عندما نتحدّث عن الأغنية العربية، أو الموسيقى العربية عمومًا، لا يكتمل الحديث من دون التوقف مليًّا عند مارسيل خليفة ومسيرة أربعين عامًا من الإنتاج المُثابر، الغنيّ والمتنوع، الذي قد نحبه وقد نختلف فيه أو عليه، لكن ما من أحدٍ يُمكن أن يتغافل عن هذا الحضور الذي يضجّ بصمته، ويصرخ بأناقته، ويُقاوم بحنانه.
من الالتزام بالحالة الجماعيّة إلى الرّهان على الذات، ومن ميادين الحماسة إلى بلاغة القلق هي مسيرة مارسيل. وربما هي مسيرة جيلٍ بأكمله، أرهقته السياسة، وأثقلته الحروب، وخذلته المقولات الكُبرى والشعارات الرنّانة. فمن الأغنية المعفّرة بغبار الحرب، إلى تأليف الموسيقى الآليّة الصّامتة، ومن الصوت الواحد ونقرة العودِ يُخاطبُ الجماهير والقضايا الكبرى، إلى جموع الكورال والأوركسترا يهمسُ بها في أذن الإنسان وفردانيّته؛ ومن "صوتٍ" يُخاطب جماعةً تعيش بصيغة المُفرد، إلى صوتٍ مُغترب يُخاطب الإنسان الفَرْدَ الذي يحيا بصيغة المُتعدّد.
في زمن "الما بعد"؛ ما بعد الحداثة، وما بعد الكولونياليّة، "يتورّط" مشروع مارسيل الموسيقي، كغيره من المشاريع الفنية الأخرى، كلٌّ على طريقته، بالأسئلة الهامة التي يطرحها علينا هذا العصر: أسئلة التفاوض والهجانة والأصالة والبَيْنيّة وهجرة المفاهيم واستنبات الموروث وإعادة تموضُع الهُويّات في "حيّزها الثالث"، ربما، بحثًا عن "أصالةٍ" ما في بريّة الوجدان الإنسانيّ قبل كلِّ أصالةٍ هي بالضّرورة هجينة.
يقول مارسيل: "عمرُ "الالتزام الفني" قصيرٌ، لأنه يتوخّى من السياسة أكثر ممّا يتوخّى من الإنسان، ويستهدف المجموعَ المُبهمَ أكثر ممّا يستهدف الفردَ المتعيّن".
سوف أكتب عن نصوص مارسيل الموسيقية وعن مشروعه المتنوّع لاحقًا. ولكي أترك المَتْنَ هنا له، فلا أزاحمه، سأكتفي بإفشاء سرٍّ واحد من كواليس هذا الحوار: مارسيل قلقَ من الحوار، وأنا أكثر منه. فمن جهته، يسألني: "هل تخشى، مثلي، أن يشي هذا الحوار ببَوْحٍ...؟"، ومن جهتي، أتساءل: كيف يحاور الشخصُ قطعةً من وجدانه؟ كيف يحاور الموسيقيُّ الموسيقيَّ بلغةٍ غير الموسيقى؟ كيف يكون عفويًا صادقًا دون أن يسقط؟
أردته حوارًا موسيقيًّا علميًّا موضوعيًّا، يرتدي نظارة سميكة، يُعنى بالنصّ لا بالشخص. فهزمني النصُّ، وهزمني الشّخص.
"أكثر ما كان يعنينا هو إنسانية الحوار، لا استحضار المهارة"، هكذا أراده مارسيل المُتعب من الأسئلة والأجوبة الجاهزة؛ أراده "عودةً إلى الدّيار"، لا غربة جديدة.
أرسلت إلى مارسيل مجموعة من الأسئلة الأوّلية، وهو العالق في "جزيرته النائية" منذ بدء الجائحة. وعادت إليّ الإجابات، عادت "مُستشهدة" - مُستشهدةً بذاتها المعتّقة، خالعةً ثياب الأسئلةِ كلّها، متحرّرة من كلّ قيد؛ عارية مزمّلة، مشتّتة متماسكة، ثابتة متحوّلة، تارةً تحسبها شيخًا لم يُغادر بيته يومًا، وتارةً تجدها تائهة مُغتربةً ناقصةً كمن لا وطن له غير المنافي؛ إجاباتٌ، لا تتناسج الأفكار فيها إلا بخيوط الوجدان والذاكرة، ولا تتشابك إلا بأشعة العفويّة والطفولة والوفاء، ولا تتحابك إلا بكثيرٍ من الخيباتِ، وأكثر منها الآمالُ، وعدم الاستسلام.
في هذا الحوار، لم أجد فرقًا بين مارسيل المتكلّم ومارسيل الموسيقيّ، فتأكّدت أن الصّدقَ سيّدُ الحضور.
هنا الجزء الأول، وسيتبعه جزء ثان وأخير:
(*) أكثر ما يثير فضولي في قراءتي لسير المؤلفين الموسيقيين هو، أين تتلمذ هذا المؤلف أو ذاك؟ ففي محطة التّتلمذ هذه، تتبلور الكثير من ملامحنا الأولى التي تبقى معنا. فريد غصن هو أستاذك الأول في الموسيقى. ماذا بقي منه فيك؟
وددت لو سألته قبل أن يعود إلى سمائه الأولى عن أشياء كثيرة لكنّه رَحل مسرعًا مع تلك الطيور العاصية إلى ذلك الأفق البعيد ليلامس نور الأقاصي. بعد غيابه لم أذهب إلى الدرس وحدي، كانت الأحلام في انتظاري. والحب - الحب ليس أقل من هذا درسًا للعالم. والحريّة - الحريّة وطن الطائر.
فريد غصن أستاذي. حثني على المتابعة والاجتهاد وقدم لي المخطوطات الأولى التي أفادتني، ووجه لي الكثير من الإرشادات والملاحظات لإكمال المشوار. هو أول من كشف لي قدرتي في العزف ومن ثم في التأليف. نبهني إليهما بعد أن كنت أسمّع له الدرس تلو الدرس. وشجعني على الاستمرار، وأرشدني إلى الأعمال المهمة التي عليّ أن أستنير بها. أتذكر دروسه، كيف أثارت ذهني وحفّزت الرغبةَ فيَّ لأبني شخصيتي الفنيّة على أسس متينة، ولم تستطع كل السنوات الطويلة أن تزيله من نفسي.
