}

حين يكون "البقاء على الحياد غير لائق": الإبداع والقبح

منذر بدر حلوم منذر بدر حلوم 10 مارس 2024
هنا/الآن حين يكون "البقاء على الحياد غير لائق": الإبداع والقبح
بوريس أكونين: "أنا مع إسرائيل لأنها تحارب الوحشية والهمجية"(Getty)

بالجملة الواردة أعلاه (في العنوان) وهي لأحد الكتاب الروس الأكثر شهرة، بوريس أكونين، أفتتحُ مطالعتي عن غير اللائق وغير الإنساني في مواقف كتاب وفنانين وصحافيين روس من حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة.
في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت رحلة اشمئزازي، حين قرأت على موقع https://babook.org/posts/456، ما كتبه أكونين، الكاتب الروسي من أصل جورجي، واسمه بالولادة غريغوري تشخارتيشفيلي، تحت عنوان "حربنا"، وجاء فيه: "هذا ما أفكّر فيه، عندما أقرأ باشمئزاز آراء الطرفين في ما يتعلق بالحرب في إسرائيل: هناك حروب الآخرين، وهناك حروبنا. حروب الآخرين، شيء بعيد عنا ولا يربطنا به رابط مباشر. كما عند غوته، حربهم مجرد موضوع ’للحديث عن المعارك، عن الحرب، وكيف أنه في مكان ما، في تركيا، مثلًا، في مكان ما بعيد، تُذبح الشعوب وتقاتل’". وأضاف: "مثل هذه الحرب، بالطبع، شيء مؤسف وحتى فظيع، لكنها لا تحرك مشاعر أي شخص، باستثناء الحسّاسين لكل ما يجري في العالم".
"شيء فظيع، ولكنه لا يحرك مشاعر سوى الحسّاسين"، يبدو هذا القول جميلًا! ولكن مهلكم، تعالوا نتابع القراءة: "أما حربك ـ يكمل أكونين ـ فهي عندما يقتلون المقرّبين منك. البقاء على الحياد في مثل هذه الحرب، في رأيي، أمر غير لائق. فإما أن تكون على هذا الجانب أو ذاك. ومن يبقى فاترًا، لا حارًا ولا باردًا، فسوف يتقيؤونه".
ومع ذلك، يبدو، حتى الآن، كأن أكونين، لم يقل شيئًا يدعونا إلى الاشمئزاز. ولكنه، رأفة بنا، لا يحملنا عبء الانتظار، فيسارع إلى القول: "أنا مع إسرائيل. لأنها تحارب الوحشية والهمجية. ولأن لدي ناسي هناك". ويجب التوقف، هنا، لالتقاط الأنفاس. هنا، أدعو إلى الوقوف دقيقة صمت على الإنسانية. هناك ناس وناس، وليس كل إنسان إنسان.
كان يمكن أن يكون مفهومًا، بل ومحطّ تقدير، لو أن الكاتب الكبير يقف ضد الحرب من حيث المبدأ، وليس مع قتل الفلسطينيين لأنهم ليسوا ناسه، وليسوا كما وصفهم أحد المعلّقين "أبناء دين أمه" في إسرائيل. ولست أوافق المعلق في ما وجده الفيصل في التفريق بين ناس وناس. فبحسبي، من غير المهم كثيرًا الوقوف عند التبعية الدينية والقومية لكاتب مثله. قد يجوز ذلك بالنسبة إلى شخص عادي، أما لشخص يفترض أنه يعتنق الفن والأدب والجمال، فهذا محط سؤال. فالأدب والفن، بحسبي، يتلوث بالعصبيات العرقية والدينية والطائفية وحتى السياسية، ويصعب تنظيفه منها بعد ذلك، حتى بكلام مغايرٍ من صاحبه، فكيف إذا جاء الكلام والقول مثبّتًا لبقع اللا إنسانية التي لا تزول ولا تتقادم. ثم، أليس كل ما يكتبه الأديب وما يصرح به جزء من نتاجه الأدبي، أم أن النتاج الذي يجب أن نأخذه على محمل الجد هو فقط ما يمر عبر غربال الحسابات؟ بل قد يكون التعبير الانفعالي، أكثر صدقًا وكشفًا، بل ربما تصح معايرة كل قول آخر في مجلدات الكاتب به؟ أنا هنا لا أدعو إلى مطابقة نتاج الكاتب ومقولات نصوصه الأخلاقية مع سلوكه في الحياة، فهذا موضوع شائك، إنما أرى كل ما يقوله الكاتب، في مذكرات وتعليقات وتصريحات وسواها، جزءًا من نصه، من مدونته الإجمالية. الحديث عن نصوص وليس عن سلوك شخصي. أستذكر هنا مقولة دوستويفسكي، التي تقول ترجمتها الحرفية "الجمال سينقذ العالم"، في إشارة إلى مستقبل منشود كان لا يزال عصيًا في زمن صاحب "الأخوة كارامازوف"، وما زال كذلك للأسف، أستذكرها من زاوية أن الظلم قبيح (غير جميل في الأقل) والاحتلال قبيح والفصل العنصري قبيح، والمجازر قبيحة، والتجويع قبيح، وقصف الساعين إلى لقمتهم وإبادتهم قبيح، وكل ما يندرج تحت "الإبادة الجماعية" الموصّفة قانونيًا قبيح. فهل يمكن للفن أن يكون مع القبح، أي في تضاد صارخ مع الجمال الذي يرى فيه دوستويفسكي منقذًا؟




