}

رمضانُ الطُّوفان: كَسْرُ السِّلْسلة واجتيازُ العَوائق

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 مارس 2024
هنا/الآن رمضانُ الطُّوفان: كَسْرُ السِّلْسلة واجتيازُ العَوائق
رمضان بنكهة ابتسامة طفولة لا تغيب
لأنّ ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليس كما قبله، فإن رمضان الطوفان لا يشبه أيّ شهرٍ فضيلٍ مضى.
لم يكُن مُتوقَّعًا (أنا شخصيًا على الأقل) أن يهلّ علينا شهر البركة والعِبادات وقِطاع غزّة تحت النار، أمّا وقد حصل ما حصل، فإن يوميات الحرب الجائرة على شعب محاصر منذ 17 عامًا، ستفرض، حتمًا، قوانينها، وتنتزع استحقاقاتها، فالصيام في قلب أَتون العدوان لا يشبه مثيلَه أيام الرّخاء، حيث النزعة الاستهلاكية ظلّت تشكّل في رمضان العالميْن العربي والإسلامي، ملمحًا أساسيًا من ملامح الشهر المبارك، وجزءًا من سلسلةِ الاستهلاك العالميّ الذي يراهن عليه أرباب رأس المال، وحيث يَتذاكى المستثمرون في ابتكار ما يتعالقُ مع روح الشهر وطقوسه وعادات الناس فيه؛ أطايب الطعام والشراب (اللحوم بألوانِها وأنواعِها ومَرقاتِها ومعجّناتِها ومقبّلاتِها، وعصائر التمر هندي وعِرق السوس والخرّوب وجلّاب الحبايب، وقَمر الدين، والقَطايف وباقي حلويات الشهر، وما إلى ذلك) وأجواء الزينة، والمُسلسلات وَالبرامج التلفزيونيّة، والسّهرات الرمضانيّة، وغير ذلك من أجواء رمضان.
سلسلةٌ كُسِرت في رمضان هذا العام، طوعًا كما فعلت كثير من شعوب جِوار فلسطين الشقيقة، وقسرًا كما يحدث مع أهل غزّة الذين بدأوا يُستَهدَفون بالتجويع بعد استهدافِهم بالقصفِ والتّهجيرِ والتّدمير.

