}

باسم خندقجي: نور بلون السماء

سمر شمة 9 مايو 2024


لم يكن الأسير والروائي الفلسطيني باسم خندقجي القابع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من عشرين عامًا منكسرًا أو مستسلمًا أو غارقًا في تفاصيل السجون المظلمة، القاسية، اللاإنسانية، واللاقانونية، بل استطاع أن يحول يوميات سجنه إلى ورشات عمل دؤوبة وطموحة ومبهرة وإلى نتاج أدبي وفكري وإنساني.

تمرد على السجن وسلطاته وداعميه من الشرق والغرب، وعلى السرديات الإسرائيلية الكاذبة عبر التاريخ، وحوّل قضبان المعتقل الحديدية الواهية إلى نوافذ وأبواب مشرّعة للحياة والإنجازات الاستثنائية البهيّة.

وقد فاز مؤخرًا بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2024 عن روايته "قناع بلون السماء" التي أفلتت من قبضة إدارة السجون ووصلت للعالم أجمع لتكون أول رواية عربية تُتوّج بجائزة يكتبها أسير وهو في السجن الذي قضى فيه حتى الآن نصف عمره.

تسلّمت الجائزة رنا إدريس، صاحبة دار الآداب التي نشرت الرواية، ويوسف خندقجي، شقيق الروائي باسم.

وجائزة البوكر سنوية تختص بمجال الإبداع الروائي في اللغة العربية ويرعاها حاليًا مركز أبو ظبي التابع لدائرة الثقافة والسياحة في الإمارات العربية المتحدة، وهي تحظى بدعم من مؤسسة " بوكر" في لندن، وتُعتبر من أهم الجوائز الأدبية المرموقة في العالم العربي.

تدور أحداث الرواية الفائزة حول الشاب نور الفلسطيني، عالم الآثار الذي يقيم في مخيّم برام الله، وذات يوم يجد هوية زرقاء في جيب معطف قديم اشتراه من سوق العاديات بيافا، فيرتدي قناع هذه الشخصية الإسرائيلية "أور" وينضم إلى بعثة تنقيب في إحدى المستعمرات، ومن خلال الأحداث تتجلى فلسطين المطمورة تحت التراب بكل تاريخها والمسافة الفاصلة بين نور الفلسطيني وأور الإسرائيلي، بين الهوية الزرقاء والتصريح، بين السردية الأصلية المهمشة والسردية السائدة الكاذبة.

صدرت الرواية عام 2023، وتُشكل ثنائية الوجه/ القناع الثنائية المحورية فيها إضافة إلى الثنائيات الفرعية.

نور مهدي الشهدي بطل الرواية يُعتقل والده قبل ولادته، وتموت أمه أثناءها، فيجتمع القهر والحزن والفقد واليتم واللجوء في روحه وقلبه، يُضاف إلى ذلك إعتقال صديقه ولون بشرته الأشقر الذي يجعل شباب المخيم وصبيته يصفونه بالأشكنازي، وهو المستوطن اليهودي في ألمانيا الغربية وشمال فرنسا في العصور الوسطى.

ولكن ورغم ذلك كله لا يستسلم بل يواجه هذه الظروف المريرة بقراءة الكتب والتاريخ وعلم الآثار، وكتابة بحث تاريخي عن مريم المجدليّة في محاولة منه لاستعادتها من المصادرة الاستشراقية التي قام بها المؤلف الأميركي لقصص الخيال والإثارة دان براون في روايته "شيفرة دافنشي".

ولكنه يجد أن المادة الأولية لا تكفي لهذا البحث، فيقرر كتابة رواية يستثمر فيها ما لديه من معلومات ويُضيف إليها دراسة المكان التاريخي الذي عاشت فيه المجدلية، وهو مكان تسيطر عليه قوات الاحتلال ولا يستطيع دخوله بهويته الفلسطينية، ولذلك عندما يعثر على بطاقة هوية باسم "أور شابيرا" يقرر التخلي عن وجهه الحقيقي وينتحل شخصية إسرائيلية وهذه الواقعة هي البداية الفعلية لأحداث الرواية.

