الدخول في حوار مع الشاعر الفرنسي، بول فاليري، ربما يحتاج إلى مجموعة من الأدلاء للغوص في أعماق هذا الكائن الشعري الرمزي المتنوع الأفكار، الذي أحدث خرقاً في جدار الشعر الفرنسي لصالح الحداثة، خاصة أنه أشعَ بنوره الشعري في زمن مصابيح كثيرة من عباقرة الشعر، ممن صاغوا بتجاربهم أهم سمات الخلق الأدبي، والاختلاف الفني، في مطلع القرن العشرين.
من أين نبدأ مع الشاعر بول فاليري. هكذا طرحنا عليه السؤال، وأردفنا بهدوء قائلين:
(*) سنفتح نافذة في جدار الشعر، ونسمي ذلك بالثقب الرمزي. هل ترغب أن نبدأ بالحوار من هنا؟
لا مانع عندي في ذلك. فأنا أول من ساهم بفتح ذلك الثقب الرمزي في جدار مذهب البرناسية، الذي حاول الفصل ما بين جغرافية الحواس، وبين اللغة.
(*) هل استعمل المذهب البرناسي ذلك الفصل التعسفي ما بين المشاعر الكامنة في جسد الشاعر ، وبين مكوّنات اللغة ، بدافع الحفاظ على تنظيف القصيدة من شوائب النفس وأمراضها العاطفية ، على سبيل المثال؟
لا يمكنني الإيمان بذلك الفصل التعسفي ما بين الشاعر واللغة، وبتلك الطرق الإرهابية التي تحول دون ارتفاع منسوب المشاعر من الباطن إلى الظاهر. فالشعر فردي. ولا يمكن وضعه في قاووش، والتعامل معه على أساس أنه ثكنة تقوم على ضوابط عسكرية في مقاومة العواطف والأحاسيس التي تفيض بها الأجساد الآدمية. كلّ قصيدة بالنسبة لي هي حلم لا يمكن حبسه في قفص، أو جسد، أو نظام لغوي حديدي يقوم على وظائف محو المشاعر وقتلها.
(*) كيف يتكوّن الشعر في الشاعر، حسب رأي بول فاليري؟
الشعرُ مثلهُ مثل الأجنة التي تتكوّن في الأرحام، فهو يتشكل وينمو ويظهر على السطح قصيدةً تحملُ في اخلها تلك النار الأسطورية التي تتداخل مع الحواس البشرية منفعلّة، لتبلغَ مرحلةَ الإنارة، ثم الرماد.
(*) مثل الطير الفينيقي تقصدُ.
بالضبط. فما أشبهَ الشاعرَ بالعنقاء، يصنعُ نارهُ من لغة روحه، ثم يتبدد بالنار، ليعودَ حيّاً من جديد، وبلا مخاوف من موت، أو تدمير آخر.
(*) لماذا يقترنُ الشعرُ بالنار المُقدّسة، تاريخياً، على الدوام؟
لأن النارَ مُطهرةٌ ومُغَيرةٌ للحمِ الشعرِ، ولقمصان الشاعر. بعبارة أدق، هي التجددُ والتحديث
لمكونات اللغة التي تُعتمدُ في التأليف الشعري الذي يبدأ سريّاً، وينتهي بعدم الإفصاح عن الحقيقة، أو عن دوافع الكتابة.
(*) تقصد أن الشعرَ يولدُ مقفلاً، أو مثقلاً بأقفال، ولا يعطي نفسه للقارئ بسهولة.
أَجَلْ. فالشعرُ، في الأساس، هو قفلٌ لا تفكّكُ كيانهُ إلا المفاتيح الذكية القادرة على التعامل مع كُثبان الغيوم التي تملأ الرأس.
(*) وإذا ما انكسرتْ تلك المفاتيح في أقفال القصائد على سبيل الافتراض. ما العمل؟
لن يكون أمام القارئ إلا مغادرة قاعةَ النصّ، والعمل على لَمْلَمة عظام الجسد بهدوء، ليأخذ استراحة من آلام الغباء في الخارج البعيد.
