}

هل يعيد "البودكاست" الشعر الفصيح إلى أحضان الجمهور العربي؟

 

تمكنت برامج "البودكاست" التي تتحدث عن الشعر والشعراء العرب القدامى من تحقيق نسب مشاهدات عالية جدًا على منصة "اليوتيوب" بعد فترة وجيزة من عرضها، وهي تسجّل تفاعلًا قياسيًا برز في التعليقات الكثيرة على حلقاتها من الجمهور العربي، الذي أظهر تعطشًا للشعر الفصيح وتعلّقًا بسحر اللغة العربية وحنينًا لأمجاد الأجداد والأدباء العرب من الجاهلية إلى العصر الحديث.

نجاح في بيئة غير مشجعة

إن المتابع للساحة الثقافية في الوطن العربي يلاحظ بشكل عام توسّع اهتمام الجمهور بالرواية كجنس أدبي والإقبال عليها على حساب الشعر، وانعكاس ذلك على البرامج الثقافية، الإذاعية والتلفزيونية، التي تسجل إقبالًا محدودًا من الجماهير العربية.

في ظل هذه البيئة التي تبدو غير مشجّعة على اقتحام مجال الشعر الفصيح، ظهرت العديد من برامج "البودكاست" الموجّهة للجمهور العربي، والتي تضعه وجهًا لوجه مع حكايات، قصائد وطرائف أشهر الشعراء العرب من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وتنقل مآثرهم، قصص عشقهم وما قالوه أو قيل فيهم.

وكانت النتيجة مئات الآلاف، بل ملايين من المستمعين والمتابعين لهذا المحتوى، الذي جمع بين أصالة اللغة العربية الفصحى وقوتها وبين سحر القصائد وطربها وجمال القصص ورواتها، وتمكن من إعادة الشعر الفصيح إلى أحضان الجمهور العربي الذي يتفاعل معه ويطالب في تعليقاته بالمزيد.

حلقات متنوعة وملايين المستمعين

يقودنا الحديث عن هذا التفاعل إلى الحديث عن واحد من أبرز برامج "البودكاست" الذي تناول قضايا الشعر واستقطب ملايين المستمعين، ألا وهو "وحي القصيد" والذي يقدّمه على منصة "تنوين" يوسف موسى، ويتضمّن حلقات مختصرة في حدود ربع ساعة عن سير أشهر الشعراء وقصائدهم، على غرار الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، وقصيدته الشهيرة "سلام على بغداد" استعرض فيها كيف بدأ كتابة الشعر والمواقف التي حصلت معه، وأبياتًا من قصائده.

وفي حلقة خاصة عن شاعر الحب والصحراء "غيلان بن عقبة العلوي، ذو الرمة"، حقق البرنامج أكثر من ربع مليون مشاهدة، بينما حققت حلقة "جرير والفرزدق، سباق الهجاء" نصف مليون مشاهدة، سرد فيها مقدم البرنامج قصة حزن جرير على وفاة الفرزدق وكيف رثاه بعدما هجاه حيًا. وفي نفس السياق، جاءت حلقة "ابن زريق البغدادي" لتحقق أكثر من مئة ألف مشاهدة في وقت قصير، بينما شاهد حلقة "أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس" ما يقارب مليون مستمع على اليوتيوب.

ولم تحقق السير وحدها هذا العدد الكبير من المتابعين، بل كذلك فعلت القصائد، إذ حققت قصيدة "أراك عصي الدمع" لأبي فراس الحمداني التي ألقاها يوسف موسى، نصف مليون مشاهدة، مثلها في ذلك مثل بكائية مالك بن الريب، أما قصيدة "أخي جعفر" لمحمد مهدي الجواهري فوصلت إلى ربع مليون مشاهدة على غرار قصيدة "أرسلت روحي" لنادر شاليش. وتمكنت قراءات القصائد هذه في "وحي القصيد" من جذب الجماهير العربية بشكل كبير.

من جهته، نجح "بودكاست أسمار" على منصة مايكس من خلال حلقاته التي تتناول قصص الشعراء وقصائدهم في جذب الجمهور العربي المتعطش للشعر العربي الفصيح. "البودكاست" يجمع الثلاثي عبد الله العنزي، فيصل الشهراني وحمود الصاهود في جلسة دردشة عن قضايا الشعر ومآثر الشعراء وطرائفهم، ويلقون فيها أبيات من قصائدهم حيث تتجاوز مدة الحلقة الواحدة الساعة والنصف الساعة، وحقق ملايين المشاهدات على اليوتيوب.

