}

معرض "غزة" في بيروت: روح التمرّد على الظلم

دارين حوماني دارين حوماني 14 أغسطس 2024
هنا/الآن معرض "غزة" في بيروت: روح التمرّد على الظلم
صالة المعرض

معرض "غزة" الذي تنظّمه مؤسسة الدراسات الفلسطينية في مبنى المؤسسة في بيروت بالشراكة مع دار النمر للفن والثقافة في بيروت وبالتعاون مع المتحف الفلسطيني، ليس مجرّد معرض للوحات وصور وفيديوات تعبّر بطريقة أو بأخرى عن فكرة، أو حدث، أو شخص، أو مكان ما، هذا المعرض هو صرخة مستدامة في وجه الإبادة والقتل المجاني والعبثي، وفي وجه الوحشية الإسرائيلية التي لم يشهد التاريخ وحشية  مثيلة لها... هو صرخة من مكان يتألم، كائناته استسلموا لفرضية "أنتم السابقون ونحن اللاحقون"، كما عبّر عنها الصحافي أنس الشريف، عقب استشهاد زميله إسماعيل الغول الذي بدوره كان يقول "إحنا مستشهدين مستشهدين"، هو انتظار الموت الذي قال عنه الفيلسوف مونتاني "دعونا نتدرّب ونتعوّد عليه، دعونا لا نفكر في أيِّ شيءٍ غير الموت في جميع الأوقات، دعونا نعرضه على مخيّلتنا ونتعرف عليه في أيِّ وجهٍ يأخذه. بما أنه من غير المؤكد أين ينتظرنا الموت، فلننتظره في كل مكان".

ولكن ألم تقل النصوص المصرية القديمة "ستصحبنا في لحظة الموت مشاعر الرضى لكوننا تركنا خلفنا وجودًا حاولنا أن يكون جميلًا"، هذا الوجود الجميل يتمثّل فيما خلّفه الرائعون في غزة من صحافيين وفنانين وشعراء ومبدعين غزّيين حاولت آلة المحو الإسرائيلية قتل أكبر قدر منهم لعلمها بقدرة الفن والكلمات على تخليد الذاكرة والتراجيديا الفلسطينية. يقول ذلك النص المصري القديم: "كلماتي كالشجرة، أصعد وأبحر، فالبوابات مفتوحة لي... والحقول مفتوحة لي... أعطيت الأخوة إرثًا لي" (*)، هو نفسه ذلك الإرث الجميل الذي تشكّل لوحات معرض "غزة" جزءًا منه... 

اختار القيّمون على المعرض عمل "المدينة الصلبة" لمحمد جحا كملصق للمعرض، وشارك ضيا مراد بعمل "غزة في بيروت" 


يضمّ معرض "غزّة" أعمالًا لأكثر من أربعين فنانًا من غزّة ومن خارجها، وقد تناولوا غزة في أعمالهم. منهم فنانون لا يزالون على قيد الحياة ومنهم فنانون رحلوا لكنهم لا يزالون على قيد الحياة، أصرّوا على تمثيل الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين فنيًا. وتقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيانها: "هذا المعرض الفني ليس عاديًا، وليس نشاطًا تضامنيًا مع غزّة، وأيضًا ليس وقفة احتجاجية أمام السفارات أو وزارات الخارجية أو المكاتب الرئاسية أو في ساحات العواصم، وإنما هو محاولة متواضعة جدًا للحفاظ على إنسانيتنا ولإثبات أننا أحياء"، وبهذا المعنى فإن المؤسسة تؤكد على دور هؤلاء الفنانين ضمن أدوار أخرى في المحافظة على روح غزة المتمرّدة على الظلم منذ بداياتها.

