}

بين الشعر والسياسة والصحافة

عمر شبانة 8 فبراير 2024
سير بين الشعر والسياسة والصحافة
(منال الضويان)

-1-

يتعرّض المبدع بعامّة، والشاعر بخاصة، في حياته الإبداعية، إلى أشكال وصور متعدّدة ومتنوّعة من المعاناة، تتفاوت في درجتها بحسب طبيعة المبدع ومجال إبداعه وحقله. ولعلّ من أبرز أشكال المعاناة وصورها، هو غياب الشعور بالحرية، ومنها غياب القدرة على التفرّغ للعمل الإبداعيّ، إذ يحتاج المبدع، أوّل ما يحتاج إلى الإخلاص لتجربته الإبداعيّة أوّلًا، وتوظيف كلّ ما في حياته من تجارب لـ"خدمة" هذه التجربة، والحرص على عدم وجود منافس للإبداع. وهذا نادرًا ما يحدث لمبدع في أيّ زمان أو مكان.

يحدث كثيرًا أن تأخذ الحياة وانشغالاتُها وهمومُها شاعرًا/ مبدعًا من تجربته الإبداعية، عبر مشاغل لا حصر لها، سياسية واجتماعية ومعيشية، ولعلّ الأشدّ خطورة في هذا المجال، هما مشاغل السياسة والعيش. وإذ نقول السياسة والعيش، فكما لو أننا نقول الشيء ذاته تقريبًا، إذ لا عيش بلا سياسة، خصوصًا للإنسان والمبدع العربيّ الذي يجد السياسة في رغيف الخبز، هذا الارتباط الوثيق بين هموم العيش وهموم السياسة، يجعل من انفكاكهما أمرًا غير ممكن. ولكن، لمَ على المبدع أن يرتبط بهما معًا؟

منذ أن يبدأ الإنسان، كلّ إنسان، مسيرة وعيه للعالم من حوله، تراه يغرق في عالم السياسة كونه جزءًا من هذا الكون، وهذه الحياة. فالسياسة حاضرة في كل شيء، بدءًا من الرغيف والكِتاب حتى مكان العمل، حتى السيارة والرحلة والنزهة، كلّها محكومة بسياسات مرسومة من قبل قوى هرَميّة في تركيبها، بدءًا من قوّة الفرد في عائلته، وخصوصًا قوّة الأب (البطريرك) الذكوريّة المكتسبة عبر التاريخ، وانتهاءً بالقوى العُظمى دوليًّا، بحكم امتلاكها عناصر قوة خارقة صعبة الردع، مرورًا- بالطبع- بالقوى متوسّطة القوّة التي تتحكّم بمجالها الحيويّ. والإنسان المبدع جزء من هذا النسيج المتشابك وشديد التعقيد، فكيف ينفكّ إذًا؟ 

إنّ أقصى درجات العبث واللامبالاة، لا تستطيع فصل ارتباط الإنسان بمحيطه أو قضيّته، ومؤثّرات هذا المحيط، فمهما حاولنا التجرّد من تأثيراتها سنبقى أسرى لها في صورة ما من الصور. لكن المبدع، وهو الأقدر على خلق مسافة بينه وبين العالم المحيط به، حتى هذا المبدع سيظلّ أسيرًا بدرجة ما، وسيظلّ يتأثّر، كما يتأثّر إبداعه حتمًا، سلبًا أو إيجابًا. 

أعمالي الناجزة الآن

لن أتناول هنا تجربتي الشعريّة نقديًّا، ففي خصوص هذه التجربة، المتجسّدة في هذه "الأعمال الناجزة" (العائدون للنشر)، سأتناول ظروفًا شتّى أحاطت بها، خصوصًا وقد مرّت أربعون عامًا على صدور مجموعتي الشعريّة الأولى "احتفال الشّبابيكِ بالعاصفة" (1983)... وهي عقود تضعني أمام ذكريات كثيرة وحميمة، سأكتب بعضها، وسيأتي وقت كتابة الكثير منها! لكن لا بدّ أن أذكر هنا صديقي الشاعر الخطّاط علي مبارك الذي خطّ عناوين القصائد بخطّ يده، وكذلك مخرج الكتاب نبيل الوحيدي.