عندما تخرجت من المعهد الموسيقي، في حفلة الدبلوم، لم يكن حاضرًا، كان المرض قد أقعده. وفي صمت كبير قال الوتر ما وراء الريشة والأصابع. قال بوحًا شجيًّا. لا براعة. لا تعقيد. لا تصويرات صعبة. لا شيء من كل هذا. ضربات سهلة وصمت. نقرات أكثر من عادية. كان العزف انعدام الواسطة بين الإحساس والنغم. لا ريشة لا أصابع لا وتر لا عود. كان عزف على النغم مباشرة.
كانت تحية من القلب لمن جعل لي من العود رمزًا لما هو حميم وأصيل وهادف.
(*) ما هو التأليف الموسيقي بالنسبة لك؟ متى تكتب الموسيقى؟
التأليف الموسيقي، أو الكتابة الموسيقيّة، كالمياه، تصنع مجراها وتتدفق ولا شيء يمنعها. أدَع النصَّ الموسيقيّ يخرج مني عفويًّا ولا أرهقه بالقواعد والأصول فأخسره. أكتب بلا تردّد كي ينبلج الشروق المسيّج بالضوء. أكتب ولا أقسّم بين الزُهّاد والعاشقين، وأرفع قيْدي عن ريشةٍ ليس لي عليها سلطان. لست ناقدًا أو باحثًا أو عالم موسيقى، أنا أؤلّف الموسيقى ولا أكون على الكتابة رقيبًا. وأُعِدُّ لها من الأفق المزيّن ما استطعت، وأنظر لتجيبَ لهفةٌ فيَّ، تعلو وتيْنعُ حين أسقيها، وحين أهجُرها تخيب. أكتب حين أترك خطًّا من كينونة تسمو فوق المتشابه والمألوف. وكلما عزفت على عُودي، سكن الحنين إلى المزوِّد فيَّ. أكتب عن فكرة تخبو أو طفلة تحبو. أكتب بلا سأمٍ ولا أهتم إن خسرت الكثير، وربحت ذلك التمرين الصّامت على ورق النوتة بحبر سريّ. أكتب لأن في الكتابة عقار روحٍ أصابها السّقم، وبلسم جرحٍ يهتاج من الألم. أكتب ما أسمعه وما لا أسمعه، ليرتفع الغموض عن الأشياء. أكتب ما يحلو لي في ومضة زمان عَجُولٍ لا ينتظر. للشّغف موعدٌ لا أخطئه فيما اتّفق من موسيقى: إلى أمهات أوقدت لي شموع الطريق. إلى حب أكثر يرث من التسامح ما يفيض. إلى عُصفور يُمعن في الهديل ويهدهدني. إلى سؤالٍ مجهولٍ في صوت ديك الفجر. إلى أصدقاء وزملاء أحببتهم، أعدهم بطول الرّفقة، وفي "مُوسيقْتي" قوّتي الشّحيحة، أدّخرها للياليهم البهيجة. ثم نَهيمُ في فلاة الدنيا بلا بوصلة. أكتب الموسيقى حين أعجز عن الكلام والشعر والقصيدة.
(*) كنت شاهدًا على كثير من المنعطفات الصعبة في حياتك، آخرها الجائحة التي نعيشها. بعد كل ما مرّ به لبنان، ثم العالم العربي، وربما الكون بأكمله، ماذا تبقّى من مارسيل الذي بدأ مشواره "يُغني للفرح"؟
لم يتغيّر شيء، لا قبل الجائحة ولا بعدها؛ كنت دائمًا في عزلة تامةٍ مع الكتابة والنّوتة. أكتب لأبرأ من وحشة الصمت ومن الفراغ الأسوأ. ورغم الموت الساطع، أكتب ما أستطيع من آيات الجمال في المرأة والوردة والقصيدة، وما في الخيال من مخزون وذاكرة لا تنفد.
(*) وما الذي يُحرّكك في هذه العُزلة؟
إن المعجزة الوحيدة التي نستطيع تحقيقها هي أن نستمر في العيش. نحافظ على هشاشة الحياة من يوم لآخر، يقول جوزيه ساراماغو. لقد منحتني الحياة أكثر ما كنت أحلم به. وأنا أحب الأشياء التي وهبتني إياها الحياة، تأتي دائمًا من تلقاء ذاتها، وبمنتهى الجمال، ممّا يجعلني أومن بالمعجزات، كما لو أن الأعاجيب والمعجزات ممكنة التحقّق في هذا العالم. وهذا هو اللقاء المكتمل الذي يحرّك مشاعري.
(*) تنعزل كي تؤلف الموسيقى، وتؤلّف كي لا تنعزل؛ كي تكون، وكي تستمر - كي تعِدَ العالمَ بالفرح... (؟)
إن روحي وحياتي قد تكوّنتا من سلسلة الإضاءات والخسوفات التي تؤدي أدوارها دون توقّف في داخلي. ولهذا تجدني أترجم ذلك بالموسيقى على قدر الإمكان والكفاءة. الجمال الذي خيّل لنا أننا فقدناه من عالمنا، يقيم هنا في بيوتنا في انتظاراتنا في أولادنا في أحفادنا. قلق ساحرٌ جادٌّ وماكرٌ. أكتب اليوم أكثر، لأحرّض الناس على التوهّج وبلوغ النّشوة مع هذا الكائن المنعزل الذي يمضي وحيدًا. في بداية مشواري قلت سأغني للفرح، من قصيدة درويش، بصوت غارق في البراءة. أما الوعدُ بهذا الفرح، فيتملّكني الشّعورُ بأنه قادم لا محالة، وإن عاصفة الحبّ ستُبقي ما وعَدَتْ به.
(*) قبل أن تتعلم الموسيقى، كيف كانت علاقتك بالمدرسة؟
وجدت دروسي رتيبة في المدرسة، وأصغر من شغف الصغير. لكن الملعب رحبٌ للخروج من قيد الفصل. وبين البيت والمدرسة متسّع للخروج على مألوفٍ يوميٍّ، ومسالك قدمين تعبثان بما في الطريق من آثار أقدام. وعندما كنت أعود في المساء وأبدأ بحماقاتي الصغيرة، وكانت جدتي تحميني من صرامة التربية، وتبحث لي على قرينة البراءة من جرمي الصغير، وحين تختلي بي في الغرفة المحايدة، تستحلفني على الكتاب المقدَّس ألا أعيدها ثانيةً، فأحلف صادقًا، ثمّ أنسى القسم، وبعد حين يركبني جنون الشغب من جديد.