والفنانون المشاركون في المعرض هم: أريج قاعود، أسامة بعلبكي، أمجد غنام، أمل النخالة، إنغريد رولما، إبراهيم المزين، بطرس المعرّي، تمام الأكحل، تيسير بركات، تيسير البطنيجي، جهاد جربوع، حازم حرب، حسين ماضي، حسين ناصر الدين، خالد جرادة، دينا مطر، ضياء مراد، رائد عيسى، رانيا ستيفان، ساهر نصار، سلمان النواتي، شادي الزقزوق، شريف سرحان، شيرين عبد الكريم، شيماء حسنين، سمية صبيح، عبد الرحمن المزين، عمران القيسي، عيسى ديبي، فايز الحسني، فتحي غبن، فوزي العمراني، كامل المغني، ليلى الشوا، ليلى حمزة، ماهر ناجي، محمد أبو سل، محمد الحواجري، محمد الركوعي، محمد جحا، محمد المفتي، مريم صلاح، مؤيد أبو أمونة، نيل وود، هاني علقم، هاني زُعرب، وائل السوسي ووسيم السعدي.

"أين أخذوهم؟"، تمام الأكحل / "الملعب"، محمد المفتي 


كل عمل من أعمال هؤلاء الفنانين يشكّل صدى لصوت ما، لألم ما، وكل عمل له صداه، أعمال لا يمكن أن نراها دفعة واحدة، ثمة أعمال تجعلك تقف طويلًا وأنت تحلّل مستوى العذاب الذي تكتنزه، ومستوى الصوت الذي تكتنزه... تتوسّع إمكانات كل عمل ليشمل حزن غزة العميق كله. ثمة حزن مفرط يتخطى إطار اللوحة، أو الصورة، أو الفيلم القصير، تعبيرية مسرفة في التعبير، وواقعية مسرفة في واقعيتها، وسوريالية جاهزة للقفز من المكان، تفكّك الواقع بمروحة من الألوان والهويات الغزّاوية التي تفتح حوارًا معنا، ومع غزة نفسها، ومع ما تبقى من إنسانية في هذا العالم.

خيط من الأمل

اختار القيّمون على المعرض عمل "المدينة الصلبة" لمحمد جحا كملصق للمعرض؛ عمل يصوّر مدينة غزة ويشبهها انطلاقًا من العنوان وصولًا إلى الخلايا والجزيئات التي يتألف منها العمل، فالصلابة هي باطن غزة وظاهرها، وكما هو الواقع تنتشر الدبابات الإسرائيلية في كل شارع في اللوحة، دبابات تمارس ثقافة الإلغاء، لكنها لا تتمكّن منه، ورغم الليل الذي يسيطر على مدينة محمد جحا إلا أن خيطًا من الأمل يمرّ وسط ظلمة السماء.

أما تعبيرية أسامة بعلبكي فقد تداخلت مع واقعية الحدث في عمله "بلا عنوان"، لكن العمل يعنون نفسه بنبرة ذات عصب وهيكل، المقاوم الفلسطيني في غزة يحمل سلاح "آر بي جي" بين مبانٍ مدمرة وألوان رمادية وسوداء تسيطر على المدينة، مثل شيء سيبقى للذاكرة، هنا رفع المقاوم سلاحه من دون خوف بوجه الدبابة، أطلق صاروخه وعاد صامتًا، سوريالية حقّقها أبطال غزة، فعل ممسرح بالكامل وواقعي بالكامل، وثّقه بعلبكي بدون أن ينسى أن يلقي لونًا أصفر تحت قدميّ المقاوم كعلامة تحذير للمحتلّ ونفاد الصبر من وحشيّته...

ولتمام الأكحل لوحة "أين أخذوهم؟"، وكما هي كل أعمال الأكحل التي حملت وزوجها إسماعيل شمّوط همّ التعبير عن التجربة الفلسطينية الأليمة، تأتي هذه اللوحة لتستلهم من ما بعد الانطباعية شطحاتها اللونية القوية وقدرتها على هندسة الألم في الوجه واليدين، تلك العظام النافرة في يديه تشير إلى تراكم المسامير المغروزة في صدره، كل أصبع من أصابعه يشكّل مسمارًا في أرض غزة، فلن يبارحها... عجوز يحمل بين يديه صور أفراد من عائلته متسائلًا عن وجودهم، وعن وجوده هو، كأن هذا الرجل قفز من نكبة عام 1948 ووصل إلى مذابح عام 2023 وعام و2024، في تجسيد لمعاني البقاء بموازاة الفقدان المتواصل...