كيف كانت مشاعري آنذاك، وردّات الفعل بصدد هذا الديوان، والمقالات التي كُتبت عنه، وخصوصًا مقال للصديق الشاعر محمد القيسي (رحل عام 2003). ولعلّ من الضروريّ الإشارة هنا إلى أن القيسي كان الشاعر الأشدّ حضورًا وتأثيرًا حتّى في ما يتعلّق بجيل من الشعراء الفلسطينيّين في الأردنّ، أعني جيل الثمانينيات الذي أنتمي إليه مع عدد من الشعراء، أبرزهم يوسف عبد العزيز ويوسف أبو لوز وزهير أبو شايب وغيرهم، وأقول تأثيرًا وأعني التأثير الأشدّ من تأثير محمود درويش في ما يخصّ شعراء هذا الجيل تحديدًا، وهذه وجهة نظر تخصّني، وهي ربما تتطلّب وقفة أوسع وأعمق.

-2-

هي تجربة التجارب


طَويلًا

بَحَثْتُ عَنْ اسْمٍ يُلائمُنيْ

وعَميـقًا حَفَــرْتُ لأرسِمَـهُ،

ألْفَ عامٍ حَفَرْتُ، رَسَمْــتُ،

وجُبْتُ العواصِمَ حتّى اهْتَدَيْتُ،

وأيْقَنْتُ أنّيْ ابْتَعَدْتُ وتُهْتُ،

وأدْرَكْتُ - بالقَلْبِ-

أنّي أنا اسْميْ

...........

عَرَفْتُ الدَّرْبَ نَحْوَ اسْميْ

عَرَفْتُ: الرّيحُ تَحْمِلُني إلَيهِ،

عَرَفْتُ أشْلاءَ المُغَنّي في دَميْ،

وعَرَفْتُ أنّي سَوْفَ أجْمَعُها،

لِأكْتُبَ سِيرَتيْ الأولَى...

..........

أربعون سنة، ليست لُعبة، ولكنني سأختصر قدر الإمكان، وأذكر أن مجموعتي الأولى صدرت في اليوم ذاته لصدور مجموعة "حيفا تطير إلى الشّقيف" للصديق الشاعر يوسف عبد العزيز، وأذكر أنّهما صدرتا بدعم من رابطة الكتّاب الأردنيّين (أيّام عزّ هذه الرابطة)، وقد طُبعت المجموعتان في مطبعة خاصّة كان صاحبها فنّان الكاريكاتير الرّاحل رباح الصغيّر (ما زلت أذكر مكتبه في الشميساني، في شارع فندق الكومودور المعروف لكثيرين). وأذكر كم كنّا نتابع يومًا بيوم، بل ساعة بساعة، موعد الصّدور (الانتهاء من الطباعة)، وكم كنّا نُضايق هذا الفنّان بكثرة السّؤال والإلحاح. فهي مجموعتي الأولى، أمّا يوسف فكانت هذه مجموعته الثانية، فقد كانت صدرت له مجموعته الأولى "الخروج من مدينة الرّماد"، في بغداد.

بعد مجموعتي الأولى تلك، توقّفت عن إصدار أيّ كتاب، حتّى عام 1997، أي كان الغياب أربعة عشر عامًا من الانقطاع عن نشر الشعر في كتاب، لكن ليس الانقطاع عن كتابته. مررتُ، كما مرّ غيري من الشعراء والمبدعين الفلسطينيّين والعرب، بآثار الهزيمة التي أسماها البعض انتصارًا وصمودًا، هزيمة 1982 التي قوّضت حلم الثورة، وعِشنا وكتبنا عن قيادة مهزومة و"متواطئة"، وحين أصدرتُ مجموعتي الثانية "غبار الشخص"، في بيروت، حيث كنت أعيش وأقيم ذلك العام، ظهرت فيها آثار الهزيمة والخذلان والضياع. أربعة عشر عامًا كانت تشهد تجربة حياتية وعملية في الصحافة الثقافيّة العربية. هذا فضلًا عن تجربة العمل السياسيّ الثقافيّ المزدوج، خصوصًا ما يتعلّق بالعمل "النقابيّ" في رابطة الكتّاب، حين كانت الأحزاب والقوى السياسيّة، اليسارية غالبًا، تتنافس- بل تتصارع- للهيمنة على قيادة الرابطة.

