(*) عدت إلى قصة حيزية (1855 ـ 1878) المعروفة في التراث الجزائري بعد أربعين سنة، فقبل انتشار وباء كورونا بفترة قصيرة زرت قبرها في بلدة سيدي خالد في الجنوب، فما الذي تمخض في ذاتك الكاتبة ومخيالك الأدبي خلال هذا اللقاء الروحي مع شخصية تاريخية وتراجيدية؟ ولماذا استبقت صدور الرواية ونشرت ما جمعته من معلومات حول القصة على صفحتك في فيسبوك؟
هي ليست المرة الأولى التي أكشف عن مشروعي الروائي في مواقع التواصل الاجتماعي، لقد سبق لي أن قمت بالخطوات نفسها خلال كتابتي لرواية "مي، ليالي إزيس كوبيا". نشرت حينها كل ما عثرت عليه من وثائق عن حياة الكاتبة اللبنانية مي زيادة، ثم سافرت إلى الجامعة الأميركية في بيروت، بعدما حصلت على منحة، وقدمت محاضرات عن التاريخ المخفي لهذه الكاتبة، وعلاقاتها مع محطيها الثقافي، وكشفت كذبة قصص حبها مع بعض الأدباء، فهي كانت تكن حبًا مثاليًا لجبران خليل جبران، ومحمود عباس العقاد. إذًا، غيرت الذهنية السائدة عن مي زيادة، ثم كتبت عن صالونها، وعن الجريمة التي ارتكبت ضدها، ومن كان وراء اتهامها بالجنون. لقد تقاسمت ما عثرت عليه من حقائق مع القراء، وتلقيت ردودًا من عائلتها، مثل: غاريوس زيادة. فمسألة الدخول إلى عالم غامض لا يعني كتابة رواية، بل كتابة مشروع قد يتحقق أو لا. أنا أرغب في معرفة ردود فعل الجمهور، والعمل على البنية التي يتطلبها النص الأدبي، وسحب الشخصية من الظل، لقد سعدت بتفاعل القراء العرب بشكل إيجابي، رغم أني كنت خائفًا من ردود سلبية من عائلة مي في لبنان ومصر، خاصة عندما تحدثت عن الجانب الجنسي في حياتها. أما في ما يتعلق بمشروعي عن حيزية، فالقصة تمس نظام قبيلتها المتشدد والمجتمع الجزائري.
(*) في مدارات البحث في فلك هذه الشخصية، والألغاز المحيطة بقصة حبها مع ابن عمها سعيد، ثم وفاتها بعد الزواج منه بشهر واحد، ماذا رصدت من أسرار؟ وكيف تطارد تلك الحقائق المغيبة، والأسئلة المحرمة؟
لقد سافرت إلى مدينة بسكرة في أقصى الصحراء الجزائرية، حيث التقيت مع أناس عاصروا صدى تلك الأحداث. ما لاحظته هو عدم وجود حكاية واحدة عنها، بل ما يوجد هو قصيدة للشاعر محمد ابن قيطون، التي ترجمها الكاتب الفرنسي صوناك عام 1902، ليغير كل مغني أداها بعضًا من أبياتها، وهنالك من حذف مقاطع إيروتيكية وردت فيها. أما الفنان خليفي أحمد فهو الوحيد الذي غناها كاملة، وسجلها في عام 1933 في تونس. مع الأسف، التسجيل غير موجود. إذًا، مرجعي هو القصيدة التي توثق لعلاقة حب مباشرة بين حيزية وسعيد. كما بحثت في شكل النظام الاجتماعي السائد آنذاك، وفككت التفكير البنيوي للمجتمع القبلي المحافظ، فلا يوجد فيه من يكتب عن زوجته قصيدة مثلًا.
لذلك، أستبعد ما يشاع عن طلب سعيد من صديقه ابن قيطون رثاء زوجته. أنا أجزم أن العاشق هو الشاعر نفسه، بحسب قوة اللغة الشعرية في التعبير عن الألم والحزن ووصف المحبوبة، إلى جانب الجرأة في كسر الأعراف، كالبوح بإقامة علاقة جسدية، فكيف يمكن لسعيد أن يعبر عن ذلك على لسان الشاعر، ويبقى في القبيلة؟ فيما اختفى هذا الأخير ليظهر في زاوية الهامل في الصحراء. لقد كانت هنالك قصة الحب بين حيزية وابن قيطون حتمًا، وما كان سعيد إلا قناعًا لبسه الشاعر، أو شخصية متخيلة اختفى وراءها، مثلما حدث مع الكاتب الإسباني، سرفانتيس، الذي استعان بشخصية ابن الأنجلين في رواية "دون كيشوت" للإفلات من محاكم التفتيش، ولذلك أنا أقدم قراءة جديدة لملحمة حيزية، بعيدًا عن الإسقاطات التقليدية والأخلاقية للقصة المتداولة.
