}

مصطفى الكرد: الموسيقى تسكن من يحبّها

يوسف الشايب 28 فبراير 2024
هنا/الآن مصطفى الكرد: الموسيقى تسكن من يحبّها
مصطفى الكرد

 

حين تحدّث مصطفى الكرد (1945- 2024) عن نفسه، أكّد أنه مسكونٌ بالقدس التي وُلد وقضى طفولته فيها، وبقي يعيش فيها... وأضاف: "القدس لم تغب عني بتاتًا، فأنتَ تستطيع أن تجد خمسين نيويورك، ومئتي باريس، والكثير من ميونخ وبرلين والعالم كله، ولكن القدس واحدة لا مثيل لها بلون حجارتها، ولكنات حجيجها، وجمال ضوئها"، مشيرًا إلى أن البعض قد يتهمه بالتحيّز، وقد يتحدث عن مساواة المدن، وأن منسوب العشق لها فرديًا، لكنه يرد أن هذا الكلام ليس دقيقًا، فالقدس فرضت عشقها على الجميع، وسكنت في دواخل كل من زارها، أو تجوّل فيها، كما أنها عبارة عن مجموعات ممن عشقوها عبر التاريخ، ومنهم الحجاج الذي جاؤوا إلى الحرم الشريف، ولم يغادروا المدينة، بل وتكاثروا فيها.

كان حديث الكرد هذا في حوارية أدارها معه الفنان إميل عشراوي، الذي رافقه في عديد محطاته الغنائية والمسرحية، في إطار حوارات إلكترونية ضمن برنامج "نسمع ونستمتع"، في منتدى الخبرات التابع لبلدية رام الله، وكانت الحلقة الثانية في هذا البرنامج في سبتمبر/ أيلول 2020.

الموسيقى والأغنية السياسية

حول علاقته بالموسيقى، لفت الكرد إلى أنه لم يبحث عنها، كون أنها هي من تبحث عن محبّيها، وتجاورهم، وتعيش رفقتهم، "لذا عشت الموسيقى وعشتها من القدس، ومن عائلتي، أبي صاحب الصوت الحنون في تلاوته للقرآن وأمي صاحبة الصوت الجميل... الموسيقى لا يتعلمها الفرد، لكنها تسكن من يحبّها، ومن تحبّه".

ووصف الكرد الأغنية السياسية بأنها فعل مادي وفكري، وتجربة من تجارب الحياة اليومية، مشيرًا إلى أن "حرب 1967 أو ما يسمى بالنكسة لم تكن بالأمر الهيّن، بل أمر غيّر الكثير في حيواتنا ومفاهمينا وتصوّراتنا، ففي بدايات إقدامي على الغناء حين كنت دون العشرين، كنت أقدّم الأغنيات السائدة، وكنت متأثرًا بالحلقات الصوفية حيث نعيش في حارتي "باب حطّة" و"السعديّة"، حيث التكايا وحلقات الذكر وحلقات المتصوّفين، وكنت قد تعلمت العود على يد صديق من نابلس في مطلع الستينيات، وكنت أغني لعبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما، ولكن ما بعد احتلال 1967 تحوّلت، تحت تأثيره، إلى الأغنية السياسية، حيث لم أعد أشعر بجدوى الأغنيات التي كنت أغنيها قبل "النكسة"، بحيث بتّ أراها جزءًا من هزيمتنا، وكأن كلّ ما كنّا نعيشه كان جزءًا من هذه الهزيمة، لذا ابتعدت عن تلك الأغنيات، وتلك الحياة، ونبع ذلك من داخلي، فبدأت علاقتي بالأغنية السياسية أو الوطنية".

يُعرف مصطفى الكرد بالتعدّد في الموسيقى، فهو الكلمة والصوت والعزف على العود


أغنيات واعتقال ومنفى

في سبعينيات القرن الماضي يتذكر الكرد أنه قدّم العديد من الحفلات التي اشتملت على أغنياته الوطنية والسياسية، وكان يتبع غالبيتها مسيرات ومظاهرات مناهضة للاحتلال، ومنها واحدة في مدينة البيرة، وإثر هذا النشاط تم اعتقاله، ومن ثم أبعد إلى خارج فلسطين عامة، والقدس خاصة، لتسع سنوات، حيث توجه إلى أوروبا، وهناك تعلّم الموسيقى الغربية، وتحديدًا في ألمانيا.

"كان ذلك نقلة نوعية في حياتي، فالبشر حضارات وألسن وأشكال وألوان، وفي القدس نحن مزيج من كل هذه الألسن والأشكال والألوان، ولم يكن بالتالي غريبًا عليّ أن أعيش في ألمانيا، وأبحث عن الثقافة الموسيقية الخاصة بها، لا سيما وأن الموسيقى في القدس مزجت ما بين الصوفية والمدائح وموسيقى الكنائس والجاز والموسيقى العربية الكلاسيكية، وغيرها... في أوروبا، لم يكن يهمني أن أسمع وأستمتع بقدر ما أسمع وأعرف أكاديميًا، وهذا ما كان بالنسبة لي، رغم أنني كنت أحظى، وقتذاك، بحضور غنائي في الموسيقى العربية، لذا توجهت نحو الدراسة الأكاديمية للموسيقى الغربية في ألمانيا، ولم يكن الأمر هيّنًا، لكني نجحت في اجتياز امتحان القبول، ودرست عامين إلى ثلاثة، وأنتجت موسيقى جديدة، أثرت بشكل إيجابي، بحيث زاوجت بين موسيقاي في القدس، وما تعلمته في ألمانيا، وصرت أفكر في أي جملة موسيقية أسمعها من نواح فنيّة، وما إذا كانت مبتكرة أم منسوخة، وما إذا كانت ابنة تاريخها، وهذا رغم أهميته، تسبب لي بخسارة لجهة الناحية الطربية والروحانية في الموسيقى، فالتحليل والتفكير والتفكيك تسبب لي بهكذا خسارات".


