}

إبادة المساجد: الغزّيون يقيمون صلوات رمضان بين ركام القصف

أوس يعقوب 15 مارس 2024
هنا/الآن إبادة المساجد: الغزّيون يقيمون صلوات رمضان بين ركام القصف
المسجد العمري بعد أن حوّلته قوات الاحتلال إلى أنقاض

مع استمرار حرب الإبادة الجماعية الصهيونية التي دخلت شهرها السادس، يتّسع حجم الدمار في قطاع غزّة، الذي يسكنه أكثر من مليونَي إنسان، سواء بالقصف الجوي، أو البري، أو البحري، والذي طاول البنى التحتية، والمناطق السكنية، والمعالم الأثرية، والتاريخية، والدينية.
في 21 يناير/ كانون الثاني الماضي، قالت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزّة إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قام بتدمير ألف مسجد في غزّة من أصل 1205 من المساجد في القطاع، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وأغلب هذه المساجد التي تعرّضت للتدمير الكامل تقع في الجزء الشمالي من القطاع، والبقية في مدينة خان يونس جنوبًا. وعلى الرغم من ذلك، إلّا أنّه يُنادى للصلاة من فوق الأنقاض، ويؤدّيها النازحون وسط الركام.
وبعد أن اختفى صوت الآذان من معظم مساجد غزّة خلال أيّام الحرب التدميرية المستمرة بفعل القصف الهمجي، أو بسبب نزوح السكان الذي حوّل المناطق إلى مدن أشباح، عمل الغزّيون قبل حلول شهر رمضان الكريم على تهيئة محيط عدد من المساجد المبادة لإقامة صلوات التراويح، من دون الاكتراث بأنّهم سيؤدّون فريضة الصلاة فوق الأنقاض وأكوام الحجارة الشاهدة على همجية ووحشية جيش الاحتلال الإسرائيلي.
الاستهداف الإسرائيلي التدميري المُمنهَج والمتعمّد للمواقع الأثرية والمباني التاريخية في حربه المستعرة على القطاع هو جريمة حرب كاملة، وانتهاك واضح للمواثيق والقوانين الدولية التي تنصّ على حماية التراث في حالة الحرب؛ ومنها "اتّفاقية جنيف الرابعة" (1949)، و"اتّفاقية لاهاي" (1954)، و"اتّفاقية التراث العالمي" (1972).
وقد أظهرت مقاطع فيديو نشرها جنود إسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي أنّهم لا يحترمون قدسية الأماكن الدينية، ويمجدون الدمار، وفي إحدى اللقطات ظهر جندي يقف أمام مئذنة مدمّرة كتب عليها باللغة العبرية عبارة "سيتم بناء الهيكل بشكلٍ جيد".
ومن أبرز المساجد التاريخية وحديثة العهد، والتي كانت تقف شاهدة على عراقة تاريخ المنطقة، وبعضها كان شاهدًا على حداثة المدينة أيضًا؛ والتي طمست معالمها كلّيًا اليوم، وتعرّض عدد منها لدمار جزئي وأضرار كبيرة: المسجد العمري الكبير، ومسجد السيد هاشم، ومسجد عثمان بن قشقار، الذي تأسّس عام 620 للهجرة، ومسجد الظفر دمري الأثري، الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى الحقبة المملوكية، ومسجد خليل الرحمن بخربة العدس في رفح، الذي تأسّس عام 2000، والمسجد الخالدي الذي بُنيّ عام 2010.
في هذه المقالة، سنؤرّخ لثلاثة من المساجد، هي: المسجد العمري الكبير، ومسجد السيد هاشم، والمسجد الخالدي.

المسجد العمري الكبير: ثالث أكبر المساجد في فلسطين
يُعَدّ المسجد العمري الكبير أقدم وأعرق وأكبر مسجد في قطاع غزّة، وثالث أكبر مسجد في فلسطين، بعد المسجد الأقصى في مدينة القدس الشريف، ومسجد أحمد باشا الجزار في مدينة عكا، وتبلغ مساحته نحو خمسة آلاف متر مربع، وفناء يتجاوز 1000 متر مربع.
يعود تأسيس المسجد العمري الواقع في حيّ الدرج بالبلدة القديمة في غزّة إلى أكثر من 1400 عام، حيث بُنيّ بالتزامن مع فتح المسلمين فلسطين عام 636 ميلادية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، على أنقاض كنيسة "مار يوحنا". ويحمل مبنى المسجد 38 عمودًا، وفي ساحاته الخارجية عُثر قبل عشر سنوات على حجارة أثرية وأعمدة مدفونة تعود لمبنى الكنيسة الأولى، وكان يعكس بناؤه قبل تدميره شبه الكلّي في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأوّل 2023.




