما ينبغي للشاعر أن "يقوله" ويعبّر عنه في القصيدة عبر أدوات الشعر الخاصّة، من صور ولغة استعاريّة ومجازيّة تختلف تمامًا عن أيّ لغة أخرى. وحتى في الشعر نفسه أيضًا، تختلف مستويات الموازنة بين الرغبة في التعبير، وإمكانية اجتراح جماليّات جديدة.

من التعاطف إلى الانخراط

وفيما نحن نطالع "قصائد تتوشّح الكوفيّة"، نستطيع تفهّم "المباشرة" في بعض القصائد، واستيعاب الظروف التي كتب فيها بعض الشعراء نصوصهم وقصائدهم، لما تنطوي عليه من سموّ التعاطف، بل ما يفيض عن مجرّد التعاطف، ويرقى للانخراط في القضيّة. الانخراط الذي يبرز منذ المقدّمة والتقديم، ويزداد وضوحًا في النصوص. من هنا- ربّما- تأتي أهميّة مبادرة شعراء "قصائد تتوشّح الكوفيّة"، التي يمكن اعتبارها تلك الشمعة في المثل الشائع "أن تشعل شمعةً، خيرٌ ألفَ مرّة من أن تلعن الظلام"، وهؤلاء أشقّاؤنا الشعراء من مدينة "وَجدة" المغربيّة يجترحون مبادرتهم ويضيئون هذه الشمعة.

المبادرة تشتمل على مشاركات من عشرة شعراء، وقصائدهم: حسـن الأمرانـي بقصيدته "نـسـج الطـوفـان"، محمـد علـي الربـاوي "السِّـلاح"، محمـد فريـد الرياحـي "العروبـة المنسيـة"، البتـول محجوبـي "مَرثيةٌ ليوسـفَ الغَـزِّي"، دنيـا الشـدادي "لـجـرح مـريـم أغـنّـي"، الزبيـر خيـاط "بطاقـة حـب لمحمـود درويـش"، الطـاهر حساينـي "الرهـاب العـامّ"، الطيـب هلـو"قافلـة الشهـداء"، بـوعلام دخيسـي "لـم أصالـحْ"، سعيـد عبيـد "السبـت، أو فرحـةٌ بيـن يَـديْ سيِّـدة الكرامـة".

ولكلّ قصيدة من قصائد هؤلاء الشعراء شكلُها، إذ تتنوّع القصائد ما بين الأوزان الخليلية في قصيدة الشطرتين، وقصيدة التفعيلة، فضلًا عن التنوّع على مستوى المصادر التي يستلهمها الشاعر، سواء أكانت تراثية أم تاريخية، وحتّى توراتية، لكنّها في الأساس تتكئ على ما تنتجه الوقائع من مشاعر وانفعالات، ومن صور ومشاهد مروّعة في يوميّات هذه الحرب، خصوصًا صورة أمّ الشهيد، وصور الأطفال والأبرياء، وغير ذلك من ويلات الحرب.  

مع أبرز رموز المقاومة

"قصائد تتوشّح الكوفية" تأتي بصفتها "رسائل وفاء من وَجدة إلى طوفان الأقصى" (ديوان جماعيّ)، وتأتي لتعيد تذكيرنا بدور المثقف والمبدع في المعركة.
ففي المقدّمة التي كتبها الشاعر سعيد عبيد، وهو مشارك بقصيدة في الكتاب، يقول "إن طوفان الأقصى"، من جهة، و"ما تلاه من مجازر صهيونية انتقامية عمياء رهيبة في حقّ المدنيين من أهالي غزة"، من جهة مقابلة، قد أسقطا "ورقةَ التوتِ عن بعضِ (المثقفين) ممن تساقط على جنبات طريقِ الرغبة أو الرهبة أو الأحقاد الفرنكوصهيونية"، وفي إشارة إلى ما يمثّله هذا الكتاب يقول "إن هذه اللحظة المفصلية التاريخية الحاسمة في مسير القضية الفلسطينية قد أبرزت – بالمقابل – الوفاءَ المبدئيّ الصادق من لدن فئة عريضة من المثقفين العضويّين والأدباء والفنانين والرياضيين وعموم الجماهير".

في المقدّمة التي كتبها الشاعر سعيد عبيد، يقول: إن "طوفان الأقصى" وما تلاه من مجازر صهيونية انتقامية عمياء رهيبة قد أسقطا "ورقةَ التوتِ" عن بعضِ "المثقفين"


ويتوقف عبيد إزاء علاقة المغرب بقضية فلسطين، فيؤكد عمق العلاقة عبر تاريخ الأدب العربي بالمغرب الأقصى: "منذ الرواد الأوائل لانبعاث الشعر الحديث إبان الاحتلال الفرنسي، ومنذ احتفاء عبد الله كنون بثورة القسام عام 1936 في قصيدتَي "رثاء بلفور" و"عربي حرّ"، إلى ربط كل من أمثال علال الفاسي ومحمد الحلوي ومحمد العربي الآسفي ومحمد بن إبراهيم، ثم عبد الكريم بن ثابت ومحمد علي الهواري ومصطفى المعداوي وغيرِهم، القضيةَ الوطنية (المغربيّة) بالقضية الفلسطينية، دون أن تَحجُبهم همومُ قضية الاستقلال المُلحَّة هنا عن هموم فلسطين هناك". وهو يعتقد أنها بحسب علمه "أول تظاهرة شعرية على الصعيد الوطني بعد طوفان الأقصى، مما يعطيها شرفَ المبادرة والسبق. وإن القارئ لواجدٌ في هذا الديوان أجيالًا شعرية متعددة من شعراء مدينة وجدة، وأشكالا ورؤى فنية مختلفة، لكنها كلها متحدةٌ مجتمعةٌ على قضية واحدة، هي قضية فلسطين المركزية".