ومن أبرز الحلقات المسجلة جاءت حلقة "الشعراء والعشاق" لتحقق ما يقارب نصف مليون مشاهدة وتفاعلًا واسعًا مع موضوعها عن العشق والغزل العذري، ورواده على غرار امرئ القيس، عروة بن حزام، قيس بن الملوح، وغيرهم.

وهكذا تعددت الحلقات وتنوعت مواضيعها، وجذبت الجمهور، إذ حققت حلقة "العشق داؤنا الجميل" أكثر من مئة ألف مشاهدة في ظرف ثلاثة أشهر فقط، وسجلت حلقة "قصائد الحماسة والقتال" ورفض الذل لدى العرب، التي جاءت في ساعتين من الزمن، ما يقارب نصف مليون مشاهدة. وهي أرقام تعكس مدى اهتمام الناس بالشعر العربي الفصيح.

جمهور واسع وتفاعل كبير

وبغض النظر عن نسب المشاهدة المرتفعة التي حققتها حلقات برامج "البودكاست" عن الشعر والشعراء العرب، جاء تفاعل الجمهور الواسع من المستمعين لافتًا للانتباه، من خلال كثرة التعليقات وقوتها. وكشفت التعليقات مدى تعلق الجمهور بالمحتوى واستحسانه، ومدى تعطشه للغة العربية والشعر الفصيح. وهناك من اعتبر عثوره على هذا المحتوى في اليوتيوب بمثابة العثور على كنز عظيم في ظل انتشار البرامج السطحية والتافهة كما يصفونها.

وتنوعت التعليقات بين من يشيدون بالحلقات ويرون فيها جزءًا من هويتهم العربية التي غيّبتها التكنولوجيا، كما جاء في قول أحدهم: "ما أجمل أهلي وأقحاح العرب عندما يتكلمون في أمجاد الأجداد"، وفي قول آخر: "إنكم تعيدون إحياء الكائن العربي فينا"، وبين من يقترحون تمديد مدة الحلقات أو تكثيفها أكثر، وذهبوا إلى حد المطالبة بأجزاء أخرى من بعض الحلقات، على غرار حلقة "الشعراء العشاق"، لأنها تطربهم ويبدو لهم أنه ما زال للضيوف ما يقولون في الموضوع.

حققت حلقة "جرير والفرزدق، سباق الهجاء" نصف مليون مشاهدة، سرد فيها مقدم البرنامج قصة حزن جرير على وفاة الفرزدق وكيف رثاه بعدما هجاه حيًا


في المقابل، الكثير من المتابعين راحوا يدوّنون في التعليقات الأبيات الشعرية التي أعجبتهم في هذه الحلقة أو تلك، على غرار البيت الشعري: "وما عجبي موت المحبين في الهوى... ولكن بقاء العاشقين عجيب"، وهناك من كتب أنه ظل يردد البيت الشعري لأيام بسبب روعته، ومنهم من أنشد أبياتًا في مدح الضيوف أو اقتبس بيتا للتعبير عن إعجابه بما يقدمونه، كما ورد في قول أحد المتابعين: "الصمت في حرم الجمال جمال... محبة عظيمة لكم من العراق"، وفي موضع آخر كتب متابع: "ألا مبلغ عني فيصل الشهراني لله درك في استشهاداتك وقراءتك الشعرية... لا يكاد يقرأ الشعر بإلقائك حتى كأنما يفيق من رميم". ولا تكاد تخلو التعليقات من كلمات الاعتزاز باللغة العربية والحنين إلى الشعر الفصيح والتعبير عن متعة الاستماع لإلقاء القصائد وحكايات وقصص الشعراء.

كيف حقق "البودكاست" هذا النجاح؟  

إن المتمعن في حلقات "البودكاست" جيدًا من حيث الشكل والمحتوى يدرك أن نجاحه في الوصول إلى الجمهور العربي وجذبه للشعر الفصيح ليس صدفة، وإنما يستند إلى عدة مقوّمات ومؤثرات منها ما هو متعلق بالمضمون في حد ذاته ومنها ما هو متعلق بالمستمع واحتياجاته.

في البداية، يظهر اعتماد منتجي "البودكاست" على التكنولوجيا وتوظيف الذكاء الاصطناعي والإنفوغرافيا في صناعة المحتوى باعتبارها عوامل جذب بصرية للمستمع. وبرز ذلك بشكل واضح جدًا في حلقة "جرير والفرزدق"، من برنامج "وحي القصيد"، حيث تم تحريك صور الشاعرين وإظهارها ملونة وناطقة، وكأنهما يقرآن الشعر باستخدام الذكاء الاصطناعي، وأثرت هذه الحركة على المتابعين الذين كتبوا في تعليقاتهم وكأنهم يستمعون إلى هذا الثنائي فعلًا، معلقين: "من كثر ما درسنا عنهما أصبحا من أصدقائنا".