ليس سهلًا ولا طبيعيًّا أن يقف الشاعر/ المبدع على تجربته وقفة نقديّة شارحة، ولكن، وإذا ما جاز لي التعبير عمّا شكّلته مجموعة "غبار الشخص" في تجربتي، خصوصًا مع شبه الغياب للقراءات النقدية، فقد شكّلت بالنسبة لي محطّة جديدة، ومرحلة مختلفة، وربما كانت نقلةً نوعية في هذه التجربة. فبينما كانت مجموعة "احتفال الشبابيك بالعاصفة" احتفالًا حماسيًّا، وردًّا شعريًّا على حصار بيروت (1982) وصمود المقاومة ثمّ خروجها من لبنان، فقد جاءت قصائد "غبار الشخص" لتطرح أسئلة وتقدّم تأمّلات في تجربة "الثورة"، وما تبع تجربة الخروج من بيروت من انهيارات، وصولًا إلى اتفاقيات أوسلو الاستسلامية. كما تداخلت في هذه المجموعة تساؤلات الخاصّ والعامّ، الفرديّ والجمعيّ، الفلسطينيّ والعربيّ، وخصوصًا العراقيّ وما جرى في حرب الخليج 1991، وتدمير بغداد خلال ساعات.

عن هذه المحطة- النقلة، كتب الصديق الشاعر زهير أبو شايب كلمة غلاف أخير لهذه المجموعة أختار منها: "لقد تخلّصت قصيدة عمر شِبانة في هذه المجموعة الشعرية من الرهَل الشعاريّ الذي كان يرهقها، ويقودها إلى تنازلات فنّية خطيرة في السابق. لقد أصبحت القصيدة أكثر هدوءًا واختمارًا، وأكثر خبرةً في معاينة الخراب القائم في الذات وفي العالم وفي الكلام، ولذا فإنّ أهم ما نلمسه في "غبار الشخص" هو ذلك التماسك الأسلوبيّ، وذلك النُضج الذي يجعل الرؤية أكثر وضوحًا وعمقًا". ويضيف أبو شايب: "لقد خرجت قصائد "غبار الشخص" من المشاهدة إلى الرؤية، حيث اختلطت الذات بموضوعاتها، وأصبح الخراب لا مجرّد حالة برّانية تمكن معاينتها، بل حالةً جوانيّة تتذوقها الذات وتخبرِها بعمق، ولذا فإنّ الغبار الذي تثيره حالة التهدّم هنا ليس غبارَ العالم، بل هو غبارالشخص الذي ينتج العالم ويحمل بذرته في أعماقه... إذن ثمة قصيدة مشدودةٌ ومخصّبة برؤيةٍ حقيقيّة... قصيدة لها جسدٌ ينمو ويتحرّك بين الذات والعالم، ليستكنه تقاطعهما الخلاّق بهدوء مقلقٍ وبخبرة ٍعالية".
 


-3-

محطّة جديدة

ثمّ عدتُ بعد هذه المجموعة، وانقطعتُ عن نشر الكتب تسعة أعوام، وحتّى عام 2006 حيث أصدرت، وضمن ما أعتبره مرحلة/ محطّة جديدة ومختلفة، مجموعتي الثالثة "الطفل إذ يمضي" حين كنت أقيمُ وأعمل في دولة الإمارات، ولكنّني كتبتها مسكونًا بهواجس وأسئلة ممتدّة في أمكنة وأزمنة شتّى. ومرّت سبع سنوات قبل أن أعود بمجموعتي الرابعة "رأس الشّاعر"، ثمّ أربع سنوات، وكانت الإصابة بالورم/ السّرطان، لتصدر لي في عام 2017 وعام 2018 أربعة كتب شعرية هي "سيرة لأبناء الورد"، و"حديقة بجناحين"، و"يمشي كنهر دونما ضِفاف"، وكتاب مختارات شعرية بعنوان "تحوّلات طائر الفينيق".

كثرت المحطّات، وتعدّدت المراحل، وتداخلت التجارب، لتكون هذه التجربة على ما هي عليه اليوم. ولكلّ ذلك تأثيراته في التحوّلات التي تجسّدها- ربّما- مختارات "تحوّلات طائر الفينيق". منذ مرحلة مبكرة غصت في التجارب، ومنذ سني المراهقة الأولى، كنتُ غارقًا في الحياة السياسية لبلادنا، لقضيّتنا الأولى، ولكنّها ليست القضيّة الوحيدة! نعم، فقد عشتُ الحياة السياسيّة، وخضت في العمل السياسيّ بأبعاده كلّها، وبحذافيره، منذ بداياتي في مرحلتي الدراسية الإعدادية ثم الثانوية، حتّى آخر انشغالاتي بالعمل السياسيّ، وما عشته وعاشه مبدعون وسياسيّون من اعتقالات وتعذيب في أقبية الزنازين، حتى عام 1990... أي مع دخولنا، في الأردن، ما يسمّى "الحياة الديمقراطيّة".. ديمقراطيّة ترخيص الأحزاب من الأجهزة الأمنيّة!