(*) ألمْ يرَ الشاعرُ بول فاليري نفسه قائد تظاهرة يتقدم مجموعة من شعراء، أمثال استيفان مالارميه، وبول فيرلين، وأرتور رامبو، وجان مورياس، وآخرين، ممن أسسوا الطقوس الجديدة لقصيدة من العيار الجمالي الثقيل في فرنسا أولاً؟
الشعر تظاهرة روحية تخرج من تربة الشاعر، لتحلّق فوق الرؤوس على الدوام. ولا أصف نفسي قائداً لتظاهرة شعرية، لأن من كانوا معي من شعراء هم نجوم احتلوا بكتاباتهم المسرحين الأرضي والسماوي، على حد سواء.
(*) هل يعتقد بول فاليري أن ثمة أساطيراً تنامُ في صوت الشاعر؟
ذلك مؤكدٌ. ولكن ليس في أصوات شعراء من صنف السلاحف، أولئك الذين يجسدون الخمول اللغوي في مجرى دم القصيدة.
(*) وهل على الشاعر أن يكون عداءً في ماراثون؟
أجل. فالشعر لا يحتمل التوقف، أو الوقوف في نقطة، أو على خط، أو حبل غسيل، لأن الركض سمةٌ رياضية للشعر المتخم بحمى سباقات العالم المتداخل ما بين هرولة آلام الداخل، والركض الخارجي مع طيران النحل، وما يتفاعل معه في رحلاته التي تؤدي إلى العدم الأبدي، كنهاية للشهوات الجارفة.
(*) وهل كتبت قصيدة "المقبرة البحرية" دعماً للفكرة؟
كانت تلك القصيدة رثاء حميمياً للأرواح التائهة فوق المياه، أو في باطن التراب. فالمقبرة
البحرية تحريكٌ لأحاسيس الباطن الجياشة المتلاصقة بحركات الموج، وكلّ ذلك جرى تحت هدف حماية الطاقات الكامنة في الشعر، أي بعيداً عن الموت الذي يلاحقُ الأبدان، وينتصرُ عليها، دون توقف.
(*) ثمة من يقول بأنك تعتبر: "الشعر مثل تجربة فكرية أكثر منها روحية". ما ردّكَ؟
كلّ شيء يبدأ بالأرقام سرعان ما ينتهي قطعةً موسيقيةً على سطح قبر مفتوحٍ في نهاية المطاف. عالم الرياضيات يتمتع بصرامة لا حدود لها. هذا هو الجانب العلمي لثقافة النظريات التي نادراً ما تقبل بالخطأ. فيما نصفي الآخر يتعلّق بالآداب وطقوسها التي لا تخلو من الانبهار.
(*) هل هذا لأن بول فاليري كان يتمتع بنزعة علمية ولدت معه شبه ميتة؟
بالضبط. ماتت قبل أن أتحكم بها، وتذهب بي إلى مختبراتها الهادئة التي يجلس فيها العلماء كالذئاب على تلك الكراسي المرتفعة السيقان من أجل استنطاق المعادلات والتجارب.
(*) هل كان للشاعر مالارميه دور في اختطافك إلى الأدب، وفك ارتباطك العقلي عن العلوم التطبيقية؟
أجل. فقد فتح لي مالارميه باب المدن السحرية للأدب، عندما منح جسدي جناحاً شعرياً، سرعان ما استطعت أن أزرع مقابله الجناح الآخر لأطير فوق المقبرة البحرية.
(*) ما علاقةُ الشعرِ بالطيران سيد بول؟
إذا كانت الأفاعي تقوم بنزع جلودها للتحديث في كل حَوْل، أو سنةٍ، فلمَ لا يمكن للشعراء القيام بذات المهمة عبر الطيران، فهو الكفيلُ بضخ الأوكسجين ونموه بروح اللغة، عند كل من ينتمي للشعر، وللشعرية الفيّاضة.
