}

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الفلسطيني معين بسيسو

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 10 مارس 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الفلسطيني معين بسيسو
معين بسيسو (10 أكتوبر 1926 - 23 يناير 1984)

لم أستطع الصعود إلى السموات بعد، ربما لأنني ما زلت متعلّقاً بتراب تلك البلاد التي خرجت من رحمها الجبار. هكذا أخبرنا الشاعر الفلسطيني، معين بسيسو، محاولاً تغيير المكان الذي سنجري فيه هذا الحوار معه.
آنذاك، وما إن وصلتنا منه رسالة عبر (واتساب) حتى تمكنا من الوصول إليه في نقطة التقاطع الضيقة ما بين الوجود والعدم القائمة في برزخ الياقوت الأحمر. وصلنا إلى هناك لنجد الشاعر جالساً أمام طائر (الزندوكا) الشبيه بنسر - هاربي – ذلك الطير الذي يسكن غابات أميركا الجنوبية والوسطى، والذي أصبح الرمز الوطني لدولة بنما. كان المنظر مخيفاً، إلا أن معين بسيسو أزال مخاوفنا من النسر، عندما أخبرنا بأنه لا يأكل الأسماك، ولا تطيب له فرائس الطيور البحرية. (زندوكا) طير يحب الشعر والموسيقى، ويكره بنادق الصيد والكمائن.
وما إن بلغت الطمأنينة قلوبنا، حتى تناولنا الشراب الذي كانت تمتلئ به كؤوس الياقوت، وسألنا الشاعر بسيسو، قائلين:

 

(*) أين يسكن الشعرُ في جسد الشاعر؟
هو لا يسكن في عضو محدد، ولكنه يجري في الدورة الدموية للشاعر.

 

(*) كيف يمكن لنا أن نتأكد من هذا الذي تقول يا معين بسيسو؟
عندما يضع القارئ أنفه على الورق ويشّم رائحة الكلمات.

 

(*) وإذا لم تظهر الرائحةُ؟
ليس ثمة وجود لشعرٍ هناك.

 

(*) وما قيمة دورة الدم في طبيعة الشاعر العضوية في رأيك؟
قيمتها تكمنُ في إبعاد التخثر عن دم اللغة في القصائد. ولهذا لابد من تحديث الكينونة الشعرية على الدوام.

(*) وكيف يتمكن الشاعرُ من تجديد أدواته؟
عندما لا يكف عن تجريف تربته بمختلف الأدوات التي تسهم بتنمية اللغة الصافية في مجرى الشعر.

 

(*) ألا يعتقد معين بسيسو بأن تربة الشعر تختلف من شاعر إلى آخر، وبالتالي تتنافر الجغرافيات وتختلف الفلزات الموجودة في التراب؟
بالضبط. فبقدر ما يكون الشعرُ احتواءً لانبعاثات الحواس في بدن الشاعر، فإنه لا ينتمي لجغرافية بعينها.

(*) تعني أن لكل حاسة من الحواس معادنها الخاصة التي تساهم في كتابة الشعر؟
ذلك ما أراه تماماً. فما من كلمة تشبه الأخرى حتى في ظلالها.

 

(*) ما المقصود بالمعادن الشعرية؟


المجاز والتورية والبلاغة والتصوير والانحراف والخداع والشهيق الدرامي.

(*) وما رأيك كشاعر فلسطيني بالتجريف الجغرافي لوجودك ككيان آدمي وككيان لغويّ؟
لم يتوقف هذا التجريف العدواني للجغرافيات، ولكنه لم يستطع جعل الهوية الفلسطينية قطع أرض جرداء.

 

(*) هل لأن الفلسطيني أرض غير قابلة للمحو أو العزل أو التجريف؟
أجل. فالشاعر الفلسطيني مثله مثل المواطن، هو ليس قطعة لحم، بل قطعة من تراب لا يستطيع الموت النيل منه، أو محوه.

معين بسيسو: "قبل أن تكتبوا بالدم اكتبوا بالحبر"


(*) هل يحزنُ الترابُ في رأيك يا معينُ؟

جداً. ولحزن التراب فضاءاتٌ تملؤها الأعينُ بالشَذَرات.

 

(*) ماذا تقصدُ بتلك الشَذَرات يا معين؟
الدم والدمع والنحيب المستور في باطن الأجساد.

 

(*) هل تخاف على ذلك النحيب من ان يظهر فيراه العامةُ من الناس؟
نعم. لا يريد الشخصُ الواقع تحت مطرقة المحتل أن يبكي أمام الكاميرات. نحن نبكي بطريقة ربما لا يعرفها أهلُ الأرض بعد.

 

(*) ولكن كلّ أعين أهل الأرض تبكي. فما المُخجل في ذلك؟!
هم أعين تفيض بالدمع ماءً، أما الفلسطينيون فيذرفون كراتٍ من الجمر ليس إلا.

 

(*) ما نسبة الأحلام في رأس معين بسيسو؟
كانت تتكاثر بشدّة.