(*) بصمةٌ تركتها الطفولةُ. بقعة ذكرى تتلذّذ بنسيانها على دفتر النوتة الأول!
عندما كنت طالبًا في المعهد الموسيقي، تلذّذتُ بشغفي الطفولي للتنافس في صف الإملاء الموسيقي. مَن يسابقني مِن أقراني لأسبقه! من يباريني في كتابة التّوافق اللحني لأغلبه! من يجاريني في إطلاق النّوتات لأسمعه! وكبرت في الصف ولا بُرءَ لي من المُزاحمة. فحين كان يبارزني شقيٌّ في الصف، أو يراهنني على أنه أشطر مني، يداخلني النصّ الموسيقي، فأغنّيه.
كم كان ذلك الزمن جميلًا.
الطفولة تنأى عنّا بعيدًا وترحل، عبثًا نعيدها فلن تعود. عبثًا نريدها. عبثًا نظن بأنها مِطواعة، لكنها ترحل وتترك على باب ذكراك جملة قصيرة: من هنا، من الدرس الأول مرّت يومًا.
(*) الطّفولةُ في اللّغة هي أنثى. فكيف هي في لغة مارسيل؟
لم أعرف طريقي إلى غدي من دون امرأة ترشدني، فقد تعلمت، منذ صغري، أن أصدق جدتي وأمي وكثيراتٍ غيرهنّ ممّن أحببتهنّ حتى التّعب، كما تقول القصيدة.
وحدها الموسيقى تحرّرني
(*) والآن؟
ما مضى قد مضى؛ براءة سَفَر الحنين إلى أول الدهشة. وما مضى قد مضى، وأنا اليوم في حضرة الآن، أرنو إلى أفق. وحدها الموسيقى تحرّرني وتأخذني، وأنا أهذي في الطريق.
(*) خارج المعاجم الجافّة. في قاموسك الشخصيّ: ما هي الموسيقى؟
الموسيقى عملية مواجهة. والموسيقيُّ الشجاع ينتصر على حالِهِ، ولا بدّ أن يجدَ لغتَه الجديدةَ في كلّ زمن. الموسيقى محاولة لتغيير الإنسان، وتغيير الكون.
(*) أحبّ الناس أغانيك، وتأسّست جماهيريّتك على الأغنية. في مرحلةٍ لاحقة، بُعيْد الحرب الأهليّة اللبنانية، زاد ميلُك إلى تأليف الموسيقى الصّامتة (موسيقى صرف، دون الكلمة). هل بهذا فقدت بعضًا من جمهور الأغنية؟ هل كسبتَ جمهورًا جديدًا؟
يجب أن تصل الموسيقى إلى كُثُرْ وليس إلى قلّة. وحين يتخلّف أحد عن سماعي أذهب إليه وأعتذر. ربما كان الخطأ خطئي. ربما كانت لغتي عصيّةً على التواصل معه. لذلك أحاول أن أجدَ معادلة تستطيع أن تجد طريقًا إليه.
(*) هل تحشرُنا الموسيقى الصّرف في زاوية النّخبويّة بطبيعتها؟
أنا لا أفهم موسيقى تعيش في حجرة تخاف من الناس. الناس هم بداية الموسيقى والنهاية. هم البوصلة التي تحدّد لي الاتجاه. والموسيقيّ الذي لا جمهور لموسيقاه يكون قد أضاع عنوان الجمهور. والموسيقيّ الذي لا يستطيع أن يكتب مقطوعة يُمكنها أن تتواصل مع الجمهور لديه مشكلة.
(*) أولا تكون المشكلة، أحيانًا، في الذوق العام؟
أؤمن إيمانًا مطلقًا بالذوق العام، وهو الذي يستطيع أن يقيّم العمل الفني؛ يقبل عليه أو يهمله.
(*) "الذوق العام"... لكن، من يصنعه؟ من يصنع من في نهاية المطاف؟
لا أحب تصنيف الفنان؛ فنان ثوريٌّ. فنانُ الغزل. فنان الفخر. فنانُ الحماسة... وأرفض أن يحدّد لي الآخرون صفتي وهُويتي سلفًا؛ أن ينتظروا مني نتائج معينّة وأن يتفحصوني بنظراتهم. إني لا أؤمن بشيء كإيماني بالحريّة، ولا أكره شيئًا ككراهيتي لكل ما من شأنه الحدّ من حريتي، ولو كان متأتّيًا عن طريق المحبة، بل حتى لو كان يجيء عن طريق الحب. فما قيمة الفنان عندما يريده الناس كما هم يريدون، لا كما يريد هو أن يكون! وإلى أي مدى يستطيع أن يلبي الفنانُ رغبات الناس دون أن ينتقص ذلك من تجرّده الفكري وأصالة لغته وحريته. إلى أيّ حدٍّ هو مُلزمٌ بالتجاوب مع رغباتهم!
هل أنا ثائرٌ حقًا؟ نعم! ولكن هل يُمكن اختزالي في كوني ثائرًا؟ لا. فأنا لست هذا فقط. فكما أثور كذلك أهدأ. وكما أكره كذلك أحب. وكما أصرخ كالمجنون في أعمالي، كذلك أهمس كالطّيف أو أختنق كالغريق. إنها معركة بيني وبين أصالتي وامتحان لشجاعتي الروحيّة. أنا هائم بحريتي هيام المأخوذ، لا أتملّق الجمهور، ولا أستجدي التّصفيق؛ لست ضعيفًا أمام محبتهم لي. أفضّل حريتي على إعجاب الناس، وأنا حريتي التي لا بديل منها ولا مفر. أعيش أرقًا دائمًا، ولا ألين للمساومة.
(*) أنت، إذن، لا ترى إلى الفن خارج وجوده الاجتماعي.
الفنُّ جسرٌ من الجَمال يصلنا بالآخرين، والفنان مطلوبٌ منه أن يفتح قلبَه للناس ويقيمَ جسورًا من الضّوء والحرير بينه وبينهم.
(*) أحيانًا، لا يكون إحساس الناس مدرّبًا بما فيه الكفاية، أو معتادًا، على تلقّي أنواعٍ من الموسيقى، ربما هي أكثر تعقيدًا من غيرها...!
إحساس الجمهور هو إحساس فطريّ يشبه إحساس العصافير بقدوم الشتاء، دون أن يكون لهذه العصافير أي معلومات عن قانون الأحوال الجويّة.