ومع أن الإجابة تبدو واضحة لكل صاحب ضمير ـ أم أن الضمير لا محل له هنا ـ هناك من يتساءلون: من الذي يجب إنقاذه ومن لا يجوز حتى مجرد التفكير في إنقاذه؟ هنا تحضرني مقولة روسية متداولة "عليك أن تثبت أنك إنسان حتى يدافع عنك المدافعون عن حقوق الإنسان". إلى هذه الخلاصة المرة وصل الإنسان الروسي، بعد تجربة الانهيار، وظهور صفحات غير لائقة في سلوكات المدافعين عن (الإنسان) الذي تبين أنه لا يشمل كل روسي، وأحيانا لا يشمل إلا من تربطه علاقات دم، أو مصلحة بإسرائيل. وقد تبيّن الروسُ أنّ عليهم أن يثبتوا أنهم مشمولون بمفهوم الإنسان، حين نهبوهم وأودع الناهبون الأموال المسروقة في بنوك إسرائيل، وغيرها من محميات المال الحرام ـ قد يبدو هذا التعبير مضحكًا للبعض! الذي كثير منه ثمن دماء بشر أبرياء وشعوب تطالب بحقها. 

لودميلا أوليتسكايا: الشباب الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى الحريّة! (Getty) 


وما يبدو واضحًا على خلفية حرب الإبادة في غزة هو أن عليك أن تثبت للمدافعين عن حقوق الإنسان، والذين تبين أن غالبيتهم الساحقة في روسيا من مؤيدي إسرائيل، أنك إنسان إذا كنت فلسطينيًا أم روسيًا تدافع عن حق الفلسطيني، أو أنك إنسان حر، ولكنك في كلتا الحالتين لا تشملك مقولة الليبرالية، التي تعني بالنسبة لكثيرين حرية نهبك اقتصاديًا، بدلًا من الحرية الاقتصادية، وحرية سلبك حقوقك. يا للمفارقة! "إنسان، الليبراليين (الروس) والمدافعين (الروس) عن حقوق الإنسان هو من يرى إسرائيل فوق الجميع وخارج القوانين والأعراف"، وكل سؤال، حتى النظري البحت عن الفارق بين الدين والقومية في هوية اليهودي يقود صاحبه إلى تهمة معاداة السامية، وعن الفارق بين الإسرائيلي والصهيوني مثله. يلمع في ذاكرتي هنا مشهد لمراسل قناة إعلامية روسية عرض "جروًا إسرائيليًا مذعورًا في ملجأ" من أصوات القصف، ولكنه القصف الذي مزق الأجساد في محمية الأمم المتحدة في قانا، ولم يعرضها المراسل الإنساني، ولم يقل عنها شيئًا. أجساد وحوش! لا يراها الأدباء والمثقفون الداعمون لإسرائيل، فهي ليست لـ (ناسهم)، هناك، وكل من عداهم ليس إنسان. أم أنّ من الطبيعي للفن، والأدب منه، أن يمجد الارتداد إلى الوحشية ويعده دفاعًا عن الحضارة في وجه (وحشية) الدفاع عن الحق بالحياة في الوطن الأم الذي لم يغتصبه الفلسطينيون من أحد؟

