}

"آلو لقمان": شبيب الأمين يرثي ما تبقّى من لبنان

دارين حوماني دارين حوماني 28 أغسطس 2024
آراء "آلو لقمان": شبيب الأمين يرثي ما تبقّى من لبنان
شبيب الأمين بعدسة اسكندر حبش

لعلّ صدور مجموعة شعرية ثانية لشاعر بعد ثلاثين عامًا من إصداره لمجموعته الأولى يعدّ حدثًا بحدّ ذاته، في عالم بات يضيق بكثرة الشعراء وكتب الشعر وكثرة النقل وكثرة "التناصّ" بين نصوص عربية- عربية ونصوص عربية- غربية مترجمة، فها هو الشاعر شبيب الأمين يُصدر "رجل للبيع يهزأ بالأبد يليه مصرع لقمان" (رياض الريّس للكتب والنشر، 2023، طبعة ثانية 2024)، بعد أن قرّر منذ مجموعته الأولى "أعتقد أني سكران" (1994) أن يصمت عن كتابة الشعر و"يؤلّف موتًا رحيمًا/ نهاية تليق بشاعر أخرس"، كما يصف نفسه في مجموعته الحالية، ويكون صديقًا للشعر في مقهاه "جدل بيزنطي" في الحمرا ببيروت، حيث كان يستضيف شعراء وشاعرات أسبوعيًا؛ مقهى تحوّل إلى ملتقى ثابت لكل من حطّ رحاله في بيروت من المبدعين العرب. كل ذلك قبل أن يهجر بيروت ويتجه نحو قريته الجنوبية لإقامة دائمة هناك، في خطوة فاجأت رفاقه المخلصين والذين كانوا يقصدونه لقضاء أيام معه في قريته، ومن بينهم الكاتب الراحل لقمان سليم، الحيّ في قصائد شبيب الأمين.

في حوار أجريتُه مع الشاعر إسكندر حبش ("هجرتان وأوطان كثيرة"، دار دلمون للنشر، 2023)، يتحدّث حبش عن صداقته الأزلية بشبيب الأمين والتي تعود للمقاعد الدراسية الثانوية والجامعية، وممّا نتج عن صداقتهما الجميلة نشرة "ميكروب" التي صدرت أولى نشراتها المجانية في بيروت عام 1984 من خلال آلتي "ديكتيلو" للصديقين و"فوتوكوبي" في مكتبة، ولم تكن دوريّة منتظمة، وكان همّها نقد الواقع الثقافي والانتفاض على السائد بلغة ساخرة، ولفتت هذه النشرة الأنظار، وكُتب عنها في العديد من الصحف اللبنانية والعربية... يقول حبش: "عليّ أن أعترف بأنه كان في الأساس مشروع شبيب الذي دعاني إلى المشاركة فيه... شبيب كان المحرّك الحقيقي لكل ‘ميكروب‘"، أما لماذا توقّفَت، فيقول حبش: "ربما لأن لكل شيء نهاية، وربما كما قال شبيب، حتى واقعنا لا يستحق أن نثور عليه"، وهو ما يخطّه شبيب الأمين في قصيدته "الأبد العابر" في مجموعته الشعرية الحالية، إذ يقول "ما من تمرّد هنا لأنه ما من دولة في الأصل".

إذًا، كانت لشبيب الأمين بصمة في بيروت، بقيت رغم هجرته الطوعية عن المدينة، وها هو يعود إليها عبر كتاب يهزأ بالأبد، بالموت، وبالمعارك الخاسرة، وبالشعر، فقد خفتت أضواء بيروت، بعد أن كانت "مختبر أوتار متعدّدة ومتضاربة"، على حدّ وصف الناقد الأميركي روبن كرويسول، وبعد أن "تساقط الأصدقاء"؛ "آلو لقمان، أصلك بعد ساعات، أنا في دبي، أعرف شوقي حمزة مات، وقبله عبد الأمير عبدالله، ومات صلاح بأكمله..."، هكذا يعدّد شبيب الأمين رفاقه، لا بل ويهدي قصائده أيضًا إلى نوال الأسعد وديما الجندي وحسين نجدي ورضوان الأمين ومحمد شمس الدين الذي كانوا ينادونه شمس "أنا ما تبقّى من صديقي شمس"، يكتب شبيب الأمين في قصيدته "نشيد اللاأمل"..

يأتي "مصرع لقمان" كحكاية موت داخل حكاية موت، يفصّلها شبيب الأمين برصاصاتها وسياراتها والمتآمرين فيها، وشجرات الحور ونزيف لقمان سليم بين الصخور


لكن شبيب الأمين هو ما تبقّى من بيروت كلها، من ماضيها، ليس فقط من صديقه شمس، إذ يجد نفسه "يواصل قراءة جريدة تتكلم عن اجتياح إسرائيلي حدث في 1982". يتحول الشعر هنا إلى نشيد عن موت ما، موجود هنا وهناك، في الوجود نفسه، في القناعات الكبرى، في المدينة كلها، في المخيّلة، في الشارع، في المئذنة، في "إله يبدّل شهادته غبّ الطلب"، في "ثياب مترجمة"، و"رجل للتلف"، في اتصال منقطع مع فلسطين التي "في الرئة" حيث "‘الرجال بخسائرها‘ قال أبي/ دمي في الأزقة/ دمي على الشرفات يا أبي".