(*) تكتب الموسيقى "من بطنك"، إذن، كما يُقال؟
إنني لا أعرف تمامًا كيف أكتب الموسيقى، مثلما لا تعرف السّمكة كيف تسبح. ولا العصفور كيف يطير، ولا الطفل كيف يبدأ بالحبو. الموسيقى برق يجمع في دواخلنا مشاعلَ مضيئةً، تكوينا من الداخل. زلزال يضربنا حين لا نكون في انتظاره. عمليّة تلقائيّة. نوع من الانبثاق الداخلي ينبع من داخلنا كما تنبجس الينابيع من جوف الصحراء. الزيف والغش الفني أرفضه نهائيًّا. وإذا كنت أملك هذا الرصيد الشعبي، فسببه أنني لم أغش في ورق اللّعب. أمشي عاريًا تحت الشمس. باقٍ في وجدان الناس ولا يعنيني أن أبقى في ذاكرة ناقد. أتوجه إلى المنبع إلى الناس. لا أريد جائزة. إذا استطعت أن أصلّ إلى سماع وجدان الناس أكون قد نجحت. تعبت لأخترع لغتي خلال 40 سنة، وتعبت لتكوين حالة تُعرِّف بي وأُعرَّف بها. الخصوصية أن تصنع لغتك. الموسيقى بصمات، والعالم لا يحتاج إلى نسخ متشابهة.
النقد الموسيقيّ
(*) متى يكون النقد الموسيقي فعلًا إبداعيًّا موازيًا للتأليف الموسيقي؟
أؤمن بالناقد الموسيقي الذي يحاول أن يعيش الموسيقى، أن يتعاطف مع وجدانيتها. لا الذي ينظر إليها بينما يضعها على مائدة التشريح ويقطّع أوصالها. الناقد الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتقمّص الموسيقي، أو أن يكون موسيقيًا آخر. النقد أن يوجّه، أن يعلّم. لا أظلم النقد، ولكن حركة الإبداع سابقة كثيرًا النقد.
(*) ماذا تكتب الآن؟ ماذا تقرأ؟
أعمل الآن على جدارية درويش لأكتب لها موسيقى مرادفة. وفي نفس الوقت أعود وأقرأ معلّقات امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد والأعشى والحارث بن حلّزة اليَشكُريّ ولبيد بن ربيعة العامري وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد...
(*) الجداريّة لشاعر معاصر... فلماذا المعلّقات تحديدًا؟
في المرّة الأولى، قرأت المعلقات عندما كانت فرضًا مدرسيًا. اليوم أقرأها بتمعّن. وفي الحقيقة، أجد أن من لا يقرأ شعر الجاهلية، يقبع في الجاهلية. ولو لمرّةٍ واحدة في العمر، أن تقرأ الذين استوطنوا الماضي وأنطقوا الصمتَ في بيداء الكلام. جرّب أن تنعم بالسلام يومًا تورد فيه الإبل، وترقب فيه خوف الظباء من جفاف الينابيع، وجرّب أن تمرّ بالتفاصيل كما تحصي يوميات أمسِكَ. جرّب أن ترخي للمعلقات جدائل شهوتك كي يتسلقها الصعاليك إليك، فتصحبهم قليلًا، أو تجادلهم في المعنى. خُذْ البعيد إلى الأدنى كي تكون جديرًا بنفسك، وتقول للذين خذلوك: ما كان لكم ما قلتم، وما علمتم.
الليل كلّه إن أحسنته، والصبح فائض وقتٍ ضائع بين رقدتيْن خاملتين، مثل شجرتين هائمتين في قصيدة الأبديّة. وأنت بين فطاحل الجاهلية أصغر ممّا تسمعه الأذن، وأكبر ممّا تألفه القابليّة.
(*) تقرأ المعلّقات، أم تُمَوْسِقها؟
أحاول جاهدًا أن أمَوْسِقَ هذه الموسوعة، ربما تكون نقطة تحول جريئة في عالم الموسيقى العربية. عشقت الشعر كالمجنون وبين أصابعي تنكسر الألحان وأنا أنتصر على المجهول فيه حين أخلو إلى بيتين. وأختصر ما أطال الزمان من الواقعات في جملة لحنية.
سرٌّ ما منعني من أن أكون شاعرًا وأنا أموسق القصائد، منذ كنت طالبًا على مقاعد الدراسة. كنت آخذ من ديوان المعرّي أو البحتري. آخذ من الماضي قديمه، كي أُشهده على وهج الصَبا. آخذ زاد يومي وأبحث لنفسي عن وسيلة أخرى لأفضّ بريد الماضي بهدوء وأعيد تأويل البدايات. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، أتعلَّم من الشعر وأحسّ بيد من البعيد تلوّح، وأسرار يبددها الأبد.
(*) كيف ترى إلى سؤال الغياب، سؤال الموت، في الموسيقى؟
ثمة سؤالان مؤجلان في أذهاننا: سؤال الحياة وسؤال الموت. لا يحضر الموت في الأعمال الموسيقيّة عندنا إلاّ لمامًا. حضر دينيًّا. ماذا تقول الموسيقى القصيدة؟ هناك جدارية محمود درويش ومجمل قصائد وديع سعادة. أتحرّر الآن من نص الجداريّة وأكتب موسيقى موازية للنص تعبّر عن سؤال الموت. وربما الموسيقى ستحرّر تعبير الكلمة؛ الكلمة تُحنِّط المعنى ضمن دائرة دلاليّة. المعنى يتحرّك داخل قفص العبارة. الموسيقى تحرّر العبارة وتحرّر المعنى من قيد الكلام. الموسيقى، أحاول أن تكون علاقتها بالشعر علاقة استيحاء: بمعنى أن أستوحي النصَّ الموسيقيّ من العالم الرؤيوي لجدارية درويش. هناك مقاطع شعرية بصوت الشاعر ستدخل مع الموسيقى في الحركات الأربع لسمفونية الغياب. صرخة الولادة تأخذنا إلى شهقة الموت. وربما الموسيقى تهزم الموت. وكما جاء في الكتاب: أيها الموت لقد هزمتك الفنونُ جميعها. سؤال الموت هو سؤال الحياة. الموت يشغل الأحياء، ونتمنى أن يمهلنا لنقول ما سنقول. الحياة مرّة واحدة. نعيشها بكاملها ولا نتساهل بها ونرجئها. يجب أن نعيشها كما ينبغي.