"جامع الأحلام"، خالد جرادة  / "بلا عنوان"، حسين ماضي


"جامع الأحلام" لخالد جرادة هو عمل توثيقي لجامع الجثث، أحد ما يجرّ تابوتًا قرب شاطئ غزة، بخطوط لونية بسيطة أوصل لنا جرادة الكثير من الحزن، مثله مثل حازم حرب الذي قدّم عملًا مفاهيميًا بعنوان "HOLLYLAND" حيث استعار من هوليوود أيقونتها الثقافية "HOLLYWOOD" في جبال سانتا مونيكا ووضعها على أرض فلسطينية، يردّ فيه على السرديات الهوليوودية الكاذبة المصاحبة دومًا للإمبريالية الثقافية والاستعمار الصهيوني.

يشارك اللبناني حسين ناصر الدين بمجموعة من خمسة بوسترات لونية بعنوان "وستنهض من بين الأنقاض صنوبرة الحزن"- الجملة التي خطّها ناصر الدين على أحد البوسترات، ويكمل: "وتشهد أنك قاتلت الغارات، وقاتلت البحر، وقاتلت طوابير الدبابات، وصمدت صمود الأنواء"، ومع الألوان الموزّعة على المجموعة ثمة شيء ثابت هو الشمس في الخلف، شيء ما في هذه الشمس يذكّرنا برجال غسان كنفاني في الشمس، على أن كلمات هذه المجموعة الصاخبة باللون والمعنى اختارها الفنان من قصيدة للشاعر مظفّر النواب كتبها للشهيد العقيد عبد الله صيام، بطل "معركة خلدة" (بوابة بيروت الجنوبية) أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، واستشهد صيام بعد أن تمكّن من صدّ هجوم فرقة كاملة وصمد عددًا من الأيام، وكبّد جيش الكيان خسائر فادحة من 15 دبابة وقتل مساعد رئيس هيئة أركان جيش الكيان الصهيوني يكوتيئيل آدم.

"وستنهض من بين الأنقاض صنوبرة الحزن"، حسين ناصر الدين / "HOLLYLAND"، حازم حرب 


واختار القيّمون على المعرض لوحة "بلا عنوان" للفنان اللبناني حسين ماضي. تعود اللوحة إلى عام 1970 لكنها توثّق لهزيمة الجنود الإسرائيليين مع كل احتكاك مباشر مع المقاومين وهو ما نشهد عليه في غزة الآن، حيث آلة القتل الصهيونية تدمّر وتدّعي انتصاراتها بقوة الصواريخ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالقتال المباشر نشهد على تقهقر الجنود وفوضاهم ومحاولات خروج ودخول متكرّرة إلى غزة بجنود آخرين. لم يصبّ ماضي في هذا العمل ألوانه التي تميّز بها، هنا اكتفى بالحبر على الكرتون، بساطة لونية شكّلت من المقاومين مصدر تخيّلات مرعبة وهواجس للجنود المنهزمين.

ضيا مراد شارك بعمل "غزة في بيروت" (طباعة بالحبر على ورق أرشيفي). في لقاء سابق مع مراد خلال معرض فوتوغرافي وثّق فيه شقاء بيروت عقب انفجار مرفئها من خلال صور الدمار التي لحقت بالمرفأ والأهراءات والأمكنة المحاذية للمرفأ، أخبرنا عن هذه اللوحة قائلًا: "ما حدث لنا يعادل يومًا واحدًا في حياة الفلسطينيين". العمل عبارة عن تصوير الفنان لصورة معلّقة على حائط في منزل المراسل الصحافي في "وول ستريت" ديون نيسينبوم في بيروت، وكان صديقٌ لنيسينبوم، وهو مراسل صحافي في غزة، قد قدّمها له. أُصيبت ابنة نيسينبوم بالانفجار وتضرّر منزله بالكامل. هذه الصورة هي لفتاة تقف فوق حطام منزلها في غزة بعد القصف الإسرائيلي، لم يكن هذا المراسل الصحافي يعلم أن ابنته ستقف فوق حطام منزلهم في بيروت تمامًا كما تقف هذه الفتاة في غزة. لحظة تداخل بين غزة وبيروت في تظهير لنفس النيغاتيف من مكان آخر، بيروت بدلًا من غزة. هو عمل تأسيسي لوجهي المدينتين بدون إضافات على غرار الفرنسي إرنست ميسونييه في توصيف مآسي الحروب تشكيليًا، عمل ينتمي إلى الوجود الفيزيائي للأسى العميق والرغبة في تخطي الحقيقة المشوّهة.