الشخصية الرئيسة والمحورية هي شخصية نور الشهدي الذي يمارس مقاومة ثقافية للحصول على ما يريد مستخدمًا كل الوسائل والطرق ابتداءً من البحث العلمي مرورًا بالاستعانة بالأصدقاء وتزوير المستندات وانتحال شخصية وصولًا إلى التنقيب الأثري ومعاينة المكان التاريخي، هو شخصية صلبة، مناورة، ومراوغة وتؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة.

وهناك أيضًا عدد من الشخصيات الرئيسية منها:

مراد: الأسير في سجن الاحتلال والذي يقاوم من خلال متابعة الدراسة والاهتمام بالكتاب والشباب، ويدعو صديقه نور إلى مناقشة كل الموضوعات التي تعرّي الاحتلال، بينما يقوم نور بتسجيل رسائل صوتية له يتحدث فيها عن هواجسه وكأنه يريد التحرر من شعوره بذنب ارتداء قناع المحتل.

سماء إسماعيل: فتاة فلسطينية من يافا، تحمل الجنسية الإسرائيلية ولكنها تكره الاحتلال وممارساته العنصرية، وتفضح أكاذيبه دائمًا وتدعو إلى مقاومته بكل الوسائل والطرق وتدعو نور دائمًا لاستعادة وجهه الفلسطيني الحقيقي.

أم عدلي: هي المرأة الفلسطينية الصابرة التي تواظب على زيارة ابنها المعتقل مراد في سجنه رغم صعوبة ومرارة الذهاب والإياب وكل التفاصيل المرافقة للزيارة.

الشيخ مرسي الغرناطي: شيخ من حي السلسلة المقدسي يساعد نور دائمًا ويدعمه، ويقاوم المحتل في شتى الميادين.

رسالة شكر من الكاتب والروائي باسم خندقجي إلى القائمين على جائزة البوكر للرواية العربية (عن صفحة خالد أديب خندقجي على فيسبوك)


أما الحضور الإسرائيلي في الرواية فيظهر عبر شخص "أور شابيرا" المُنتحل الذي يلعب دور القناع والقرين لنور ويتجاذب معه في شخصية واحدة، إضافة إلى شخصية "ناتان خودروفسكي"، الضابط الأمني الصهيوني، و"أيا لاشرعابي"، الطالبة اليهودية الجامعية التي تكره العرب وتحقد عليهم وتحاول دائمًا إيذاء سماء والتشكيك بولائها للاحتلال وهي من أصول سورية.

الملفت للانتباه في الرواية أن الدور المقاوم بالمعنى المباشر لا يقع على شخصية محددة وإنما على قيام أحد التنظيمات الفلسطينية العسكرية بإطلاق الصواريخ في نهاية الرواية التي تشهد خروج نور من "الكيبوتس" المقام على أراضي قرية أبو شوشة التي جرت فيها أشرس المعارك عام 1948 ووقوف سماء بسيارتها بانتظاره لتأخذه إلى رام الله فيما هو يُخرج هاتفه ويعيد برمجته من العبرية إلى العربية.

تعتبر الرواية الجزء الأول من رباعية "المرايا" للأسير خندقجي، وموضوعها الأساسي تصحيح السردية الإسرائيلية والغربية الكاذبة عن الأحداث في فلسطين والقضية الفلسطينية والتأكيد على أراضي الشيخ جراح بصفتها قضية مهمة جدًا، وعلى أن الحركة الصهيونية استخدمت الهولوكوست لتحويله إلى مبرّر دائم للتطهير العرقي والإبادة الجماعية.

يطرح خندقجي في روايته أسئلة كبيرة تدل على حالة الاغتراب التي يعيشها: من أنا، من أبي، أين هويتي، ماذا أفعل هنا، وماذا سيفعل الأميركيون المشاركون في بعثة التنقيب إذا كشفوا وجهي الحقيقي؟.