كَسْرٌ حميد...
لا أريد أن أقول "رُبَّ ضارّة نافعة"، فَلا يصحّ مثل هذا القول في مثل هذا المَقام الدقيق، وَأمام هذا الألَم البليغ. ولكنّ نظرةً عجْلى لِما مضى من سلوكيات شعوبِنا في شهر الصيام، تضعنا أمام حقائق تقشعرّ لها الأبدان؛ فالجزائر تُنفق، على سبيل المثال، ما يصل إلى 320 مليون دولار سنويًّا على الخبز المهدور الذي بدأ يُرهق الخزانة العمومية للدولة، علمًا أنه (أي الخبز) يتصدّر قائمة المواد الغذائية المعرّضة للتبذير خلال شهر رمضان في الجزائر بسبب السلوكيات الاستهلاكية السيئة لأشقائنا هناك.
وبحسب رئيس اللجنة الإعلامية لمنظمة "حمايتك" للدفاع عن حقوق المستهلك، سفيان لْواسع، فإن الاستهلاك "يزداد خلال شهر رمضان، ويصبح غير معهود، خصوصًا بالنسبة للمواد الغذائية الأساسية منها والمدعّمة بسبب سلوكيات سيئة من المواطن الذي يقْتني أكثر من المطلوب، بِخاصة مع تراجع أسعار بعض منتجاتِ الخضر والفَواكه".
وأضاف لْواسع في تصريحات صحافية أن إنتاج الخبز "يزداد في شهر رمضان، وبِما يصل إلى حوالي 50 مليون خُبزة يوميًا، يُرمى منها، يوميًا أيضًا، ما مقداره 10 ملايين خُبزة".
التبذير الاستهلاكيّ الجزائريّ دفع اللجنة المحلية للهلال الأحمر الجزائري لِبلدية مقرّة بِالمسيلة شرق الجزائر، وبِالتنسيق مع البلدية والمفتشيّة الإقليميّة للتجارة، لإطلاقِ حملةٍ حملتْ عنوان "كلّنا ضد التبْذير الغذائي في شهر البركة والتّوبة والغُفران".
على كل حال، تتقدّم مصر البلدان العربيّة الأفريقيّة الأكثر إهدارًا للأغذية في رمضان، وفي باقي شهور العام، يليها السودان بـ4.16 مليون طن، والجزائر بـ3.91 مليون طن، ثم المغرب بـ3.31 مليون طن، وتونس بـ 1.06 مليون طن، وليبيا بأكثر من 513 ألف طن، وموريتانيا بـ450 ألف طن. أمّا العراق فيحتلّ صدارة إهدارِ الدّول العربيّة المشرقيّة (الآسيويّة) بـ4.73 مليون طن، تليه السعودية بـ3.59 مليون طن، واليمن بـ3.02 مليون طن، وسورية بـ1.77 مليون طن، والأردن بـ939 ألف طن، والإمارات العربية بـ923 ألف طن، ولبنان بـ717 ألف طن، وفلسطين بـ501 ألف طن، وعُمان بـ470 ألف طن، والكويت بـ397 ألف طن، وقطر بـ267 ألف طن، والبحرين بـ216 ألف طن.
وفي حين يعدّ نقص التغذية، بحسب منظمات أمميّة، ومؤسساتٍ غير حكوميّة، من بين أكبر التحديات المطروحة على الساحة الدولية، حيث أن ثلثيّ الأطفال في الدول النامية يعانون من سوء التغذية الذي يؤدي إلى وفاتهم في سن مبكرة، فإنّ إحصائيات معهد "الموارد العالمية" تكشف أن تكلفة التبذير الغذائي تبلغ عالميًا نحو تريليون دولار سنويًا، ما يكفي لإطعام جميع فقراء العالم. بدورها، تكشف أرقام منظمة الأغذية والزّراعة (الفاو) التّابعة للأمم المتحدة أن نحو 1.3 مليار طن من الإنتاج العالمي للموارد الغذائية يتمّ إهداره سنويًا.

رمضان في القدس القديمة 

التبذيرُ، إذًا، هو معضلة عالمية ستقف حجر عثرة، حتمًا، أمام برامج التنميّة المستدامة، وتطلّعات 2030، ولا تقتصر شروره، بالتالي، على سلوكياتِنا في رمضانِنا، ولكن، من المقلب الآخر، حين يرتبط شهر رمضان، شرطًا، بالتّبْذير، وهو الشّهر الذي يُفترض أن أهم غائياتِهِ والمغْزى منه الزّهد بِمباهجِ العيش، والسيطرةِ على الغرائز، وترويضِ النَّفس البشريّة، ومقاومةِ مواطنِ ضعفِها، والشّعور مع الفقراء والمُعدمين، والتّكافل بين الصائمينَ العابِدين، فإن هذا التبذير يصبح وصمةَ عارٍ تسيء إلى فكرة الصيامِ من أساسِها، وإلى قيَمِهِ وروحِه.
الشعب الفلسطينيّ، أو معظمِه، خصوصًا في غزّة العزّة، تخلّص، أو فُرِض عليه التخلّص، سيّان، من معظم هذه السلوكيات التي صارت سلسلةً كونيّة تنتقلُ من حلقةٍ إلى أخرى، ومن طامّةٍ إلى مَكْرهة. وهو بِما أقامَه من علاقةٍ عضويّة مع أعشاب بريّته، وممْكِنات بيئتِه، وبِما أُرغم على التكيّف معه من قلّة الغِذاء والدّواء، كوّن، حتى ولو قسرًا، مَنَعَته الذاتيّة، وصلابَته الدّفاعيّة، وزهدَه المترفّع عن نزعاتِ الاستهلاك، ونَهمِ الشّراهة، وضيقِ العيْن، وبؤسِ التشوّف والتشوّق نحو ما عند الآخرين.