"نحن أكثر الناس حرية بالمعنى الثقافي"
هكذا وصف نفسه وأشباهه داعم آخر لإسرائيل هو الكاتب الروسي الشهير فيكتور يروفييف، فقال على خلفية معرض أقيم في فيلنوس عاصمة ليتوانيا لجمع الأموال لدعم الجيش الأوكراني: "نحن جميعًا إلى جانب أوكرانيا... في هذه الحرب، نحن جميعًا إلى جانب إسرائيل. في تلك الحرب، نحن... يا للوجع... نشعر ببعض... إننا، بعد أن شَلعنا أنفسنا عن هذه الأرض الشاسعة، ربما نحصل على... الثقافة الروسية، على الناطقين بالروسية، نحصل على دافع إضافي. وهذا يعني أننا قد نكون اليوم أكثر الناس حرية بالمعنى الثقافي".
وعلى ذكر يروفييف، ففي عام 2009، تقدمت مجموعة من الروس إلى مكتب المدعي العام بطلب التحقق مما جاء في كتابه "موسوعة الروح الروسية"، والتقصي عن عناصر تطرف وتحريض على الكراهية رأوها فيه. وجاء، في الكتاب، كما قيل، ما لم يتح لي التحقق منه للأسف: "يجب ضرب الروس بالعصا. يجب إطلاق النار على الروس. يجب تمريغ الروس بالجدار. وإلا فإنهم لن يبقوا روسًا. الروس أمة مخزية". وقال ناشر المعلومة عنه (المصادر في آخر المقال): من المثير للدهشة أنه بعد ذلك عاش في روسيا لعدة سنوات، ونشر أعماله، فيها، حتى غادرها في عام 2022، إلى برلين، وأعلن أنه لن يعود.

لودميلا أوليتسكايا: الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى حرية! 
أما الصورة الأكثر وضوحًا للنظرة إلى حقوق عرب فلسطين، فلعلها رسمت على لسان حائزة البوكر الروسية لودميلا أوليتسكايا، التي والحق يقال لم أجد لها قولًا يخص حرب الإبادة التي تقودها إسرائيل منذ أشهر ضد غزة. فقد قالت من زمن الانتفاضة، التي أجهضها السلاح يومها، للأسف، في إحدى مقابلاتها الصحافية: "مسألة الانتفاضة مسألة سكس، فلو كان الشباب الفلسطينيون مكتفين جنسيًا لما خرجوا في انتفاضتهم"! بما معناه أنّ الفلسطيني كان يمكن أن يخرج ليرمي أوّل يهودي يراه في طريقه بحجر فقط لأنّه في حالة هياج جنسي، وأمّا اليهودي فبريء من الأسباب كلّها التي تدفع الفلسطيني العربي إلى مواجهة الموت. هل خطر ببال أحدكم يومًا أن يقرأ تفسيرًا على هذه الدرجة من الوقاحة للانتفاضة وللقضية الفلسطينية عمومًا. وممن؟ من كاتبة تباع كتبها بمئات آلاف النسخ.
وأوليتسكايا، نفسها، كتبت في "أبناء قيصرنا"، عن العربي الذي يثير إعجابها: "ذلك العربي جذّاب، يرتدي، بطريقة ما، لباسًا بشريًا، لا سترة مع ربطة عنق ولا كوفيّة، بل قميصًا وكنزة. لا علامات لديه عن أي شيء محدد. وأمّا أنا فيمكنكم القول إنني، بوصفي يهوديّة، أخشى العرب... على مستوى الجينات".

"ممتلئون ألمًا على إسرائيل" (تعليقات بمثابة برقيات)
كتب ليونيد غوزمان (الرئيس السابق لاتحاد القوى اليمينية): "العالم كله يعلن دعمه لإسرائيل، وموسكو تدعو إلى وقف إطلاق النار. تمامًا كما يدعو البلهاء المفيدون إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا. آمل ألا يكون هناك وقف لإطلاق النار، لا في إسرائيل، ولا في أوكرانيا. وآمل أن يُهزم المعتدون. روسيا بوتين، وحماس. أنا أؤمن بأوكرانيا وإسرائيل". وأضاف: "لقد تحمل شعبنا الكثير، ونجا من كثير من الأعداء، لدرجة أن قُطّاع الطرق المعاصرين ليس لديهم أي فرصة. أعتقد بأنهم سوف يندمون على ذلك. حمى الله إسرائيل واليهود!".