وبصفة عامة، يمكن القول إن "البودكاست" اعتمد على الوسائط المتعددة من نصوص، رسومات، صور ثابتة ومتحركة، لقطات فيديو بطريقة متكاملة ومتنوعة أضفت على المادة البهجة والاستمتاع.

من جانب آخر، نجد أن وضوح الصوت، النطق الصحيح، مخارج الحروف، الفصاحة، طريقة إلقاء القصائد والاسترسال في سرد الحكايات، كلها عوامل ركز عليها أصحاب "البودكاست"، ما جعل المحتوى يصل إلى الجمهور بطريقة سهلة، خفيفة وجميلة في نفس الوقت، وهو فعلا ما استحسنه المتابعون في تعليقاتهم، بالقول "لو تلقينا في المدرسة هذا المحتوى بنفس الطريقة لما وجدنا مشكلة في استيعابه وحفظ القصائد". وفي قول آخر: "ما أجمل لغتنا لكن اللهجات غطت عليها".

ويظهر من خلال التعليق الأخير الاعتزاز اللغوي لدى المستمعين، ونشير هنا إلى ما ذهبت إليه الباحثة نعيمة شلغوم في ورقة بحثية حول الاعتزاز باللغة العربية في عصر الهويات المفتوحة، في قولها إن هذا الأخير يُعتبر مبدأً أولًا من مبادئ المواطنة اللغوية كما وصفتها، واستفاقة أبناء العربية لنصرة لغتهم للدفاع عن هويتهم في الوقت ذاته، لأن اللغة هي معلم بارز في تحديد الهوية وإثبات الذات.

ويقصد بالهوية، حسب الباحثة، الإحساس بالانتماء إلى جماعة أمة لها خصائص ومميزات ثقافية، نفسية وتاريخية مشتركة، وفي جانبها الفردي الشعور الواعي للفرد بشخصيته وسعيه للإبقاء عليها والحفاظ على التضامن الداخلي بين وعي الجماعة وخصائص الشخصية الفردية، واعتبار العربية ليست لغة تخاطب، بل وعاء ثقافي، وقد برز هذا العامل في تفاعل الجمهور مع محتوى "البودكاست" عن الشعر الفصيح والشعراء العرب، إذ لا تخلو التعليقات من عبارات الاعتزاز اللغوي والهوية العربية.

حاسة السمع عامل نجاح قوي

إن جميع عوامل نجاح "البودكاست" في جذب الجمهور إلى الشعر العربي الفصيح السالفة الذكر لا تكتمل إلا بعامل أساسي ألا وهو "حاسة السمع" وقوتها في الاتصال، ويمكن أن نستشهد هنا بما ذهب إليه هشام فروم ومحمد رضا بركاني، في ورقة بحثية عن الانغماس اللغوي، والقول بأن حاسة السمع أسبق من الحواس الأخرى وأكثرها دقة.

وهذا أمر يؤكده علماء التشريح الآن، فالجهاز السمعي يمتاز على البصر بإدراك المجرّدات كالموسيقى والتداخلات مثل حلول عدة نغمات داخل بعضها، والاستماع عملية تتسم بوعي المرء وانتباهه للأصوات أو أنماط الكلام، وتستمر من خلال تحديد إشارات سمعية معينة والتعرف عليها وتنتهي باستيعاب ما تم الاستماع له، ولهذا جعل ابن خلدون "السمع أبو الملكات اللسانية".

ويرى البعض أن الاستماع نوع من القراءة لأنه وسيلة للفهم ووسيلة اتصال لغوية بين المتكلم والسامع، وإذا كانت القراءة الصامتة قراءة بالعين والقراءة الجهرية قراءة بالعين واللسان فإن الاستماع قراءة بالأذن تصحبها العمليات العقلية التي تتم في كلتا القراءتين الصامتة والجهرية.

وبهذا يمكن أن نفسّر الإقبال الكبير من الجماهير على الاستماع لبرامج "البودكاست" باللغة العربية الفصحى واعتبارها نوعًا من القراءة واعتزازًا لغويًا، لا سيما في ظل التحديات التي واجهت هذه اللغة ودفعت الكثير من أبنائها إلى هجر المستوى الفصيح والاكتفاء بالمستوى العامي وخلقت لديهم أزمة هوية إذ أصبحوا لا يعيشون اللغة التي تنتمي إليها ثقافاتهم وأرضهم وإنما تلك المهيمنة في التواصل الدولي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.