عملتُ بين الطلّاب أوّلًا، في المدرسة كما في جامعتي، وبعض الجامعات الأردنية، ومع طلبة في بعض المعاهد المعروفة، كما عملت بين الكتّاب والمثقّفين، رافقتُ عددًا كبيرًا من الشعراء والنقّاد والقصّاصين... ولن أذكر الأسماء، فهي كثيرة. ولا فائدة تُذكر في ذكر أسماء كتّاب عملت معهم بصورة ما. المهمّ هو الوقائع التي تحيل على واقع عشته على نحو ما. واقع كان حافلًا بالوقائع جين كانت بلادنا تلتهب بأجواء أمنية شديدة الاكفهرار، رغم أن هذه البلاد والدول لم تخُض حربًا وحيدة على نحو جدّيّ.

-4-

في التجربة الصحافيّة الثقافية

في ظلّ منعٍ من التعيين في سلك التعليم، الذي لم أكن راغبًا بالانخراط فيه أصلًا، وجدتني في سلك العمل الصحافي، العموميّ ابتداء، ثم التخصّص في العمل الثقافيّ، مراسلًا ثقافيًّا لصحف عربية أوّلًا، ثم كاتبًا في بعضها تاليًا. وكاتبًا حرًّا في معظم الأحوال، الأمر الذي جعلني أرتبط بنظام يتطلّب ملاحقة جديّة وعميقة لكلّ جديد، وهو نظام مرهق ماديًّا ونفسيًّا بالطبع، ولا يتيح فرصة للتنفّس الإبداعيّ.

لذلك، فما بين العمل الثقافي، الشعريّ هنا، وبين العمل اليوميّ في السياسة، يأتي العملُ في الصحافة، خصوصًا حين يكون هذا العمل يوميًّا، ويكون مصدر رزق (دخل) الشاعر، فإنّه سوف يشكّل عبئًا جديدًا فوق عبء العمل السياسيّ. سوف يتوزّع الشاعر بين "هموم" ثلاثة، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى منح تجربته الشعرية ما تستحق من العناية والرعاية، كي يجد ذاته الخاصّة، بل لكي "يصنع" هذه الذات، ولا يكون ذلك من العدم، بل عليه أن يَشقى ويتعب في صناعتها بأدواته هو، الأدوات التي تتطلب بحثًا وتعمّقًا في البحث بين اللغة وبين "الأشياء" التي سيصنع عالمه منها. إنّه في حاجة إلى ما يشبه "التفرّغ" لتجربته الشعرية. وهو ما تبرهن عليه الكثير من التجارب الشعرية العظيمة، أما الشعراء أصحاب التجارب العاديّة، متوسّطة القيمة، فهم الذين شغلتهم "هموم" غير الشعر.

تلعب الصحافة والعمل فيها، حتى العمل في حقل الصحافة الثقافية، دورًا سالبًا في تجربة الشاعر، وحتّى المبدع عمومًا، لكنّ للشاعر خصوصيّة في هذا الإطار، من حيث طبيعة التجربة والأدوات و"المادة الأساسية" التي يقوم الشعر عليها، وكذلك ما ينفرد به الشعر من رؤى جمالية وفلسفيّة وخيالات، ليست هي نفسها ما تقوم عليه تجارب المبدعين الآخرين.

ففي العمل الصحافيّ، بما في ذلك الصحافة الثقافيّة، ولكي ينجح من يعمل في هذا الحقل، ويقوم بدور فاعل ومتميّز، عليه أن يخصّص وقتًا وجهدًا كبيرين لمتابعة "ساحة" عمله، والتقاط ما يصلح لتقديمه للقارئ اليوميّ الذي لا يرتوي، ويحتاج إلى المزيد دائمًا، وإلّا كفّ عن متابعة هذا الصحافي وعن صحيفته، وتحوّل إلى صحيفة تقدّم له الجديد الممتع والمفيد. فالصحافة اليومية، ورقية كانت أم إلكترونية، هي "مِحرقة" لمن يعملون فيها، والمنافسة بينها بلا حدود، وحتى بلا محدّدات.