(*) وماذا حدث للأحلام بعد ذلك؟
قلْ ماذا حدث لرأسي من وراء تلك الأحلام التي مهما اشتعلت فيها النيرانُ واحترقت، فستعودُ

إلى النمو الواحد تلو الآخر؟

 

(*) كان عليك تدوير رمادها كما العنقاء، ثم لتنبعث فيها الحياة وتنهض. أليس كذلك؟
وذلك ما كنت أفعلهُ حتى وأنا أنتقل إلى هنا في عربات عزرائيل الجويّة.

 

(*) هل كان عزرائيلُ لطيفاً معك؟
أكثر بكثير من الأخوة العرب.

 

(*) تعني أنه سلبّ من الروح في لندن بطريقة غير تلك التي يتعامل بها الموتُ مع الآخرين؟
مهما كان شكل القبض على الروح، أو استلابها، فذاك ليس مهماً بقدر ما كان الموتُ صوتاً أتاني واحتواني.

 

(*) أنتَ تعتقدُ أن الموتَ صوت؟!!
أجل. فهو ليس غير ذلك الصوت الذي غلفني مثل كتاب، ثم دفع بي إلى مطابع العدم.

 

(*) ولكي نتأكد من كيان الموت الصوتي، أليس علينا التأكد من نوعية ذلك الصوت وقوته على إماتة الكائنات يا معين بسيسو؟
معك حق. وسأخبرك بأن ذلك الصوت كان تناغمياً، يدخلُ الجسدَ بعد أن يُحطمَ سلالمه الموسيقية، فتصبح الروحُ نوتة تضيقُ وتضيقُ حتى تصبح نقطةً سرعان ما تنفجرُ، فلا نكون في المكان، ولا في الزمان.

(*) ولكن إلى أين بعد اللازمان اللامكان؟
بعد انفجار النوتة وتحوّلها إلى نقطة، تمضي الكائنات في مجرى بعيد عن سلوك الموت المتعارف عليه وجودياً.

 

(*) هل أدهشكَ الموتُ بطريقة استقباله لك؟
أجل. ففي البدء ألقى على جسمي أعمدته الثقيلة، ومن ثم أغرقني بمختارات من الأوزان المُحزنة.

(*) هل كان يعرفك فلسطينياً؟
وشاعراً ثورياً لم يتخل عن الفراهيدي حتى وهو يصعد نحو السموات.

(*) هل تعتقد بأن عزرائيل من الشعراء العموديين؟
هو كذلك بالفعل.

(*) لمَ تعتقد بذلك يا معين؟
لأنني رأيتُ قبائل أحمد الفراهيدي، وهم ينشدون المعلقات من قصائدهم وهم على ظهر الجدار الفاصل ما بين الجنة والنار.

(*) وينشدون الشعر عن ماذا؟
كانوا في حالة من الغضب والهياج والعصيان المدني، يطالبون الربّ بسوق عكاظ جديد في السموات.

(*) وما العائق الذي يحول دون تحقيق تلك الرغبة، أو ذاك المطلب، في رأيك؟
انعدام وجود الإبل في السموات.

معين بسيسو : "الشَرُّ محرضٌ جميلٌ لانتقامِ الكلماتِ من رعاتها العميان على السطور"


(*) ولم لم يخلق لهم الله القوافل من تلك الجِمال والإبل، فيريحهم ويستريح من العصيان؟

قيل لي إن كبير الأبالسة قد قام بتكليف الشاعر والمسرحي الألماني، برتولت بريشت، بتصميم ديكورات متعددة تحاكي سوق عكاظ بشكل مسرحي متطور.

(*) ولمَ لمْ يتم تكليفك أنت، كونك كنتَ شاعراً ومسرحياً، ومن التبعية العكاظية عربياً؟
لم أتلقَ ذلك العرض بسبب نفوذ لوبي حائط المبكى، ممن شهروا بهويتي الماركسية، وشغبي المتواصل ضدّ القتل.

(*) هل ما زلت شيوعياً، وأنت على مقربة من العرش الإلهي؟
أجل. فأنا ماركسي - لينيني، ويعلم ذلك اللهُ منذ اليوم الأول الذي خُلقتُ فيه في حي الشجاعية على أرض غزة.

 

(*) أليس الإمام أبو محمد الشافعي هو الآخر من غزة؟
نعم. كان الرجل ثالث الأربعة عند أهل السنة. تمرس في علوم الحديث مفسراً ضمن اصول الفقه. وكذلك فقد كان الشافعي شاعراً.

(*) هل تأثرت بشعر الشافعي؟
قليلاً، ولكن بالفقه الماركسي وأحاديث البروليتارية ليس إلا.

(*) كنت مع الفدائيين في السلاح، لكن من دون أن تنغمسَ فدائياً بتثوير الشعر، بل بقيت محنط الحواسّ الشعرية أسوةً بالشعراء الكلاسيكيين. أليس ذلك ما كان واقعاً؟
كنت مُلتهباً في حضن الثورة الفلسطينية، يوم كان الشعرُ يحتلُ مرتبةَ القناص في معاركنا مع العدو.

