ولد مالك سيديبي في قبيلة البول المشهورة بمالي في أواسط الثلاثينيات. واتجه إلى تعلم حرفة الصياغة قبل أن تستهويه الآلة الفوتوغرافية حين تعرف سنة 1955 إلى جيرار غويا المعروف بـ"جيجي لابيلوكيل". أدرك سيديبي حينها أنه ولج عالمًا جديدًا يصوغ فيه المرئي ويلتقط مجوهرات عقده وعقيقه. وكأنه بذلك كان يحرر لامرئي الشعب الأفريقي الذي لم يكن له سوى تاريخ شفوي أو تاريخ مصور يقدمه فيه المصور الكولونيالي كمستعبد أو كشخص متوحش.
قال عنه أوليفييه سلطان، مؤسس متحف الفنون الأخيرة: "قبل أن يغلق العظيم مالك سيديبي علبته السوداء، كان يكفيه أن يختار زاوية اللقطة، ويختار الوضعية التي يرغب فيها، وبعد غمزة متواطئة وابتسامة، يكون البورتريه في العلبة". ويتابع: "كان للجميع مكانه في استوديو الرجل، من الموسيقي إلى الفلاح، ومن الأختين التوأمين إلى المتعلمين حديثًا مغازلة السيجارة، يأتونه من بعيد ليصنع لهم صورتهم وهو يرشفون أولى سجائرهم، مندهشين لجسارتهم غير المعهودة".
هكذا سوف يتابع سيديبي أحلام جيل السبعينيات والثمانينيات مواكبًا سهراتها وأفراحها، مانحًا لعشقها للموسيقى والرقص والتجمع طابعًا اجتماعيًا. يتسلح الرجل بآلات فوتوغرافية خفيفة، ويسير بحثًا عن اللقطات التي تلهم خيال عينيه. وكأنه بذلك كان يبحث عن اللحظات الخالدة لجيله. ففي إحدى الصور الشهيرة تبدو مجموعة من الشباب المتجمعين بسراويل "طايباس" وصدور عارية وأرجل حافية يتمتعون بحميمة لحظتهم الاستثنائية في الخلاء. ذلكم هو الأسلوب الحركي لسيديبي، الذي يختلف بشكل واضح عن أسلوب سلفه "سيدو كيتا" (1921-2001) الذي يخصص له اليوم "لوغران بّالي" (Le Grand palais) بباريس معرضًا استعاديًا كبيرًا ترك أثرًا هائلًا في الوسط الفني العالمي. إنه يختلف عنه لأن أغلب أعمال هذا الأخير تكمن جماليتها في التركيب في الاستوديو حصرًا.
في نهاية العقد السالف، التقيته بفاس في إطار معرض مكرّس للترحال في أفريقيا. كان رجلًا ينضح بالحب والضيافة والنخوة، متسربلًا بلباسه المالي الفضفاض، وكانت أعماله تفصح عن فصاحتها وبساطتها وفرادتها. إنه شخص يجعلك تحب شخصياته وكأنك تعايشها، وتتمنى لو تلتقيها يوما لتعبر لها عن ذلك الحب. يرحل مالك سيديبي بعد أن أهدى لمالي صورته الفنية وحرّر المجال البصري الوليد من هيمنة اللغوي، والشفوي والذاكرة الخرافية والأسطورية؛ ومنحه إمكان الوجود في اللحظة باعتباره ذاكرة بصرية تتشكل من تتالي الصور. ففي عصر صارت فيه الصورة أشبه بالعمى من كثرتها وفرط استعمالها، صرنا نرنو نحو هذه الذاكرة بالكثير من المتعة والرغبة في امتلاك الماضي. ولا يمكن للجوائز والتقدير الذي ناله حياً (الأسد الذهبي ببينالي البندقية، فوتو إسبانيا، 2009) سوى أن تمنح للفن الأفريقي هذه المكانة التي صار ينتزعها من حدث لآخر، في زمن صار فيه الفن الغربي في مجمله خائبًا وخافتًا وخابيًا، رغم الترسانة الوسائطية التي تقف وراءه لتمكنه من تفادي الاعتزال.
إنه يرحل بعد أن منحنا نحن أيضًا، عاشقي المرئي الفوتوغرافي، القدر على الفخر بانتمائنا لهذه القارة.