وتشير الروايات التاريخية إلى أن بناء المسجد تمّ على ست مراحل تاريخية تعاقبت عليه، إذ كان المبنى قبل الديانة المسيحية معبدًا وثنيًا، ثمّ تحوّل إلى كنيسة بيزنطية أنشأها أسقف غزّة "برفيريوس" على نفقة الملكة "أفذوكسيا"، مع انتقال أهالي غزّة إلى المسيحية عام 407 ميلادية، لكنّها دمّرت خلال الغزو الفارسي بعد ذلك بـ200 سنة في 614 ميلادية. وبعد مئات الأعوام على تحويله إلى مسجد، دمّر خلال الحروب الصليبية في 1149 ميلادية، وتمّ تحويله إلى كنيسة "القديس يوحنا المعمدان"، ثمّ عاد مسجدًا في العهد المملوكي.

مسجد عثمان بن قشفار في المدينة القديمة بغزّة 


وبقي المسجد على حاله مسجدًا للصلاة ومدرسة يقصدها طلاب العلم حتّى نشوب الحرب العالمية الأولى، حيث تعرّض إلى تدمير شديد، فسقطت مئذنته وأجزاء من سقفه، وكذلك عدد من أعمدته الرخامية وتيجانه. أعاد المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى إعماره عام 1926م، وبنيت مئذنة غاية في الجمال على الطراز المملوكي القديم، وتتألف من بدن مربع يعلوه طابق مثمن الأضلاع، تتخلّله طاقات معقودة بعضها بفتحة، وأخرى من دون فتحة، وقد زُينت جميعًا بزخارف حجرية جميلة.
تميّز المسجد العمري الكبير باحتوائه على مكتبة أنشأها الظاهر بيبرس قبل أكثر من سبعة قرون (1277م)، عرفت قديمًا باسم "مكتبة الظاهر"، والذي رفدها بحوالي 20 ألف كتاب في مختلف العلوم والآداب، وبعدد كبير من المخطوطات.
وكانت مكتبة المسجد العمري تُعَدّ من أساسيات هذا الصرح العظيم، إذ تكتنز بداخلها ـ إضافة إلى كتبها العريقة في مختلف العلوم والفنون ـ حوالي 187 مخطوطة، أبرزها مخطوطة "شرح الغوامض في علم الفرائض" لبدر الدين المرديني (المتوفى سنة 867هـ)، التي نسخت قبل خمسمئة عام تقريبًا، وتقع في 75 ورقة. إضافة إلى ديوان ابن زقاعة الغزّي الصوفي الذي يعكس وجه التراث العربي الإسلامي في غزّة، وكتب الخطيب التمرتاشي الغزّي، وكتب الشيخ عثمان الطباع، وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين كانوا منارًا يُهتدى بها.
ومِثل المسجد، شهدت المكتبة انتكاسات عديدة أدّت إلى تشتت محتوياتها بين مكتبات القاهرة، وباريس، وبرلين، وذلك تزامنًا مع شنّ الحملة الفرنسية على مصر والشام في عام 1801.