(*) ألا تعتبر تخلي الشاعر عن مخيّلته بمثابة نكبة؟
عندما يعملُ الشاعرُ بين صفوف الطبقات المسحوقة المشردّة المُستَلبة التائهة، فيمكن أن يتعثر بالوصول إلى الخيال، لذلك يستعمل أقدامه، بعد أن لم تسعفه أجنحته بالطيران.

(*) ومن الذي يخون الشعر أولاً، في رأيك؟
ربما التشويش غير الطبيعي لذئاب الواقع السياسي، بعد أن نفقدَ اليقينَ بالعروة الوثقى التي تعوّل على تلك المصالحة ما بين الشعر والشر السياسي.

(*) وهل يخلو الشعرُ من الشرّ غير السياسي في رأي بسيسو؟
لا أبداً. فالشرُّ عنصرٌ حاسم في بناء التجارب الشعرية عند مختلف المدارس الباردة التي كانت تتعامل مع الشعر كمربيات لتأمين حليب الرضاعة للغة.

(*) وهل ثمة ضرورة لوجود الشرّ في القصيدة؟
نعم. فالشَرُّ محرضٌ جميلٌ لانتقامِ الكلماتِ من رعاتها العميان على السطور.

(*) وهل كان معين بسيسو يوماً من أولئك الرعيان في تاريخهِ الشعري؟
عندما تقع تحت احتلال الدبابات، فذلك يعني أن في كلّ شاعر فلسطيني رحماً لتولّيد الشرّ المضادّ كقوة ردع.

(*) هل تعتبر المقاومة شَرّاً؟
أنا أعتبر كلّ سلاحٍ بذرة شريرة، إلا عندما يكون في موقع الدفاع عن وجود الإنسان على

الأرض.

(*) هل أثر العراقيون في تجربتك الشعرية وقتما عملتَ معلماً هناك في الستينيات من القرن العشرين؟
نعم. اندمجت هناك مع بعض الشيوعيين والشعراء وفقراء الأرض، ممن كانت فلسطين تجري في عروقهم. العراق متحف للشعر والسياسة والدين والنخيل.

(*) هل تعتبر الشعر الفلسطيني منصةً للكتابة بالدم عن البلد المحتل؟
هناك جوقات من الشعراء الفلسطينيين لا ينتمون للحبر بشكل صحيح. كانوا وما برحوا يعوّلون على جعل الشعر نسخاً من الصراخ السياسي الأعمى الذي لا يثير عند الإسرائيليين أية قيمة جارحة تقلب الموازين.

(*) هل من أجل انتقدت أشباه الشعراء ممن رفعوا شعار (بالدم نكتب لفلسطين) في أثناء انعقاد "المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين" عام 1972 في بيروت، عندما سخرت منهم قائلاً في مقالة لك (قبل أن تكتبوا بالدم اكتبوا بالحبر) بتلك الكلمات اللاذعة؟ ربما لذلك أطلق البعض عليك لقب ماياكوفسكي الشعر الفلسطيني؟
أجل. وكان عليّ أن أنتحر آنذاك كيما أتخلص من النفايات السياسية والأيدولوجية والشعرية التي أربكت الموقف الفلسطيني بشكل عام.

(*) ألا تعتبر شعريتك جزءاً من ذلك الصراخ السياسي الأعمى يا معين؟
كنتُ منتمياً لقناعاتي في الشيوعية والكفاح المسلح والحب والشعر.

(*) متى وجدت نفسك عاشقاً للنساء يا معين بسيسو؟
كان الحب بالنسبة لي دار نشر.

(*) دار نشر لطباعة وتوزيع الغرام تقصد؟
ورائحة نساء غزة اللاتي ما زالت تملأ الحواس حتى وأنا تحت التراب.

 

(*) هل يمكن أن ينمو عطر المرأة في التراب كما تنمو الأزاهير؟
نعم. فلا يتحرك الشعرُ في الأجساد من دون وجود تلك العطور الأنثوية التي تتصاعد في

الأجساد وتخلق حرائق الشهوات على المدى الأبدي.

(*) هل وجدت الأدرينالين يوماً سلاحاً في جسدك؟
بالتأكيد. ولكنني لم أتركه يتدخل برسم قصائدي، أو تصميم أزيائها.

(*) وما هي أزياء الشعر في رأي بسيسو؟
المنافي ليس غير.

(*) وهل تعتبر نفسك الآن منفياً تحت الأرض؟
نعم. ومعي ساعة بيغ بين التي ما تزال تساهم بطرد النعاس عني في ذلك الفندق اللندني، وتجعلني مستيقظاً على مدار الزمن الرمادي الراهن.

(*) قيل إن شيطاناً نقل جثمانك من الفندق، ليقوم برميها في نهر التايمس. هل كانت تلك وصيتك؟
نعم. فبعد أن امتلأت مدافن العالم بجثامين المهجرين واللاجئين والمرمية أجسادهم خارج الحدود، لا بدّ من فتح مقابر بحرية، من أجل استيعاب موتى حاملي مفاتيح تلك البلاد، ممن لم يسعفهم الحظُ بالعودة بعد.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.