(*) لو عدنا بالزمن إلى الوراء، كيف تُكتب طفولتُك؟ أين هي في نصوصك ومدوناتك؟
الطفولة لا تكتب مرة واحدة، إنها تخترق نصوصي الموسيقيّة. تستعيد عالمًا مفقودًا. حتى لو كانت الطفولة بعيدة دائمًا، والتذكّر يقربها ويجمّلها، أو نلبسها الجماليات التي ربما لم تكن موجودةً فيها. كأن نتذكر البيت الصغير، ومسافة البعد تجمّل الماضي على نحوٍ تجعله وكأنه هو هدف الأحلام التي نخترعها لنتغلب على وطأة الراهن الثقيل.
في بيتنا الصغير، البيت الإنساني الضيّق - الواسع في آنٍ معًا، كتبت أولى أعمالي وأسمعتها لأمي وأبي وجدي وجدتي.
الورقة البيضاء المسطرة بالمدرج الموسيقي وقلم الرصاص والممحاة كتبت عليها النوتات المليئة بأصوات من سكن وزار هذا البيت وما سمعته وما شاهدته، كان حيزًا صغيرًا لأمرر من خلاله ذاكرتي ومجازي والاستعارات والرمزيات كلها، متقاطعة وقادمة من نتاج مكتوب سلفًا هناك.
لا أبدأ من بداية، بل أواصل بدايات كتبتها هناك.
(*) واليوم؟
أبحث اليوم عن موطئ قدم في زحام العالم والتاريخ. أصعبُ شيءٍ اليومَ، هو كيف تحقق نفسك على نحوٍ خاص وسط هذا الزحام. عندما كنت صغيرًا، كنت أجرؤ أن أكتب ولم يكن عندي معرفة بكل ما أقوله بالصوت والإيقاع. طفولتي الموسيقيّة لم يكن لها قصدية معرفية تسبقها، وكطفل صغير، كنت أحب الموسيقى، وكان جدي وأبي يحبّان الموسيقى. كنت أسمعهما وأحلم أن أشاركهما، وبدأت أقلّد ما أسمعه وأكتب على منواله. شجعتني أمي بدورها كذلك، ولم أكن أعرف بعد أنني سأصل إلى حد الحرفة. كنت أعتقد أن الموسيقى ستبقى هواية. لا يمكن لأحد أن يقرّر سلفًا بأنه سيكون موسيقيًا، وحتى الآن ورغم هذه الطريق الطويلة، ما زلت أنوس بين الهواية والحرفة؛ بقيت هاويًا ومحترفًا في أنٍ معًا.
(*) محترفًا وهاويًا، يعني... (؟)
أن تكون محترفًا، يعني أن تأخذ العملية بجديتها ومسؤوليتها الكاملتين. وأن تكون هاويًا يعني ألا تصبح موظفًا موسيقيًّا. وبهذا التأرجح، بين المهنة والهواية، تحقق شيئًا ما.
(*) ألا يأتي الاحتراف على حساب الهواية؛ على حساب مجمل هواياتنا؟
كوني متورّطًا في الموسيقى جعلني أضحّي بالنثر. النثر، أو الكتابة الأدبية، تأخذ مني الموسيقى، وما لا تقوله الموسيقى أقوله في النثر.
(*) الاحتراف... كيف يُقيم علاقته مع الوقت؟
أنتبه اليوم إلى الوقت أكثر من أيّ زمنٍ مضى؛ كلّ يومٍ يمرّ ولا أعمل فيه، أشعر بإحباط شديد. وفي بُعدٍ آخر لهذه العلاقة، علمني العمرُ أن احتسب الوقت بدقة بحثًا عن الموسيقى الصافية. الموسيقى المتحررة من عبء تاريخها. من عبء الواقع. فبتّ أسعى للبحث عن الجوهر والعمق. علينا أن نحاول التصديق بأنهما موجودان، بحثًا عن الموسيقى المستحيلة.
(*) هل تستطيع أن تقول إذن، إنك حقّقت مبتغاك، موسيقيًّا، أم إنه مسار بحثٍ لا ينتهي؟
لم أكتب بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها. أسمعها في الحلم. وعندما أصحو، تضج بها أذنيّ بصمت صارخ إلى ما لا نهاية... أليس في الموسيقى عبثٌ لا ينتهي! فهل أصدق نغمي المصنوع من عصا المايسترو؟ أعود إلى رندحات جدّي الذي علمني ركوب البحر في عزّ الشتاء، وأكتب.
العالم الصوتيّ الأول
(*) عالمك الصّوتيّ الأول، مما تشكّل؟
من مصادر السماع الأولى كان صوت (النَوَرْ) الغجر ينصبون خيامهم على الجسر العتيق في "خراج" الضيعة. وفي أيّام الأعياد الكبيرة، كانوا يؤلفون فرقة فنّية صغيرة، قَوامها البزق والطبلة، إلى جانب الرقص الغجريّ الساحر. يدورون من بيت إلى بيت، ومن ضيعة إلى ضيعة. يغنون. يرقصون للناس داخل البيوت دقائق معقولة، مقابل قروش قليلة يحصلون عليها. وكلما مَرُّوا من أمام بيتنا، كان والدي يدعوهم لمشاركته "كاس العرق"، وكان مذاق العرق يخاطب بالروح والعينين المازات المنتشرة على الطاولة. كانت الأطباق الآتية، من كل حدب وصوب في حيّنا، تثير فينا الشهيّة، بينما يُصدر والدي الأحكام ببلاغة: "ملح زائد". "زيت قليل". "ناقص حامض"... وتدور الحفلةُ... وآه ما أحلى ذاك النغم البدويّ الساحر، وتلك الرقصات الأنثوية العارمة.
كنّا ننتظرهم من عيد إلى عيد لنحفظ أغانيهم عن ظهر قلب. ثم نعود لنتابع الحفلة مع والدي المنتشي؛ "أطربق على سكنبلة خسعة" حينًا، وعلى طنجرة كبيرة أحيانًا. نغنّي أغانيهم، وتطييبات والدي تعلو على أصواتنا.