(*) ألا ترى أن الاستغراق في التجريب داخل المجرى الشعري قد يصبح في كثير من الأحايين أشبه بالتخبط، أو الدخول في دوامة؟
إذا كان الشاعرُ فارغاً من الإيمان بالتجريب، فما عليه إلا الانتماء إلى عالم السلاح.
(*) لماذا تريد أن تُثقل كاهل الشاعر بمغامرات قد لا تقود إلا إلى المجهول؟
وما الشعرُ في رأيك؟ أليس هو خطوة في مغامرة تضعُ قدم الشاعر على طريق التيه للاندماج مع المحركات العظمى للأكوان؟
(*) الآن، دخلنا التجربة الصوفية. هل تؤمن بالتصوف طريقاً لبلورة قيم شعرية ناهضة توفر للمخلوقات بعض فواكه الطمأنينة في الجنة النائمة في ما وراء عالمنا؟
لا. أنا لا أؤمن بذلك أبداً. التصوف الذي أتحدث عنه هو وقت سريّ لتنظيف غرف الجسد من
الملابس المُستعملة، والنأي بالكلمات عن الأدران والأمراض التي تشوبه ليس إلا.
(*) تنظيف الأجساد، أم توظيفها، لتكون في خدمة الزهد الفكري الذي قد يكون ليس إلا هرطقة؟
كي نبلغَ الراحةَ في المطلق، دون أعباء النفوس، قد نحتاج في كثير من الأحايين إلى تجنيد العقول للأرواح.
(*) وكيف يتم ذلك في رأي السيد بول فاليري؟
ذلك لن يتم إلا بفكرة الاندماج بالأصوات الكلاسيكية التي تنام في دواخلنا منذ ملايين السنين.
(*) تقصد أن نوقظ تلك الأصوات، ونتفاهم معها، على طاولة مستديرة.
الشعر الصوفي لا يعدو أن يكون أكثر من لعبة قمار. وما عدا ذلك، فكلّ ما كُتب عنه هُراء ولغو وغلو في الهرطقة المَمسوسة.
(*) ألا ترى ان الفلسفة لغمٌ في النص الشعري؟
ربما. فالفلسفة غبار يتطايرُ في وجه القصيدة طالما تسبب لها بعمى الألوان في بعض الأوقات.
(*) أذاك ما كتبته في مئتين وستة وخمسين دفتراً عن أحوالك العقلية وعن النفس التي سقطت منك في مهاوى الظواهر الفكرية؟
بالضبط. أنا وجدت العالم مُتَجَسّداً بصورة غراب لا يكفّ عن النعيق.
(*) وفجأةً حاولتَ أنتَ النيل من نعيق الطير وسواد ثيابهِ، وهو الطير الأقرب إلى المتصوفة اللاعبين بأمور سيرك الدنيا والآخرة، على حدّ المنطق المسيطر على ما في رؤوسهم من خرافات؟
الغرابُ عند أهل العقل أداةٌ لغويةٌ يُحسنُ التفكرَ والعمل. فيما هو عند المرتهنين للوسواس القهري طير لا يضمرُ إلا الشر، وتشويه وجه السعادة، وتفعيل المخاوف في النفوس.
(*) وهل على الشاعر التأملَ وحسب؟
ليس التأمل وظيفة سهلة، بقدر ما هو بناء عالم فوق عالم فوق عالم، ومن ثم استخلاص ما
يمكن استنتاجه من تفكيك تلك العوالم، لإعادة هيكلتها من جديد. أي بإمكانية بناء عالم تأملي شعري يضمن للشجرة أن تنمو في الهواء الطلق، مثلما يتحرر الشاعر من الأقفاص، ويصبح مُنظرّاً عن الطيران الحرّ.