فيكتور يروفييف: نحن جميعًا إلى جانب أوكرانيا في هذه الحرب، نحن جميعًا إلى جانب إسرائيل (Getty)


وكتب فنان الروك الشهير، وحائز لقب فنان الشعب في روسيا في 1999، أندريه ماكاريفيتش، من إسرائيل (يعيش هناك منذ 2022): "أتمنى الحظ لمقاتلينا (الإسرائيليين)، أعد الساعات والأيام حتى نصرنا".
كما كتب رئيس تحرير "صدى موسكو" الصحافي أليكسي فينيديكتوف: "الآن، لن تكون هناك رحمة (للفلسطينيين). وهذا صحيح".
وأما الحرب التي تشنها إسرائيل فذات رسالة واضحة، بحسب كسينيا لارينا (الصحافية الروسية الشهيرة، والمعلقة في إذاعة صدى موسكو): "إسرائيل ـ إلى جانب أوكرانيا، وبثمن فادح، وعلى حساب حياة مواطنيهما ـ تحاولان إنقاذ العالم من الانهيار، إنقاذ الحضارة من غزو البرابرة".
وفي السياق نفسه، يأتي قول أندريه لوشاك (حائز جائزة الحكومة الروسية في مجال الإعلام 2017، وحائز جائزة "الإعلام التلفزيوني الروسي، وهي معادل روسي لجائزة إيمي الأميركية") "إسرائيل موقع متقدم لنضال الحضارة الحديثة ضد قوى الظلام (تشثون)... ومن الواضح أن قوى الظلام مصممة على القتال حتى النهاية ـ فالحياة في العالم العتيق المظلم رخيصة".
وكتب ميخائيل كوزيريف (الناقد الموسيقي ومقدم البرامج التلفزيونية والإذاعية) رسالة مفعمة بالعواطف (النبيلة): "أيها الأصدقاء في إسرائيل، أعانقكم، أتمنى لكم القوة. النصر، سيكون سريعًا وساحقًا!"، طبعًا على الفلسطينيين الوحوش.




وقال فيكتور شنديروفيتش (وهو كاتب روسي ـ إسرائيلي، ومؤلف درامي ومقدم برامج تلفزيونية وإذاعية، حاز في عام 1998 جائزة ريشة روسيا الذهبية): "يؤسفني أنني لست في إسرائيل الآن: في مثل هذه الأيام أريد أن أكون هناك. نعم، بالنسبة لي، ما يحدث الآن في البلاد (إسرائيل) أكثر إيلامًا مما يحدث لروسيا. على الأقل، لأن الروس... استحقوا الكارثة التي خلقوها لأنفسهم.. وأما الإسرائيلي فيحمل عبء الكراهية، ومصير الضحية يثقل كاهله بمجرد ولادته، أو باكتسابه جنسية (إسرائيل)، وهذا لا يمكن تغييره".
سأكتفي بهذا القدر، وأهمل مواقف مشاهير آخرين من نجوم الفن، لا يتسع لهم المقال. ولكن، لا بد، في النهاية، من تأكيد أن هناك من الكتاب والمفكرين والإعلاميين الروس من يقف بشجاعة مع فلسطين، وهذا موضوع لمقال آخر.
ولمن يريد التدقيق والاستزادة على ما اقتبست، المواقع التالية:

https://new-rabochy.livejournal.com/3615677.html?ysclid=lt077x19e2550689272
https://aif.ru/culture/person/na_pomoyku_narod_vozmushchen_sorokinym_i_ulickoy_za_denezhnuyu_podderzhku_vsu?ysclid=lri1jas1xw942413400  
https://prigovor.ru/article/lot-s-avtografami-pisatelej-erofeeva-sorokina-i-ulickoj-okazalsa-nikcemnym?ysclid=lrj39ypveg702210123
https://vk.com/wall-24199209_20273045?ysclid=lrj5i4b4s6210159333

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.