وحيث إنّ على المبدع اختيار مجاله الأكثر قربًا منه، ليُخلص له أوّلًا، حتى لو دخل حقولًا ومجالات أخرى، فهو لا يستطيع الإخلاص لعملين في آن واحد، حتّى لو كانا من الحقل نفسه، حقل الكتابة، مثل الشعر والصحافة، ولا بدّ أن يخلص لواحد على حساب الآخر، وغالبًا ما يتمّ الإخلاص لما هو أشدّ إلحاحًا وضرورية في حياة المبدع، في معيشته اليوميّة كي لا يموت من الجوع. وبما أنّ الشعر لا "يُطعم" خبزًا، كما يقولون، بينما الصحافة مصدر رزق معقول إلى حدّ ما، فمن الطبيعيّ والحال هكذا أن يعطي الشاعر جزءًا من ذاته، من وقته وجهده و"إبداعه" لمصدر رزقه في الأساس. ففي التنافس بين الشعر والصحافة، يبدو الحسم واضحًا لمصلحة هذه الأخيرة؛ الصحافة. فإمّا أن يرتبط بمؤسسة ما، سياسية حزبية، سلطة أو معارضة، ارتباطًا يجعله قادرًا على تحصيل مصدر عيشه، بكلّ ما يفرضه هذا الارتباط من التزامات وما يتبعها من تنازلات، وإما ألا يرتبط.

شهدت المرحلة السابقة تجارب شعرية مختلفة، تضمّنت تجربة الحوار الشعريّ و"التناصّ" مع نصوص محمود درويش، وقد صدرت التجربة في ديوان "حديقة بجناحين"، متضمّنة أيضًا قصيدة مطوّلة بعنوان "الصّعود إلى عشتروت" التي تمثّل علاقتي بالأمّ سورية وتاريخها وحضارتها، من جهة، مثلما تتضمن علاقة عشق ذات طابع أسطوريّ.

-5-

 التجربة الشعرية الأحدث

أكتفي بعرض هذه الجوانب من التجربة، وأنتقل إلى محطّة جديدة، تتمثّل في الإصدار الأخير/ الأحدث لي "يمشي كنهر دونما ضفاف"، وهو مشروع اشتغلت عليه ضمن منحة تفرّغ لستّة أشهر من وزارة الثقافة، وكتبت عملي وفي نيّتي الاشتغال على "مكان الطفولة"، وهو بالنسبة لي منطقة الأغوار عمومًا، وبلدة "الكرامة" على نحو خاص، وهي مرحلة زمنية تمتدّ بين عام 1958 (عام ولادتي)، وآذار/ مارس من عام 1968، عام المعركة الشهيرة، حيث اضطرّ أهالي الكرامة إلى هجرها تحت وطأة الحرب الشرسة بين قوّات الكيان الصهيوني الغازية، وبين قوّات الفدائيّين بمساعدة من الجيش الأردني. وقد شهدت الحرب تدمير البلدة تدميرًا شبه كامل.

كانت هذه المرحلة إذًا شديدة الثراء بالذكريات، ويمكن تصويرها في مشاهد وصور كثيرة، خصوصًا أنّ هذه المنطقة تكاد تكون غائبة في إبداعاتنا، سواء في الشعر أم في السرد، أو حتى في الفنون التشكيلية وسواها، ما يجعل الاشتغال عليها أمرًا مُلحًّا.


مقطع من قصيدة كتبتُها في الأغوار، أعتقد أنها عماد هذا الديوان:

أعودُ مَعي،

إلى نَهر الشريعةِ،

ماءِ عيسى الحيّْ

أعودُ إلى أريحا والكرامةِ،

كي أعودَ إليّْ

أكونَ معي

و"أسكنَ" فيّْ

أريحا... بيتيَ الأوّلْ

وبيتُ الريحُ والرَيحانْ

وأوّلُ سينما للعِشقِ

في بيتِ الطُفولَةِ،

أوّلُ الصُور الجميلةِ،

وهْيَ نَخلُ الأنبياءِ العابرينَ

مِن الصحارَى بالغُبارِ

إلى كُرومِ نبيذِنا الأولى...

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.