(*) من خلال الأبيات الإيروتيكية في قصيدة الشاعر ابن قيطون، ووفق ما رجحه باحثون على أن المرأة ضحية مجتمع قبلي، أنت تؤيد فرضية مقتل حيزية. هل لديك أدلة مقنعة ما دامت القصيدة لم تشر إلى ذلك؟
الشعر لا يوازي الحقيقة. والقصة، حسب القصيدة، وقعت بين شخصين، وانتهت بوفاة حيزية. تلك المأساة تثير الاستفهام، فالشاعر ابن قيطون حدد أماكن الرحلة الأخيرة التي قامت بها المرأة مع القافلة. تمتد الرحلة على مسافة 400 كم من منطقة بازر الصخرة في ضواحي ولاية سطيف شرق الجزائر، حيث يوجد سور باسم حيزية، حيث خيمت هناك، وصولًا إلى واد التل قرب سيدي خالد، على مشارف ولاية بسكرة، حيث مقر القبيلة، وتلك كانت رحلة الصيف والشتاء. لقد توفيت عند وصول الموكب فجأة، من دون أي مقدمات أوحت إليها القصيدة.
في نظري، الشاعر لم يذكر أسباب الوفاة خوفًا على حياته، لأن والد حيزية، الشيخ أحمد بن الباي، كان شيخ القبيلة، وخليفة الأمير عبدالقادر في المنطقة، وقائد مقاومة ضد الشيخ بن قانة الموالي للاستعمار الفرنسي آنذاك. لقد اختفى ابن قيطون بعد ثلاثة أيام، ثم أضحى متصوفًا ومنعزلًا في مكان بعيد.
(*) على جانب من يؤكد أن سعيد بقي حيًا بعد وفاة حبيبته حيزية، هنالك أيضًا من يتبنى فكرة موت الحبيب هائمًا في الصحراء. ألا ترى أن هنالك تقاطعًا مع قصة مجنون ليلى الواردة في التراث العربي؟
نظام القصيدة هو كلاسيكي، تتناول الرحلة، ثم الأحزان، والعلاقة مع الحبيب، ثم العلاقة مع الفرس. إنها مرثية، والمراثي لها نظام أدبي، كما يتم تقديم المحبوب في صورة مثالية، والتعبير عن ألم فقدانه لحبيبته، ثم التيه في الصحراء. وهذا ما يجعلنا متأكدين بأن الشاعر ابن قيطون كان مطلعًا على قصائد امرئ القيس، وعلى التراث الشعري العربي، كما كان مطلعًا على تاريخ قبائل بوعكاز، التي تنتمي إليهم حيزية، وأصولهم العربية الهلالية، وبالتالي نهل الشاعر من ثقافة البدو الرحل والصحراء.
(*) حيزية هي ملحمة في التراث الإنساني، خلدتها أغان، وقصائد، وفيلم سينمائي أخرجه محمد حازورلي عام 1976، لكن ظلت هذه الأسطورة حبيسة المحلية، إذا ما استثنينا ديوان الشاعر الفلسطيني عزالدين مناصرة. إلى أي مدى هذا ليس كافيًا مقارنة بما حظيت به قصص مشابهة في دول أخرى نالت شهرة عالمية؟
نذكر على سبيل المثال ملحمة "مجنون ليلى"، التي تحولت إلى نموذج في المجتمع القبلي، انتقلت من البيئة الصحراوية إلى الدائرة العربية. كما أن الشاعر أحمد شوقي ألف مسرحية شعرية، وكانت سلطته الثقافية مؤثرة. ثانيًا، لأن هذه الملحمة ترجمت على يد الكاتب الفرنسي الكبير، أندريه ميكيل، وشاعت في المجتمعات الغربية عبر الكتب المدرسية والمرويات، فيما نحن لم نهتم بمرثية حيزية وسعيد، ولم نسوق لها، ولا نهتم بالشعر الشعبي، عمومًا. إن الذي أنقذها من النسيان هو كاتب فرنسي آخر لعب دورًا مهمًا في الترويج لها، بعدما نشر النص باللغتين. أما بالنسبة للأبحاث الأكاديمية الجزائرية، فهي قليلة، كالتي قام بها الباحثان: عبد الحميد بورايو، وروزلين غراك.
(*) إذًا، رتبت حقيبتك لاقتفاء خطوات آخر رحلة قامت بها "زينة لبنات"، كما وصفها الشاعر، فما هي محطات سفرك؟ وما هي الوسائل التي تستعين بها لتجميع القطع الناقصة في تلك المحكية الواردة في التراث الشفهي؟
بقى لي أن أقوم برحلة صحراوية طويلة من منطقة بازر الصخرة نحو واد التل، مرورًا بالتلة، وعين أزال، وأمدوكال، وسيدي خالد، البسباس. لقد اخترت أن يكون السفر في شهر أبريل/ نيسان، أو خلال فصل الخريف، أي في الموسم نفسه الذي سافر فيه موكب حيزية في القرن التاسع عشر، وهذه عناصر أولية لبناء الرواية، وقد تأخذ سنة، أو أكثر، حسب الروزنامة التي سطرتها. كما أفتقد إلى الوثائق بسبب عدم حيازة القبائل المتنقلة لسجلات مدنية، وأكتفي بالبحث في الأرشيف الفرنسي، وما دوّن عن تلك الفترة التي واكبت حياة الشخصيات الثلاث.