وتستوقفنا كل عبارة من عبارات شبيب "الحزين كهدنة"، هنا يحضر الشعر كاملًا، لا كلمات مجمّعة لرتق قصيدة، لإكمالها على نحو ما، نقرأ "كتبتُ ما كتبت/ إلا أنني محوت"، سطران وحيدان كافيان لسرد سيرة كاملة عن شبيب الأمين، على الرغم من امتلاكه النفسي لكل مفردات المعجم الشعري... سطران نصدّقهما، وهو الذي أمضى عمره يكتب ويمحو ويتراجع عن النشر إلى أن دفعه ربما "مصرع" لقمان سليم لنشر قصائده، لإيصال صوته إلى عالم لم يعد نفسه، لم يعد هنا.   

ويأتي "مصرع لقمان" كحكاية موت داخل حكاية موت، يفصّلها شبيب الأمين برصاصاتها وسياراتها والمتآمرين فيها، وشجرات الحور ونزيف لقمان بين الصخور، كأننا إزاء مشاهد من فيلم مؤلم، تؤدّي حزنها على مهل، نستعيدها ونراها عن كثب، مقتبسًا العنوان من "مصرع الحسين" وفي ذلك مقاربة إن لم يكن رسالة للذين يرفعون شعار "مصرع الحسين". وفي الوقت نفسه يبتدئ الأمين هذا المصرع باقتباس من إنجيل متى 27:46: "خيّم على الأرض ظلامٌ حتى الساعة الثالثة ونحو الساعة الثالثة- صرخ يسوع بصوت عظيم: إيلي إيلي لِمَ شبقتني"؛ اقتباس يحيلنا إلى إيمان مطلق في نفس الشاعر بأن من قام بفعل القتل هم أولئك الذين كان لقمان سليم يعيش بينهم. وإذا كان القسم الأول من الكتاب يحتمل حزنًا واسعًا مشبوكًا بالسخرية من الوجود كله، حزن لا يقوى الشاعر على تفكيكه ويستسلم له، فإن القسم الثاني يحتمل حزنًا أكبر وغضبًا أوسع من اغتيال لقمان، من بلد لا دولة فيها، بل من بلاد تعاقب عليها أنبياء "بأحقاد مقدّسة"، كلّ من فيها عدوّ بتوصيف الشاعر أو مهاجر أو رخيص. أما شخوص المؤامرة، فواضحون في كتاب شبيب "صديقك ديفيد شينكر/ أصدقائي في حزب الله/ وبحرفة صيارفة يهود/ عدوّان تقاسما مهمّة/ غيابك يا لقمان ضرورة وإجماع- عبارة ترد الآن قصيدة في مخفر". إذًا يصوّر شبيب الأمين لنا مطبخ الجريمة بالكامل، ويؤكد عليه بعد ذلك في قصيدة "قبل العاشر وبعده"، وهو عنوان مأخوذ أيضًا من "يوم العاشر" وهو يوم العاشر من محرّم، يوم مصرع الحسين، وفي ذلك رسالة أخرى لهم، إذ يقول "برعاية الله وأبناء العمّ سام/ توافقوا/ تبادلوا الوقت والمهامّ/ منهم من أحرق الخيمة/ منهم من أناخ ناقته في حديقتك/ ورثة هنا وهناك/ اجتاحوا صحراء أعمارنا، اتخذوا دمك نجمة تضيء الدرب إلى سراب عميق/ دمك رهينة صلح، نافورة استثمار/ دمك لقمان بنك الجرائم الكاملة".

وإذ ينعت الشاعر الكلبة التي يعتني بها لقمان سليم بالوطنية "كلبتك لقمان، لبنانية بامتياز، تنبح كل صباح نشيدنا الوطني، تلعن شعوبًا وطغاة"، فإنه في هذا الوصف يؤكد على وطنيّة لقمان سليم بين طغاة يدّعون الوطنيّة ولا يمانعون تجريب القتل والاغتيال هنا وهناك، لا بل اغتيال الأمة كلها فكريًا وشدّها نحو موت من نوع آخر.

ولا يتوقف شبيب الأمين عند كلبة لقمان سليم بكونها "الوطنية" فقط، بل نراه في أولى قصائد مجموعته الشعرية يبدأ بـ"عوووووووه"، وهو عواء كلبة اسمها ستيللا تعاني التوحّد في قريته "الصوّانة"، وكأنه بذلك يحيلنا إلى شعوره بالاغتراب عن مكانه وبين المحيطين به، مع تأكيد على تكرار حرف الواو سبع مرات، وهو ليس تفصيلًا ثانويًا في أولى قصائد المجموعة، بل تشكّل هذه البداية مشهدية ساخرة عن مجتمع كامل، كأن صوت الكلبة النقيّ يصل بأحرفه السبعة إلى السماء السابعة، قبل أن يختفي كل ليلة ليحلّ محله "صلوات على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين" وهي العبارة التي تنتهي بها القصيدة نفسها.

شبيب الأمين في هذا الكتاب يرثي لبنان كله بعد مائة عام على تأسيس "دولة لبنان الكبير"، بالتوازي مع مرثيّته للقمان، وكل عبارة في الكتاب لها حكايتها الخاصة بشبيب، ونسختها المدفونة، المحسوسة فينا، إذ يقول في ختام مجموعته: "مات لبنان/ الفتى العاقّ، قضى نحبه في الرابع من آب الماضي/ لفظ أحشاءه في بحر/ تبعثرت مئويّته/ أنهته ارتباطات وأدوار/ الصبي العاهر مقلق الجيران/ تناثر بكبسة زر وقرار/ أطفأ لقمان محسن سليم عينيه/ أرسل تغريدة ‘في حقل ألغام، في نيترات التسوية‘"، وهي التغريدة التي كتبها لقمان سليم عن انفجار 4 آب/ أغسطس 2020.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.