في رمضان الذي بات يرتبط، كما أسلفنا، حُكمًا، بِمختلف مظاهر الاستهلاك، وصار موسمًا استثنائيًا للمُتكسّبين وصيّادي الفُرص الاستثماريّة، ولصوص اللعب على وترِ بعض المعتقدات والعادات والطّقوس والسلوكيّات، يصبح عَقْدُ هذه المقارنة بين ما كانت عليه حال رَمضانات ما قبل الطوفان وَرَمضانات ما بعده، ضرورةً موضوعيّة، ليس من باب تعزيةِ أهلنا الذين شعر كثيرٌ منهم بِالحسرة مع هُلولِ (مِن هلَّ ومِن الهِلال) رمضان هذا العام، وإن كانت المواساةُ بحدِّ ذاتها لا بأس بها ولا بدّ منها، ولكن من باب قرعِ جرس الاستيقاظ من غيبوبة الَّلحاق بِصرعات الاستهلاك كأننا منوّمون، فاقدو إرادة، معدمو عقل، ورافضو تعقّل.
كَسَرَ رمضان الطوفان، بالتالي، سلسلةَ الاستهلاك فارضًا علينا إعادة نظرٍ مفصليّةٍ بِما كان منّا، وتحمّل مسؤوليات ما علينا أن نتبنّاه في مُقبل أيامِنا على وجه العموم، ورمضاناتِنا على وجه الخصوص.

اجتيازُ العوائِق...
وحين تعيد شعوبنا العربية النّظر بما ابتُليتْ به من تقليدٍ أعمى لأنماطِ الاستهلاك الغربيّة، والاستلابِ لِمقاييسهم وتفضيلاتِهم وَموسيقاهم ومواضيعِ أفلامِهم، وحين لا تتبنّى شعاراتِهم كأنها مسلّمات، ولا تنخدعُ بديمقراطيّتهم كأنها كتابٌ منزَّلٌ من السّماء، فإنها تكون فعلًا قد قطعت الخُطوة الأولى نحو ألفِ ميلِ اجتيازِ عوائقِ نهوضِها من جديد.
المقاومة الفلسطينيّة فاجأت العالم كلّه حين صنعت سلاحَها من العدم (الياسين 105 نموذجًا فذًّا)، وَبنت مقدّراتها بِقواها الذاتيّة؛ مدّت شبكة اتصالات استغنت من خلالها عن شبكة اتصالات عدوّها، وعن أي شبكة اتصالات أُخرى، أعادت تصنيع متفجّرات قديمة، أسّست عناوين إعلامِها الخاص بِها، وأقامت عِمارة أنفاق معقّدة مستفيدةً من عقول أبنائها، منفتحةً على تجارب العالم الآخَر (الآسيويّ واللاتينيّ والأفريقيّ وغيره) من دون أن تخضع لِوجهات الغرب حصرًا، وفرْضِهِ نفسه كأُستاذ تجارب وَعميد نجاحات وَبارون تِجارات. أما بخصوصِ أنماط استهلاكِها الغذائيّ والسلوكيّ فإن بضع تمرات تكفي المقاوم، كَما يبدو، كي ينهض ويخرج من قلب الأنفاق ويجندلَ الرؤوس ويغرْبل الآليات ويعيدَ ترتيب موازين القوى، وهو يفعل كل ذلك تحت الضغط ومن أعمق أنّات الموت، بهدوءٍ وثباتٍ وتركيزٍ وبسالةٍ عزّ نظيرها. وَكما يبدو جليًّا فإن إطالة أمد الحرب والعدوان لا تفتّ من عضده، ولا تقلّل من عزيمته، ولا تجعله ينسى بين كل فترة وأُخرى صَدْمَ العدوّ ببعض مفاجآتِه. فهل لو كان شباب هذه المقاومة الأبيّة ممّن ينأسِرون لِقيم الاستهلاك الغربيّ، وممّن تأخذهم عَوارض الدّنيا وتخْدعهم بَهارج الدّعاية ومفاتِن الألوان، هل كانوا سيصمُدون كلَّ هذا الصّمود، ويبْدعون كلَّ هذه البطولات المستحيلة؟
رمضان بالنسبة لهم شهر جهادٌ وانْتصارات وإنْجازات، ارتقاءٌ بنّاء فوق الشهوات والنّزعات والهِنات. شهر عطاءٍ وقرآن، ورِماحٌ فوق أسنّة العَنان.
بهذه المعاني، فَهِمَ جيلٌ جديدٌ من أبناء أمّة الضّاد، شهر رمضان أعتقوهُ من قيودِ ارْتهانِهِ لصورةٍ نمطيّةٍ كادت تلتصق به فَلا تبْرحه، حرّروه من سلاسِل لا تُشبهه. بهذه المعاني رفض أهل غزّة الخنوع رغم الجوع، تمترسوا فوق أرض أجدادهم بعد أن باتوا يعرفون موسم كلّ عشبةٍ تنبت كما يحلو لها أن تنبت في بَراري صمودهِم. ومن بين خرائبِ بيوتِهم التي كانت، نبتت زهور الأرض بِأزهى ألوانِها.