مسجد السيد هاشم: توالت عليه الأزمات والحروب

مسجد السيد هاشم قبل تعرضه للدمار من قبل الاحتلال 


أمّا مسجد السيد هاشم، فكان يُعَدّ واحدًا من أجمل مساجد القطاع التاريخية وأكبرها، وهو يقع في حيّ الدرج في غزّة القديمة، بمساحة تقدر بحوالي 2400 متر مربع، ولا يبعد عن المسجد العمري الكبير سوى كيلومتر واحد.
وكان المسجد قبل تدميره الأخير عبارة عن صحن مكشوف تحيط به أربع ظلّات، أكبرها ظلّة القبلة. وفي الغرفة التي تفتح على الظلّة الغربية ضريح يعتقد بأنّه قبر السيد هاشم بن عبد مناف، الجدُّ الأكبر لنبي الإسلام، الذي توفِّي في غزّة أثناء رحلته التجارية "رحلة الصيف".
سميت مدينة غزّة "بغزّة هاشم" نسبة إليه، ثمّ صارت الناس تدفن حوله، حتّى صار عنده تربة كبيرة، واختفى أثره بتوالي الأزمات والحروب، وإن ظلّ موضع المغارة التي دفن فيها معروفًا، حيث نوّه الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته عام 111هـ إلى زيارته له.
وفي أثناء القرن الثاني عشر الهجري، ظهر الضريح، وأحيط بالبناء، وجُعل فوقه قبة، وصار يُقصد للزيارة، ثمّ جُدّد الضريح أثناء القرن الثالث عشر الهجري، وبُنيت عليه مقصورة عظيمة بقبة شامخة، وأزيلت تلك المقبرة، وبُنيّ مكانها مسجد ومدرسة للغرباء بمنارة عالية، وبيت كبير للصلاة بمحراب ومنبر وصحن واسع وإيوانات بأعمدة دائرية نقلت إليه من موضع "المينا القديمة" بساحل البحر.
وتمّ تشييد المسجد الحالي في العصر العثماني على الطراز المعماري المملوكي، وجدّده السلطان عبد الحميد سنة 1850م ـ 1268هـ. ويكشف القسم (المخطط) الأفقي للمسجد عن صحن مفتوح مربع الشكل في المنتصف، تحيط به ثلاثة أروقة خارجية للصلاة.
وخلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، نجا المسجد من محاولة تدمير، إذ تلقى تحذيرًا بالقصف سبق قرار وقف إطلاق النار النهائي بساعات قليلة، ولكن اتصالات عديدة أجريت مع المملكة الأردنية لارتباط سلالتها الملكية الأردنية ببني هاشم، والتي وعدت بالتدخل العاجل ووقف التهديد الإسرائيلي.
وكان مسجد السيد هاشم يحتضن مكتبة عظيمة كانت مخطوطاتها نفيسة، كما كان ملجأ أقام فيه طلبة العلم والقرّاء وأبناء السبيل والغرباء. في 1323 هـ نقضت منارته لاعوجاجٍ ظهر بها، وجُدِّد بناؤها، وصدر الإذن السلطاني بإقامة صلاة الجمعة به منذ ذلك التاريخ. وفي الحرب العالمية الأولى، حدث فيه خراب كبير، وضرر عظيم، وفقدت مكتبته القيمة، ولم يبق لها أثر، ثمّ جرى إعماره بالتدريج كما كان. وأقام المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين فيه مدرسة لطلبة العلم، وعين لها أربعة مدرسين، ثمّ ألغيت بعد أن افتتحت مدرسة الفلاح، واكتفي في المسجد بمدرسة العجزة لتعليم وتجويد القرآن الكريم بمعلم واحد من الحفاظ المجيدين.

المسجد الخالدي: من أحدث معالم غزّة الدينية
دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي المعالم الأثرية والتاريخية، كلّيًا، أو جزئيًا؛ وكلّ ما هو جميل في غزّة، حتّى المساجد التي بنيت في عهد السلطة الفلسطينية لم تسلم من بطشه، وأشهرها المسجد الخالدي، الذي يشكّل أحد أبرز وأحدث معالم المدينة الدينية.
يقع المسجد الخالدي، الذي بُنيّ عام 2010، على شارع الرشيد الساحلي في منطقة الواحة شمال غربي مدينة غزّة. ومنذ بنائه، كان مزارًا للمصلين الغزيين في الأوقات كافة، خاصّة مع حلول الشهر الفضيل.




يقول خبراء معماريون إنّ تصميمه مستوحى من العهد العثماني. وقبل تدميره، كانت تبرز من المسجد مئذنتان متألقتان بارتفاعهما، وقبة ضخمة تضفي جمالًا على المكان. أما نوافذه فقد وزعت بشكلٍ مناسب للسماح بدخول هواء البحر المنعش للمصلين، فيما غطيت أرضيته بالسجاد الأحمر، قبل إحالته إلى ركام.
وكان المسجد الخالدي يضمّ ساحة واسعة تستوعب ما يقرب من خمسمئة مصلٍ، بالإضافة إلى ساحة خارجية تستوعب خمسمئة آخرين. وكان ذا إطلالة جميلة على البحر الأبيض المتوسط، ما شكّل عاملًا جاذبًا للمصلين، خاصّة في أوقات الصيف، وارتفاع درجات الحرارة.
ورغم أنّ آلة الحرب الإسرائيلية استهدفت المسجد الخالدي في الأيّام الأولى للحرب بشكلٍ جزئي، إلّا أنّها أعادت استهدافه في وقت لاحق لتدمّره بشكلٍ كامل، بحيث لم يتبق منه اليوم إلّا مئذنة واحدة "يتيمة" تشير إلى مكانه بعد أن صار أكوامًا من الركام. كما دمّرت المعالم المحيطة به كافة.

وقد كان المئات من مرتاديه يتوجّهون من أماكن بعيدة وصولًا إلى هذا المسجد، كونه يعكس "أجواء روحانية" كان يصفها المصلون بـ"المميّزة"، خاصّة عندما يتجمع المعتكفون في العشر الأواخر من شهر رمضان، لقراءة القرآن، وأداء صلاة قيام الليل.

المصادر:
1) تقارير وبيانات صادرة عن وزارتي الثقافة والأوقاف في رام الله وغزّة، والمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزّة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، ومبادرة "التراث من أجل السلام".
2) أخبار ومقالات نشرت في المواقع الإلكترونية التالية: وكالة "رويترز"، ووكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، وقناة "الجزيرة"، وصحيفة "العربي الجديد"، وصحيفة "القدس العربي".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.