كما يشير خندقجي إلى إجرام الاحتلال الذي لا يتجلى في المجازر والحروب الدموية فقط، بل أيضًا في تفاصيل الحياة اليومية التي تُنتهك فيها حقوق وكرامات الفلسطينيين المرغمين على ارتداء قناع العدو أحيانًا. وينتقد أيضًا في روايته تزوير التاريخ والممارسات التعسفية بحق المناضلين، إضافة إلى السجن الأكبر والأصغر، وتغيير معالم التاريخ والجغرافية خدمة لأكاذيب الصهاينة.

أكد بيان جائزة "البوكر" على أن ما يميز هذه الرواية هو بناء الشخصيات والتجريب، واسترجاع التاريخ وذاكرة الأماكن والسردية متعددة الطبقات. وقال عنها رئيس لجنة التحكيم، الناقد والروائي السوري نبيل سليمان، خلال حفل توزيع الجوائز: إنها "رواية تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات – وعي الآخر – وعي العالم، حيث يرمح التخييل مفككًا الواقع المرير، كما اشتبكت فيها وازدهت جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر، وتوقد فيها النبض الإنساني وصبوات الحرية والتحرر".

وقالت رنا إدريس، مديرة دار الآداب: "إن هناك مجموعة من النقاط التي تميز الرواية، وإن هذا الأمر صاحبه حالة من الإجماع بأن النص الروائي ممتاز، إن نشر صوت باسم جاء من ضمن الأشياء المبهجة، إن الرواية تستحق الفوز".

وأشارت معظم تعليقات الكتاب والنقاد إلى أننا أمام تجربة استثنائية، وأن الفوز وما سيعقبه من دعاية وترجمات للرواية سوف يقدم خدمات عظيمة للقضية الفلسطينية؛ وأن "هذا الفوز إنتصار لفلسطين ولأدب المقاومة وحضور طاغ لكل الحالة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية المطحونة تحت وحشية الآلة العسكرية الصهيونية".

وقال بعض المهتمين والمختصين بالأدب: إن من الواضح أن اتساع مدارك خندقجي نتيجة ثقافته العميقة التي حصل عليها بعد الحكم عليه بثلاثة مؤبدات قد عكست نفسها على عالمه الروائي بكل الإشارات التاريخية للأماكن والوقائع ولكل الشخصيات التي يسردها.

الجدير ذكره أن غالبية أعمال خندقجي تّرجمت إلى الفرنسية وأنه يتعرض منذ فوزه بجائزة "البوكر" إلى حملة تحريض كبيرة وممنهجة من الاحتلال وأدواته الإعلامية والأدبية.

تقول سناء إسماعيل الفتاة الفلسطينية لنور حين يعترف لها بأنه فلسطيني: "أنتظر عمرًا كاملًا للخلاص من هذه الهوية، وأنت خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع".

ويقول نور مخاطبًا صديقه في الرواية: "مراد يا صديقي سأبوح لك الآن بسرّي، سأعلمك بكل تناقضاتي وترهاتي، أنا أجد متعة هائلة بنجاحي في تمرير شخصيتي كأور شابيرا، هذا الاسم مذهل، القناع يمنحني اكتفاء تامًا، هو انتهاك بحد ذاته للإسم الآخر الذي انتهكني منذ وُلدت من رحم الأزقة".

ولد الروائي خندقجي في مدينة نابلس عام 1983، ودرس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية فيها، كتب القصص القصيرة حتى اعتقاله عام 2004، وكان يبلغ من العمر 21 عامًا، عاصر جرائم الاحتلال خلال الإنتفاضة الأولى وأثّرت الأحداث على توجهاته السياسية، التحق بصفوف حزب الشعب الفلسطيني وكان عمره آنذاك 15 عامًا، وتمّ اعتقاله وهو في سنته الجامعية الأخيرة على أيدي قوات الاحتلال بعد عملية "سوق الكرمل" التي قُتل فيها ثلاثة إسرائيليين وأكثر من خمسين جريحًا، ورغم أنه لم يقم بأي نشاط عسكري خلال العملية تمّ اعتقاله وحُكم عليه بثلاثة مؤبدات.