أحيانًا، كنت أذهب مع رفاقي إلى خيامهم، تحت الجسر، حيث يبدأ سعيد النّوري بالعزف على البزق بمرافقة أزيز الجيز وذبذبة الذُّبَاب وعواء الكلاب. وتلك الراقصة النورية الساحرة تخطف أبصارنا، عازف البزق يدندن لها فتبدو كأنها ستقع بين يديه. أغان بدوية ذات حنين جارف بمرافقة طبلة صغيرة، نردّدها مع بزق سعيد النوري. ما زلت إلى اليوم، أسمع صدى تلك الأغاني والإيقاعات، وذلك الصدى الجميل الذي عجز الزمنُ الطويل عن إسكاته.
(*) أيّ ذكرياتٍ صوتيّة تحتلّ ذاكرتك، من تلك الفترة، إلى جانب ذكرى الغجر؟
لن أنسى أولاد الحيّ؛ ننزل في عزّ الشمس، نمشي ونقضي ساعاتٍ طويلةً في اختراع القصص والأوهام و"قناية الميّ"، وقد كانت المدى الذي نرسم حوله الكثير من أحلامنا. نمارس عشقنا وفرحنا ولعبنا. نجلس على ضفافها كل يوم في مكان وننتقل مثل العصافير نغنّي على إيقاع التَنَكْ وعلب الحليب الفارغة إيقاعات ملونّة. كل علبة لها طنين وكل تنكة لها رنين. كنت أقوم بدور المايسترو. لم يتقيّد أحدٌ بإشاراتي؛ كل واحد كان يغني على ليلاه. الحنين إلى قريتي عَمْشيت لازمني كل فترات خروجي منها. وكنت في أعمالي وكتاباتي أسترجع ذكرى أسعد أيّام حياتي، وهي الأعوام الأولى. فمؤلفاتي كانت عبارة عن أغاني وموسيقى انتصار وهزيمة، فخر ويأس، تتردّد فيها أنغام ما حملته معي من أصوات البحَّارة والفلاحين وجوقات كنائس البلدة.
(*) الكنائس المجاورة.. مدرستك في عَمْشيت، مدرسة الفرير. أيّ ذكرياتٍ صوتيّة بقيت منها؟
يُعيدني السؤال إلى الجوقة وآلة الأرمونيوم في مدرسة الفرير.
للمرة الأولى في هذه المدرسة التابعة للإخوة المريميين (إرسالية فرنسية)، بدأت أنشد مع الجوقة التراتيل الكنسيّة، يرافقنا على الأرمونيوم فرير فرناند، السويسري الأصل، واضعًا أمامه المخطوطات الموسيقيّة. ومع الأيام، تقدمت كثيرًا في تلك الجوقة، وأصبحت المنشد الأول فيها. وكنت أَجِد في الترانيم المكونة من أربعة أصوات متعةً حقيقية. كانت جميلة تلك اللحظات المؤثرة، والتي تركت فيّ أثرًا لم يُمحَ. أما في كنيسة الضيعة، فكنت أتمتّع بأصوات البحَّارة والصيادين، بتراتيل شعبية على مقامات شرقية ملؤها البحر والشمس. ومنذ البداية كنت أتنقل بين قداس بأربع أصوات، وبين تراتيل مونودية على مقامات الراست والبيات والسيكاه وراحة الأرواح.
(*) اكتسبت لغتين موسيقيّتين في آنٍ معًا. أهذا لأن عَمشيت، الضيعة الواحدة، قد تعدّدت كنائسها؟
بالضيعة كنائس كثيرة، وهي كنائس مارونية. والتراتيل في هذه الكنائس تعتمد المقامات مثل البيات والراست والسيكاه وما شابه، والكنائس المارونية في الأصل طقوسها شرقية. لكن، وفي أعقاب صراع تاريخي، انضمت إلى سلطة البابا في روما، هم كاثوليك إذن، ولكن طابع القداس والتراتيل ظلّ شرقيًّا. أما كنيسة الفرير، وهي كنيسة تابعة لإرسالية فرنسية، فالتراتيل فيها تعتمد على أربعة أصوات، وعادة ما تكون التراتيل باللغتين اللاتينية والفرنسية.
(*) وحين كنت تتقصّد سماع الموسيقى؛ ماذا كنت تسمع؟ أيّها أمتعك؟
استمتعت بأعمال الأخوين رحباني وفيروز، وقد غنوا للجميع؛ التزموا بالإنسان، وعبرّوا ببساطة وكِبر عن مشاعره. غنوا للطفولة وتكلموا عن الحب، وغنت فيروز وارتعشنا ونحن نستمع. يرنو الرحابنة إلى عقارب الساعة، وتصرخ لها فيروز بأن تتوقف. نستيقظ غدوية مع الصيادين وأغاني البحَّارة والشغيلة، ويستفيق الماضي في الأغاني حنينًا على جناح الأوف والعتابا وأبو الزلف. الحنين إلى الضيعة والساحات. الحنين إلى بيروت. وتلمع العيون بالأمل بالإيمان الساطع. أما الوطن فتعلّق رهيب بكل حبّة تراب. أغنيات العودة وفلسطين، وقد ملأت قلوبنا حماسة.
استمعت، بالإضافة إلى أعمال الأخوين رحباني وفيروز، إلى موسيقى توفيق الباشا وزكي ناصيف ووليد غلميّة وبوغوص جلاليان وتوفيق سكّر وعبد الغني شعبان، وإلى ألحان نقولا المنّي وسامي الصيداوي وفيلمون وهبة وعفيف رضوان وغيرهم.
وكان للفونوغراف الجديد، الذي أهداني إياه خالي في تلك الحقبة، أثر مهمّ على تطوّر متابعاتي الموسيقيّة من خلال أسطوانات عديدة حصلت عليها، ومنها ألبوم كامل السمفونيات التسع لبيتهوفن، بأداء الأوركسترا الفيلهارمونية البرلينية، وبقيادة هربرت فون كارايان. كنت بوعي الصبي الذي كنته، وعي يحس بالموسيقى وينخطف بكل جملة. ثم توسعت مكتبتي لتطال كثير من موسيقات العالم. وبحثت عن سيّد درويش وأعماله المسرحية الغنائية: فيروز شاه. شهرزاد. البرّوكة والعشرة الطيبة. وأدواره وأناشيده وطقاطيقه. وكذلك محمد القصبجي وأعماله الرائدة. وعمر الزعني، الصوت البيروتي الهامس المجلجل. ومثلما كان سيّد درويش يبحث عن إيقاعات تلائم روح الشعب المصري في اليقظة والثورة، كان عمر الزعني يفعل، كما فعل بيرم التونسي، فيُعرّي الكلمات إلاّ من إيقاعات المعنى المباشر، بهدف الوصول إلى أوسع اتصال ممكن مع الناس.