تعبيرية أسامة بعلبكي تداخلت مع واقعية الحدث في عمله "بلا عنوان"


وشارك الفنان السوري محمد المفتي بلوحة "الملعب"، عمل شديد الحزن، حيث ركام مبانٍ فوقه ركام في مدينة مدمّرة بالكامل، ويجري فوق الدمار لونٌ زهري في إشارة لدماء أطفال استشهدوا، فيما نرى في وسط الصورة كرةً صغيرة تنتظر أطفالًا لم يعودوا هنا ليلعبوا كرة القدم.

أما "الصرخة" للسورية ليلى حمزة فهي صرخة فلسطينيين كثيرين عند انتشال جثث الشهداء من بين الدمار. كم من طفل وشاب فلسطيني صرخ أمام بشاعة ذلك الموت، أمام وحشية الإسرائيلي الذي يستلذّ بالقتل. ساديّة عناصر الاحتلال تنبع من اضطراب نفسي نمّته المناهج التربوية المدرسية الإسرائيلية على تمجيد القتل، تأتي هذه الصرخة لتواجه تفريغ أمراض الإسرائيلي المستلذّ بتعذيب الفلسطينيين. ثمة مكعب من الدم يتوجه نحو الرأس الصارخ المحاط بالسواد في مقابل شكل أزرق ينأى بفعل الصرخة في إشارة إلى استنزاف كل قدرة على الحياة. صرخة هذا الفلسطيني تتخطى معاني القلق والألم النفسي والوحدة التي جسّدها إدوارد مونش في صرخته، هنا وجع نفسي يفوق وجع الإنسانية برمّتها وشعور عميق بالوحدة وسط عالم عربي يعيش على كوكب آخر.

"الصرخة"، ليلى حمزة 


براءة اختراع الألم

أعمال معرض "غزة" من لوحات وصور وأفلام متعددة الثيمات والأفكار، ولكن كلها تمنح غزة براءة اختراع الألم، لا بل الشقاء كله، ثمة قدرة صوتية لكل عمل بدون أن يتكلم بكثير من الألوان، ما يذكّرنا بالشاعر الإسباني خوسيه ميغيل أويّان وهو يقول في قصيدته "قوة إنسانية": "الصّخرُ كانوا يَجهلونه، كما يجهلون الحركة النديّة لظلّه/..../ بانفعالٍ تنامُ الأجسادُ وتتوتّر/ الومضُ المعدنيّ للصّدمة/ يُلوّثُ بخارَ السلام/ ترْشح أسمالٌ قديمةٌ لمسيراتٍ فذّة.../ يحبّون أيدي عاريةً، خصلاتِ شَعرٍ آسرةً، أجفانًا مستحوِذة/ يحبّون حقدًا كاملًا متحرّكًا، مطرًا بشريًّا.../ ومعَ ذلكَ فهؤلاء المعتقَلون/ في البركة الواسعةِ للدّم/ يجهلون الدّمعة المنفيّة على الشّفَة/ نظيفةً ولاذعةً، وذلك الدّوار/ يعجنهما إنسانٌ ملموس/.../ تركَ شاهدةً لقبره: ‘أحَبَّ أن يُحِبّ‘"... 
 

(*) الخروج في النهار- كتاب الموتى نصوص مصرية قديمة. (2013). ترجمة شريف الصيفي، طبعة ثانية. مصر: المركز القومي للترجمة.        

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.