بدأ رحلة الكتابة داخل السجن من خلال "مسودات عاشق وطن"، وهي عبارة عن عشرة مقالات عن هموم الشعب الفلسطيني وقضاياه، و"هكذا تُحتضر الإنسانية" وهي عن تجربة الأسير الفلسطيني داخل المعتقلات الإسرائيلية، وديوان شعر بعنوان "طرق على جدران المكان" و"شبق الورد أكليل العدم"، ودراسة عن المرأة الفلسطينية، وكتاب بعنوان "أنا الإنسان نداء من الغربة الحديدية".

أصدر أيضًا عددًا من الروايات: "مسك الكفاية" 2014 عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، وهي عن السبيّة اليمنية المقّاء بنت عطاء بن سبأ التي تحولت إلى الجارية الخيزران، زوجة الخليفة العباسي المهدي وأم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد وعن الدور الخطير لذي لعبته في تاريخ الدولة العباسية، ويقع الكتاب في 341 صفحة من القطع الكبير، ويحتوي على عشرين فصلًا: "مسك الكفاية أو سيرة سيدة الظلال الحرة".

وصدر له "نرجس العزلة" عام 2017 عن المكتبة الشعبية – نابلس، وقد طرح الكاتب فيها أسئلة كبيرة تتعلق بالذات والجماعة والواقع الفلسطيني المؤلم الذي يتعرض لمشكلات سياسية واجتماعية كبيرة.

وكذلك "خسوف بدر الدين":  صدر عام 2018 عن دار الآداب ببيروت ويتمحور حول الصوفي بدر الدين محمود الذي يعيش تناقضات كبيرة تجعله متأرجحًا بين التمرد على السلطة والتلوث بفسادها وإغراءاتها، وعن الصوفية في العصر المملوكي.

تجدر الإشارة إلى أن روايته "قناع بلون السماء" التي أصدرها وهو في سجنه المؤبد لا تتناول تجربته الشخصية في المعتقل، ولا تنتمي إلى أدب السجون المتعارف عليه بل تختلف عنه كثيرًا لأنها لا تجسّد معاناته اليومية وأوجاعه وحياته الخاصة داخل السجن.

كتب باسم خندقجي أيضًا ومنذ بداية سجنه مجموعات شعرية عديدة مثل:

"طقوس المرة الأولى" 2010، و"أنفاس قصيدة ليلية" 2013 وفيها قال "المكان أنا وأنا وطني" وقال:

من أنت في أرجاء الهشاشة

والإباحة وأزقة الرخص

والأسود المبتذل. من أنت.

استطاع الروائي والشاعر والمناضل الفلسطيني باسم خندقجي الانتصار على ظلام السجون وأوجاعها التي لا تندمل، وسخر بقهر من جرائمها التي تُرتكب ليلًا نهارًا. اقتلع جدرانها وقضبانها ووحشيتها الفاصلة بينه وبين الناس والحياة ليقول للعالم بأسره: "ليس ثمة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلا عندما تُرتكب فيه المجزرة، ليصبح اسمًا من أسماء: شاتيلا، أو جنين، أو الشاطئ". أو ربما غزة التي تواجه أبشع عملية إبادة جماعية منذ سبعة شهور بينما العالم العربي والغربي والأوروبي في جزء كبير منه يرتدي قناع "أور شابيرا" يتفرج عبر الشاشات ويُحصي أعداد الشهداء والجرحى والمشردين والمفقودين وضحايا المجاعة الكبرى أما باسم فهو ما زال أسيرًا ومعتقلًا في سجن "هداريم" يهتف قائلًا:

خذني ذرة تراب، خيط دخان

خذني من هولي، من الوطأة البكر

التي أحملها على كاهلي، أنا الضحية

فمن المجرم، من الجريمة.

مراجع ومصادر:

- "أدب الحركة الأسيرة، باسم خندقجي نموذجًا": 

https://shorturl.at/itvxV

- وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية – وفا.

- بوابة فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.