(*) ألا تمثل فكرةٌ، مثل فكرتكَ تلك، طعناً بما في الحواسّ من مشاعر وأفعال ومخلوقات، لأن القصائد لا تُبنى بالتأملات وحدها، حيث لا يحق لها أن تكون المحتل الوحيد لمساحات المخيّلة أو الذهن؟
بالتأكيد، نعم. فربما التأمل هو الكراج، أو الحديقة الخلفية للشعر. وعلى كثير من الشعراء البحث عن مناجم جديدة لنقل حرائق المشاعر، وتجلياتها الحسية، إلى الطرف الآخر: القارئ.
(*) هل لا بد من تكوّين مشاعر ودّية مع الآخر: القارئ في رأي بول فاليري؟
ليس بالضرورة أن تحصل قطيعةٌ من نوع ما بين المؤلف وتابعه. خاصة أن الشعرَ ماءٌ يبحثُ له في الآخرين عن تربة ومجرى، ليمضي لنهايته بخاراً.
(*) تقصد حتى وصول الشعر إلى مرحلة العدم.
لا. ولكن وصول الشعر إلى حالة البخار إنما تعني عودته ضمن قانون دورة الماء في الطبيعة. الشعرُ، مثله مثل الماء، لا يتبخر، ولا يجفّ، ولا ينتهي. إنه يدور في التراب والبحار وفي الدم وفي الأنفس التي لَقّنها الجنونُ الآيات العظمى لتطور اللغات حتى تبلغ مرحلة الشعر.
(*) ومنْ الأقوى: الشِعرُ، أم الحبُّ، في رأي فاليري؟
ما دام الحبُ ليس فكرة، فهو بالمعنى النهائي تربةُ الشعر الخصبة. ولا يقوى الأخير بمعزل عن قوة الأول. فالحبُّ والشِعرُ من فصيلة الثدييات، كما أظنُ وأعتقدُ.
(*) من الأكثر سأماً من الشعراء الذين عرفتم في حياتك؟
الشاعر آرثر رامبو. فبقدر ما كان متحمساً لنداءات الخيال التي كانت تحتشدُ في رأسه، بقدر ما كان يفيض بالسأم من عدم قدرة الشعر على اجتياح الشعوب وتدميرها بالكلمات الحارقة التي تستطيع تحويل الطين إلى ذهب.
(*) وماذا عن الشاعر ستيفان مالارميه؟
كان معلمي على الأرض، وتلك الصفة انتهت هنا، بعد أن اشتركنا في صياغة بيان أدبي عن مرحلة شعر ما بعد الموت.
(*) تعني بياناً عن قيامة الشعر من تحت الضريح إلى السباحة في الفضاءات العليا.
بالضبط. فقد أدخلنا الشِعرَ في مختبرات تجريبية عن مختلف أنواع الميتات، وكيف يكتسب
الشعراءُ العناوين الجديدة لقضايا الحياة السماوية والشروط الواجب اتباعها هنا.
(*) كيف كان موتك أنت؟
كان أشبه بطيف لأغنية صعدت بروحي من تحت المياه إلى فوق.
(*) لوحدك صعدت إلى الملكوت يا سيد بول.
م أصعد بمفردي، فقد زَفّتني جوقةٌ موسيقية خاصة بالآلات النحاسية. فيما كان ينضم إلينا كثير من الملائكة، على طول طريق الأثير البنفسجي.
(*) وهل كتبت شعراً وأنت في الطريق إلى السموات؟
كنتُ في اثناء تلك الرحلة واقعياً. وكذلك لأنني حاولتُ تكوين الانطباعات عن الموت، وما إذا كان شخصاً يُسمى بعزرائيل، أم طاقةً غامضةً للقبض على الأرواح، وتخليدها في البرازخ الخاصة بالمختبر الأعظم للربّ.
(*) إذا كان بول فاليري مختطفاً لطقوس الملكوت الأعلى، فكيف يفسر لنا انشغاله بجائزة نوبل التي رشح لها نفسه 12 مرة في حياته، ولم يحصل عليها يوم كان مقيماً على الأرض؟
كنت راغباً في تعليق تلك الجائزة في عنقي، والسيرُ مثل بقرةٍ تحملُ جرساً للتباهي بحجم ضروعها المِدرَارة للحليب بين الحقول.