قناديل التحدّي...
ولأن الصمود عنْدَهم فكرةٌ وعقيدةٌ وَنَهْجُ حياة، فقد أشعلوا لرِمضان الطوفان القناديل... أنشدوا للصّغار الأناشيد النبويّة والأغاني الوطنيّة، يريدون أن يخفّفوا عنهم، ويزرعوا في أعماق وجدانهم شكلًا آخر لِرمضان غير الذي تتغنّى به قَنواتٌ عربيةُ اللغة عبريةُ الأجندات.

أطفال جباليا على موعد مع روح جديدة وأنماط استهلاك جديدة 

هذا ما فعلوه في مخيمات رفح المؤقتة لحين عودةٍ قريبةٍ إلى مدينة غزّة وَشمالها وَما حوْلها، وهذا ما فعله أبناء جباليا ومخيّمها، وَهذا ما فعلوه على امتدادِ القِطاع يُعلنون التحدّي، ويُشهرون في وجه مخطّطات التّهجير سلاح التطهّر من صورة الضحيّة المغْلوب على أمرِها. حتى مُعايدتهم ومُعايدة كثيرٍ من الشعوب الشّقيقة لهم، فهي بصوت (أبو عبيدة) يقول: "نباركُ لِشعبنا العظيم ولِأمّتنا الإسلامية قُرْبَ حلولِ شهر رمضان المبارك... شهر الطاعات والجهاد والانتصارات... وإنْ كان المسلمون في بقاع الدّنيا يستعدّون لاستقبال رمضان، فقد قدّمنا قربانًا لله، شلّالًا من الدِّماء الزكيّة، والأرواحِ الطّاهرة... استقبلناهُ بِذروةِ سنام الإسلام؛ بالجهادِ والرِّباطِ والقِتال في زمنٍ عزّ فيه الرِّجال".
ها هي القناديل تُنير درب النّصر الطويل، وَلكن الأكيد العنيد... ها هم صغارُ غزّة يحملون فوانيس الشهر الفضيل ويركُضون على امتداد البلاد مردّدين: (حلّو يا حلّو... حِلّوا الكيس واعْطونا... لا نريد صحْنين بِقلاوة... بل أعطونا رمضانَنا الجديد... أعطونا حلوانَ النّصر التّليد... نحن القيامةُ الكبرى وألْوان الفصْح المَجيد).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.