أشخاص وبصمات
(*) أشخاصٌ كثر تركوا بصماتهم الراسخة في ذاكرتك، شخصيّتك، نشأتك. هل نبدأ برسم بعض البورتريهات لهم؟
لنبدأ من فريد غصن...
(*) من أستاذك الأول...
أغور عميقًا بذاكرة الطفولة، وأطل بلمح البصر على مقاعد دراستي على يد أستاذي فريد غصن. أسمعه يدندن على عوده ويهمس بمقام الزنجران، يتحسّس أجنحته الكثيرة، يبرأ بها من أقاليم أقلّ من أبجديّته. يجعل ثقته في الريح. يخرج من الماء العابث مثل شجرة تطلع من زخّة المطر مغسولة ومشبوقة. لا يتسع قلبي لنقرة عوده، لمطره الأخضر، لمقاماته تعانق الروح. كانت نبرته الصافية ترنّ في ذاكرتي عندما أحاول أن أحبو على سلالم عوده.
ما زلت أسمعه يقول لي: "لا تصدِّق الكلام. ضع ثقتك بأحلامك". هكذا كان يبادرني عندما آتي إلى صفّه. علاقة الانتماء التي تربطني بأستاذي فريد غصن، ليست إلا واحدة من العلاقات التي أعتز بها. ربما الحياة سوف تخلو من المعنى إذا خَلَتْ من هذا الانتماء، أو من هذه العاطفة، وافتقرت إلى الحب. لأنني أرى في الانتماء سلوكًا إنسانيًا بالدرجة الأولى. أحب، في هذا الحوار، أن أعطي نبذة صغيرة عن فريد غصن، نزين فيها هذا اللقاء ولو أتى خارج نمط الأحاديث. فاسمح لي ولو على السريع أن أعرّف عن أستاذي.
"الياس نعمة الله غصن شلالا" هو الاسم الأصلي لفريد غصن. هاجر والده إلى مصر وسنة 1912 ولد فريد في الإسكندرية، وقد تولّى تعليمه المبادئ الموسيقيّة أستاذ يونانيٌّ، وبدأت موهبته تبرز في أعمال صغيرة تلفت أنظار الكبار. بدأ حياته الفنية عام 1932 عازفًا على العود في فرقة الكمنجاتي سامي الشوّا وفي فرقة الشيخ أمين حسنين، ثم انتقل إلى فرقة منيرة المهديّة والتي صحبته معها في رحلات خارجية كان أبرزها في فرنسا، وتابع تحصيله الموسيقي هناك، فكان أول عربي ينضم إلى جمعية المؤلفين والملحنين.
يعود فريد غصن إلى مصر حيث شارك في وضع الأغاني لأفلام عديدة، إلى جانب أقطاب التلحين أمثال: محمد القصبجي. رياض السنباطي. الشيخ زكريا أحمد. وقد تميّز فريد بكتابة الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام، وليس الأغاني فقط، وكان يعرف عنه بالملحن المجدِّد. عمل بفرقة بديعة مصابني وكان ملحنًا لاستعراضاتها. أسس سنة 1946 أول جمعية منظمة لرعاية مصالح المؤلفين والملحنين وكان معه يومها محمد عبد الوهاب وبديع خيري ومحمد القصبجي. رعى الكثير من الفنانين الوافدين إلى القاهرة مثل ألكسندرا بدران، والتي اختار لها يوسف وهبة اسم نور الهدى بعد فيلم جوهرة، ولحن فريد غصن لنور الهدى: يانا يا وعدي. ولحن للور دكاش: آمنت بالله. ولحن لصباح: إيه معنى الحب، ولبنان زانو من الربيع وشاح، وصباح الخير على لبنان. ذات يوم سمع القصبجي آمال الأطرش (أسمهان)، وأعجب بصوتها، فتبرع داود حسني بتعليمها العزف على العود، وزكريا أحمد تلقينها أصول الأداء الغنائي، ومحمد القصبجي المقامات وطريقة الانتقال فيما بينها. وتُرك أمر تحفيظ التراث وتثقيفها موسيقيًا لفريد غصن. وقد غنّت أسمهان من ألحان غصن أسمع البلبل، محتار قلبي ونار فؤادي ونور عينيّ.
فريد الأطرش تتلمذ على يد فريد غصن، وقد غنى فريد الأطرش من ألحانه: يا بدعدع وَيَا قمري نوحك علامي. وهناك مونولوج وقعت أودع حبيبي، كلمات أحمد رامي وألحان فريد غصن وغناء أم كلثوم. هذا المونولوج اُذيع على الهواء سنة 1941 ولم يُسجل. تعهد فريد غصن محمد فوزي الشاب الآتي من طنطا وكذلك شادية وهدى سلطان. سنة 1947 اكتشف طفلة عمرها 7 سنوات تغني، وكان اسمها نجاة حسني وأصبحت فيما بعد نجاة الصغيرة، وقد حمل فريد غصن الصغيرة في أول رحلة فنية إلى لبنان صيف 1947. عاد فريد غصن إلى لبنان سنة 1960 واستقر فيه نهائيًا، وأصبح أستاذ العود في المعهد الموسيقي، ومخرجًا فنيًا في الدائرة الموسيقيّة في الإذاعة اللبنانية. وعندما عزفت أمام فريد غصن ضمّني مباشرة إلى صفه، حيث درست على يده أربع سنوات إلى أن أقعده المرض سنة 1970.
(*) لمن سترسم البورتريه التالي؟
جدي يوسف، عذب الحنان في جلسات الطرب الحميمة.
جدّي "كانْ مُغْرَمْ فَنْ". صوته حلوٌ وعزفه أحلى. يعزف على شبّابة شجيّة. كان يمتلك فونوغراف مع أسطواناتٍ قديمة ذات 78 لفّة. "بيضافون كومباني" [شركة بيضافون]: الأستاذ محمد عبد الوهاب، "يا جارة الوادي"... وتبدأ الخشّة ترافق مطربَ الملوك والأمراء بمجرد وضع الإبرة الخشنة، والتي كانت تخلّف وراءها خيوطًا دقيقة لامعة على الأسطوانة السوداء الكبيرة، وجدّي يسبّق على عبد الوهاب، وصوته يطفو في الأعلى: "لم أدر ما طيب العناق على الهوى، حتّى ترفّق ساعدي فطواكِ". تنتهي الأغنية وجدي يُسَلْطِنْ على مقطع (لم أدرِ)... أما نحن، فنطيب له الآه تلو الآه، حتى يُبَحّ صوته. فنعود ونضع الأسطوانة من جديد لينسجم بنقرات العود المحبّبة لديه. ونقرات العود تلك تدغدغ آذان السكارى الرائعين، المبهورين، رغم ما كان في الأسطوانة القديمة من خشخشة تقزّز الآذان المولعة بالموسيقى.