ونحن هنا، إذ نكتب عن "القصائد" التي تتوشّح بالكوفيّة، بصفة هذه الكوفيّة رمزًا من أبرز وأوضح رموز المقاومة، ندرك أنّنا لا نتحدّث عن شعر يمكن تسميته "الشعر الصافي"، أو "الشعر الخالص لوَجه الشعر"، تمامًا، فهو لا يملك ترف هذا الشعر في ظروف الموت الذي يحاصر الجميع، لذا فنحن حيال ألوان "قوس قزح الشعريّ" بأطيافه المتعدّدة والمختلفة. لكنّ ما يجمع نصوص هذا الكتاب، هو- في الأساس- إخلاصها لقضيّة ذات أبعاد وطنية وقوميّة، ولا يغيب عنها البعد الديني والعقَديّ، فضلًا عن حضور بارز للبعد الإنسانيّ، وهو ما يمكن اعتباره أمرًا طبيعيًّا في ظل احتدام المعارك وجيَشان المشاعر، حيث يغدو الشاعر والشعر في "وظيفة" تخدم هذه الأبعاد كلّها، وهو ما يرى البعض أنه دور للشعر وما يمكن أن يقدمه في ظروف كهذه.    

نصوص هذا الكتاب مختلفة في الكثير من العناصر، في الأسلوب والمفردات والأدوات والمرجعيّات، وفي درجة الارتباط بما يحدث، ولكنها تلتقي في محاولة التعبير عن غضبها تجاه ما يجري. ففي ظروف كهذه يصعب على الشاعر أن يكتب ويعبّر بقدر عالٍ من الصفاء، أو الإخلاص للشعر على حساب "الوقائع" الدموية. فنحن أمام ظروف لا يمكن معها التفكير بالشعر بعيدًا عن الواقع، خصوصًا هذا الواقع شديد الدموية والقسوة بحقّ الإنسان الفلسطينيّ. 

حصار بيروت ودور المثقف

هذا الأمر يذكّرنا بما عاشه وقام به مثقفون ومبدعون فلسطينيون ولبنانيون وعرب، في أثناء حصار بيروت عام 1982، حين قامت قوات جيش العدو الصهيونيّ بمحاصرة بيروت، طوال اثنين وثمانين يومًا، وعملت على تدميرها بصورة وحشيّة، فما كان على هؤلاء المبدعين سوى التفرّغ لمشاريع مقاومة بوسائل وأدوات غير الشعر، فالتحق بعضهم بالإذاعة، وشكّل بعضهم ورشة صحافيّة أصدروا من خلالها نشرة "المعركة" التي كانت توزّع على المقاتلين في الخنادق، كما استمرّ الشاعر المعروف علي فودة يوزّع مجلة "الرصيف"، وظلّ يوزّعها تحت القصف حتى استشهد.

في هذا السياق كتب الشاعر أمجد ناصر، من قلب الحصار، فصولًا من كتابه "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد: يوميّات من حصار 1982"، ولم يصدر الكتاب إلّا بعد سنوات من الخروج من بيروت، ولم يكن كتابًا شعريًّا، بل كان حول بيروت والحرب والشعر، حيث كتب عما يجول في خلد كثيرين، خصوصًا الذين انتقدوا مثلا غياب درويش عن المشهد الثقافي أثناء الحصار، وتساءلوا وبينهم أمجد ناصر نفسه، أين هو شاعر الثورة ولماذا يسكت... وسيكتشف أمجد ناصر لاحقًا أنه هو أيضًا غير قادر على إبداع الشعر المتوخّى منه، وأنه يشارك درويش في نظرته لحالة عدم القدرة على كتابة الشعر في أوج الحصار.

يقول ناصر في يوميّة 30  تموز/ يوليو: "فوجئت اليوم بمقال لمحمود درويش عن الشعر. الغريب أن هذا هو فهمي للشعر، بل هذا ما حصل معي حيث لا أستطيع الكتابة تحت الضغط، ولا في صلب الحدث الجاري. أحتاج إلى فسحة كي أكتب... وجه الغرابة في الموضوع أن درويش شاعر مقاومة، بل هو شاعر الثورة الفلسطينية، وقد سجل في شعره مراحل من النضال الفلسطيني... ولكنه غير قادر على كتابة الشعر في ظل الحصار. هذا ما يقوله بطريقة غير مباشرة وكأنه يردّ على منتقديه حول غيابه عن الأحداث".

ما جرى في حصار بيروت في صيف عام 1982 من اجتراح وسائل للمقاومة، شارك فيها مثقفون ومبدعون من العالم، يحيلنا على ما يجري اليوم في غزّة خصوصًا، وفي فلسطين عمومًا، وفي المنطقة والعالم بصورة أكثر تعميمًا. فرغم كل الدم والدمار المعروض على شاشات العالم، وأمام أنظار مليارات البشر، تكاد تغيب "مشاريع" المثقفين لمقاومة ما يجري، ويغيب الدور الفاعل للمثقف والمبدع العربي والعالمي، باستثناء كتابات فردية في الصحافة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وهي مساهمات ضئيلة الفاعلية والتأثير.

(*) لوحة غلاف كتاب "قصائد تتوشّح الكوفيّة" للفنان نصر الدين بوشقيف، وتصميم الغلاف للفنان محمد الحزومري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.