الاقتصاد في الموسيقى

يُعرف مصطفى الكرد بالاقتصاد في الموسيقى، فهو الكلمة والصوت والعزف على العود، بينما الإيقاع الموسيقي الشامل على مستوى التوزيع الموسيقي للآلات هامشي إلى درجة ما، وهو ما يجده أمرًا غير مقصود بل كان مفروضًا عليه في القدس.

"حين بدأت الغناء والعزف في عام 1967، لم يكن في القدس عازفون على آلات موسيقية متعددة، وخاصة الغربية، وهو جزء من الواقع وقتذاك، كما أن التجربة التي بدأت فيها، ولم تكن سائدة أو مسبوقة في فلسطين أو الدول العربية، كأغنيات: (هات السكة)، و(الأرض)، و(الأمل)، وغيرها، فهي تجمع ما بين البساطة وتصوير الواقع، وكانت في حينها منتجًا جديدًا، لقي إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، ولا تزال تعيش برأيي، خاصة أن الواقع لم يتغير كثيرًا في القدس خاصة، وفلسطين عامة، بل يزداد قتامة ربّما".

مصطفى الكرد من اليمين، 1973 (أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي)


"هات السكة"

أغنية الكرد الشهيرة "هات السكة هات المنجل"، انتشرت بشكل كثيف منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، باعتبارها تقاوم مخططات التهجير، حين صدح الكرد "اوعى في يوم عن أرضك ترحل".

وعنها قال: جاءت أغنية "هات السكة هات المنجل" حين كنت أشاهد العمّال تاركين قراهم وأراضيهم فيها، يتجمعون في القدس، لينقلوا عبر باصات شركة "إيغد" الإسرائيلية إلى الجسر ليعملوا هناك، أو يتجمعون في حي المصرارة، ويستعرضون عضلاتهم وقدراتهم الجسدية، كي يختارهم المُشغّل الإسرائيلي المُحتل في واحدة من ورشات البناء التي يشرف عليها أو يملكها، وهي صور ترجمت إلى أغنية، بات بينها وبين المستمع علاقة يرى نفسه من خلالها، وباتت أغنية ذات معنى، ولم يكن مخططًا لها أن تكون أغنية سياسية، ومن هنا تطورت تجربتي في هذا الجانب، التي تعبر عن إحساسي الشخصي، ورؤيتي للناس، والتحولات في حيواتهم، بالإضافة إلى تأثري بما يمكن وصفه بالإحساس الطبقي، خاصة بعد تهجيرنا في عام 1948، حيث استولى الاحتلال على منزلنا في "البقعة" وبقالتنا في "باب الخليل"، ما جعلني أعيش في أسرة فقيرة، وهو ما أثر على طبيعة أغنياتي التي تميزت، حسب مستميعها، بالصدق والشفافية.

أغنية "الحمّص" و"الخمّص"

كشف الكرد في الحوارية المذكورة أعلاه، عن أغنية من أغانيه أحبها كثيرًا، ولها حكاية، واشتغل عليها لخمس سنوات حتى أنجزها، وهي أغنية "أرسم فوق القبة هلال"، ويقول في مطلعها: "أرسم فوق القبة هلال، واطلع عقبة وادخل دار... واسمع الجارة بتغازل جار، واضوي شمعة في القيامة".

ولفت الكرد إلى أن حكاية الأغنية تعود إلى عام 1983، حين عاد إلى القدس بعد إبعاده قسرًا عنها، وكان يعدّ سابقًا الحمّص الذي تصفه زوجته هيلغا بالأشهى في العالم، حين كانا في لبنان أو ألمانيا، وكان يؤكد لها أن الحمّص الحقيقي والأشهى هناك في القدس، فحمّصها ليس كما حمّص "أبو شكري" الشهير في البلدة القديمة، وحين قدما إلى القدس، وكان ابنه درويش في عمر العامين... "في صباح اليوم التالي اكتشفت أن محل أبو شكري تغيّر موقعه، فتوجهنا إلى الموقع الجديد، واكتشفت أيضًا أنه توفي، وبات أولاده يديرون المحل، فطلبت طبق حمّص، وطبق مسبحة، وطبق فول، إضافة إلى الفلافل، وحين بدأنا نأكل، وإذ على الطاولة المجاورة يجلس جندي وجندية من جيش الاحتلال طلبا حمّصًا وصفاه بالإسرائيلي، فصدمنا، لكننا لم نعلق، وبقيت عبارتهما هذه تدق في عقولنا، وبعد أن مشينا لمئات الأمتار قالت لي زوجتي: كنّا في السابق نأكل الحمّص لكننا اليوم أكلنا ’الخمّص’ (بالخاء)، كناية عن الاحتلال الذي لم تسلم منه حتى مأكولاتنا الشعبية، ولسنوات بقيت هذه الحادثة تسكنني حتى خرجت هذه الأغنية، فتغيير الحمّص لـ’الخمّص’ كان بالنسبة لي بمثابة زلزال، وكانت أغنية ’أرسم فوق القبة هلال’".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.