(*) هل في الشِعرِ حليبٌ، أو ما يشابههُ في اللون والقيمة الغذائية، يا سيد فاليري؟
الشعرُ فيتامين القسوة الناعمة، بما فيه من صنيع دوائي للنفوس المُهَمَّشة المرتبكة الحزينة الجالسة على حافة الهاوية. وكذلك فالشعرُ خلاصةُ الثمالةِ الإلهية في كلّ ما هو ساحر وأسطوري ومسحور بالشهوة.
(*) ما أهمية وجود النشوة في النصّ الشعري، على سبيل المثال؟
النشوة في ذهن الشاعر، وذاكرته، ظاهرةٌ لا يمكن قمعها، أو استئصالها، كقطعة غيار من الجسد، لأنها هي الطوفان الذي يغطي جميع مناطق كلّ شاعر مخلوقٍ من نار، وليس من الأغبِرة.
(*) هل تعني أن الشعراء مخلوقات مختلفة، منهم من نار ومنهم من جليد مثلاً؟
عالمُ الشعرِ عالمُ الشيفّرات والمُشفرات. ولكنه أيضاً عالمُ شفراتِ الحلاقةِ القاطعةِ التي تفَصَّدُ الدمَ الفاسد من وريد القصيدة، لتطهيرها من الكُرَيَّات السوداء المريضة والفارغة من كلّ محتوى للنشوة التي تُعّدُ المادة الرابطة ما بين الكلمات.
(*) باعتباركَ درستَ القانون، وكنت محامياً، هل ترى في الشعر ما يمثل الجريمة التي تستحق عقاباً؟
لا. فعلى الرغم من أن الشعرَ جريمةٌ غير منظمةٍ، إلا أنه في النهاية سيكون البطلُ التاريخي الذي يترجمُ حركة قوائم سرير بروكوست.
(*) كيف حاولتَ الجمع ما بين النقيضين: الشهوة والقتل؟!!
عملي في المحكمة الخاصة في مؤسسة فلورانس ماير لم يمنحني حرية التصرف بعقارات
الجسد، ولا القيام بمسح إشعاعي لمشاعر الحواس، وبرامح الأنفس المختلفة، وحسب، بل أعطاني حظوةً أخرى، في أن أكون عضواً في مجمع اللغة، وأرتقي إلى رتبة خطيب لفرنسا في المحافل الدولية. وكذلك ممثلاً لها في الشؤون الثقافية في عصبة الأمم.
(*) ومن هو ممثل فرنسا عند الله؟
ليس سوى كاترين دونوف، بالطبع. هكذا قرأت ذلك في نشرة الانتظار التي يُحررها الشيطان الأعظم الخاص في استقبال القادمين الجدد من الموتى – الأحياء.
(*) وهل ستتعاون مع الفنانة كاترين دونوف في مشاريع سماوية لخدمة فرنسا الشعرية؟
لا أظن ذلك. فقد التهم الغباءُ السياسي الفرنسي المعاصر كلَّ ما كان موجوداً على المائدة، بما في ذلك الفن والجمال والآداب.
(*) وهل في ذاك ما يتسبب في حزنك؟
أبداً. فأنا أشعر منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بأنني ملاحقٌ ومضطهدٌ من قبل حكومة فيشي المؤيدة للاحتلال الألماني لباريس، الذي رفضتهُ أنا مع كبار شعراء فرنسا وكتّابها.
(*) وفي رأيك.. ما مدى تأثير الاحتلال النازي على اللغة الفرنسية، يا سيد بول فاليري؟
لم يكن النازيون أصحاب أقلام. كانوا قتلةً حاولوا العبث بجرثمة دم العالم. ولكن سرعان ما أصاب المحو جميع كتابات بنادقهم على جسد الأرض الفرنسية. فمعرفة الوحوش بالتأليف لا تتم إلا بالأنياب، وعبر المخالب فقط.
(*) تعني أن لا تأثير للحرب على اللغة!
لم أقل ذلك أبداً. فالحروب لا تغير الخرائط وحسب، بل حركة الأجساد والتاريخ واللغات. ليس أسوأ من أدوات الموت على خزائن التفكير، فربما تكون الحربُ هي القوة الأولى التي تكسر العمود الفقري للسلم، وتقوم بتأسيس ذاكرة لحداثة الموت في الجسم البشري.
(*) بعد نشرك لمائة قصيدة فاشلة لم يتأثر بها أحدٌ، قراءً ونقاداً، أصبت كما تشير الوقائع بأزمة نفسية دفعتك على التوقف عن الكتابة لسنوات طويلة. ولكنك استعدت النشاط الشعري بكتابة قصيدة "لاجون باركية" المستنبطة من أحد رموز الآلهة عند الرومانيين القدامى. كيف لك أن تتكلم عن تلك الفترة القاسية من تجربتك الشعرية؟
لم أكن أعلم آنذاك قط أن الفشل في كتابة الشعر المنتعش بمشاعر الحواسّ سيقودني إلى حافة الهاوية النفسية المتلاطمة في أعمق أعماق باطني. لذلك سارعت بالتدوين عن حالتي النفسية بشكل يومي.
(*) تعني أنها كانت بمثابة مذكرات شخصية؟
يمكنك عدَّها كذلك. فقد كنت أجسدُ تدوين أحداث الباطن الخاص بي، والتأليف عّما فيه من رغبات وصراع وجنون وإخفاقات، بل وكلّ ما يُثقلُ الحب من مراهقة، وتهوّر، وتمدّد إلى خارج الحدود.
(*) هل انتصرت للنثر على الشعر في ما كتبته، ففي الدفاتر كثير من مذكراتك؟
لا، أبداً. الشِعرُ بالنسبة لي جحيمٌ مُشَفّرٌ. فيما النثرُ مِخَدّةٌ مُريحةٌ لسعادةِ مُزَيَّفةٍ..
(*) هل أزاحتْ الكتابةُ رأسَ المرأة، لتكون أنت وإياها على وسادة واحدة؟
أجل. فطالما حدث ذلك الشيء المخزي دون إدراك حقيقي مني لمعالجة الفشل العاطفي الذي كنت غارقاً تحت مياهه الآسنة.
(*) كأنكَ تريد أن تعترف بعدم حصولك في الحياة السفلى على قلب، يا سيد بول فاليري؟!!
ربما. فليس جميع الشعراء كانوا من أصحاب القلوب الحيّة بالغرام ومشتقاته. هنالك فجوات في
مفهوم الحب. وهنالك أجهزة من البلاستيك استقرت تحت الأضلع بدلاً من تلك القلوب النابضة بالحرائق والشهوات، وتصاوير الرموز الجمالية المضادّة للشيخوخة.
(*) إن بول فاليري عجوزٌ سماويٌ كما يبدو الآن. ما رأيكَ في رأي من ذلك القبيل؟
ربما. ولكنني بعد اندماج الحب بالألم، بالنسيان، لست الأعظم من أبطال تلك الشيخوخة.
(*) يقال إن العاشق وحدهُ من لا يُمسك بالزمن. ما رأيك؟
أظنُ ذلك. فالمراهقة الشعرية تجاوزٌ للوقت بجميع مراتبهِ، لا استسلاماً له، كما أدرك في هذه اللحظة.
(*) هل تعلم بالصورة التي يرغب بودلير أن يراك فيها: شاعر مصارع من طراز "سوموتوري". جسمٌ عارٍ إلا من الـ"ماواشي"، أو قطعة القماش. وشَعرٌ أملسٌ بتقليعة "شون ماجي" اليابانية.
يا لها من فكاهة سوداء لصوت أزهار الشر. لم يختلف بودلير يوم كان على الأرض عما هو عليه في السموات: وجه مزدحمٌ بالحطب، كالفرن المُشتعل، ولغةٌ تُشوى الكلماتُ على حديدها دون توقف.