(*) البورتريه الثالث؟
والدي...
عندما بدأت بتعلّم الموسيقى وخاصة العزف على آلة العود، كنت أقوم بـ"بروفة" لامتحان المعهد أمام أبي مع هزّة رأس والد فخور بابنه الذي كان بالكاد يعرف يدوزن العود. وبعد مدّة تحولت "بروفات" الامتحان إلى احتفالات عامرة مع أصحاب والدي والذي كان يصّر دائمًا على دعوتهم ليشهدوا على إبداعه وإبداع ابنه.
كنت في السنة الأولى من بداية دراستي الموسيقيّة، وكنت في نظره أستاذًا كبيرًا. وكان يسألني دائمًا عن المواد التي أدرسها في الكونسرفاتوار. وكان يزعل وينرفز عندما أحصل على علامة 18 على 20 في الآلة وكان يقول لي بحزم: "يجب أن تحصّل 20 على 20 في الفصل القادم"! ومرّة، حصلت بالفعل على علامة 20 على 20 في مادة العزف، عندما كتبت "سماعي بياتي"، وكانت (العلامة)، على ما أعتقد، تقديرًا استثنائيًا من اللجنة التحكيمية. فحقّقوا عندها لوالدي الغرض المنشود وأجبروني على الحفاظ على هذه العلامة كي لا أغضب الوالد.
(*) البورتريه الرابع؟
أمي.
لقد أصبحت موسيقيًا بفضل أمي. فقد لاحظت، منذ طفولتي، اهتمامي الكبير، ورغبتي اللامحدودة في تعلّم الموسيقى. أتذكر كيف كانت تجبرني دومًا على الغناء كلما زارنا أحد، وكنت أقف طائعًا، وبخجل طفولي رحت أردّد ما حفظته من أغانٍ رائجة في ذلك الزمن. أمي رحلت باكرًا. والموت لا يقدر على مصادرة حق الحب. مثلما يفترق العشّاق ليبقى الحب.
أتذكر أيّام زمان عندما كنت صغيرًا، وأخاف من العتمة، كانت أخبار أمي وأصابعها الجميلة وهي تمتد إلى جبيني المغطّى بخصل الشعر الهاربة، تخربط العالم وتفركش العتمة. أذكر كيف كانت ترجّع دون انقطاع ترنيمة مملوءة بالحب لأنام. لقد ترعرعت على تراتيل أمي في سرير خشبي قديم تهزه بيمينها على إيقاع: يلّا ينام يلّا ينام. وكم كان وقع الأغنية مؤثرًا بصوت أمي الدافئ، وكانت تقيدني قبل الأغنية وبعدها وخلالها. كان لصوتها جمال غامض، حيث كان يختلط مع صوت الريح الآتي من صوب البحر. ولقد كانت تراود أمي أحلام بأنني سأصبح موسيقيًا مشهورًا وتردّد موسيقاي.
ولكن أمي ماتت قبل الأغنية، وقبل الموسيقى، وقبل أن تصبح تلك الأعمال في ذاكرة الناس. ولم أكن أعرف بأنني سأبعثر أيامي في الحقائب والمطارات والمدن البعيدة. وأقطع الأرض كما يقطعها الطائر بيومين.
... تمتّعت أمي بموهبةٍ مكّنتها من تصوير كل ما رأته ولاحظته في الحياة من حولها، كأن بها ترسم لوحة. ما أن تخرج إلى السوق لقضاء حاجة من حوائجنا اليوميّة، حتى يسترعي انتباهها كل تفصيلٍ من تفاصيل الأحداث الكبيرة، والمشاهد المثيرة. وما أن تعود إلى البيت، تشرع في رواية كل ما رأته وكأنها تصوّر مشهدًا، بكل ما فيه من وجوه كامنة، لا يمكن تمييزها إلا بعين فنانة.
كانت تحكي عن الحقائق والأحداث البسيطة بقدر كبيرٍ من الوضوح والحيويّة. حتى خُيّل لنا أننا نشاهد هذه الأحداث بأم عيننا. وكانت تضيف بدعابتها الرقيقة والدافئة رونقًا خاصًا على حضورها، ولا يمكن لأحد إلاّ أن يفترّ عن ابتسامة وهو يستمع إليها، بينما تروي كيف أوقفت والدي في ليلة "الحاجة بربارة"، وكانت متنكرّة في ثياب رجل، برفقة جارتنا الخياطة الست ماري، والتي كانت متنكرّة، كذلك، في ثياب رجل. وكان والدي يعمل على سيارة أجرة عموميّة. قالت له بصوت أجّش: أتستطيع أن تأخذنا إلى أحياء الضيعة البعيدة لَنْدَوِّرْ على البيوت، كما كانت العادة في تلك الليلة التنكريّة. وعندما أدرك والدي بأنها امرأة متنكرة في ثياب رجل، وكذلك رفيقتها، قال فورًا: أهلًا وسهلًا، على الرحب والسعة.
- قدّيْ بتريد؟
- ما راح نختلف، تفضلّوا، تفضلّوا.
واستغرق ذلك المشوار المسائيّ أكثر من 3 ساعات، لأن أحياء الضيعة متباعدة عن بعضها البعض. وعندما شارفت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل قالوا لأبي - السائق المطواع: من فضلك خذنا إلى حيّ "العَرْبِة"، وحينما وصلوا إلى "الكوع" أمام المنزل، أوقفته أمي بصوتها الواثق وخلعت القناع، وقالت بضحكتها الساحرة: شكرًا يا خواجا ميشال على المشوار! ...
ضحكنا ليلتها طويلًا، وبقينا نروي القصة ونضحك ووالدي يسكتنا ويبرّر بأن ظلمة تلك الليلة كانت حالكة، ولم يعرفهن وهن يرتدين ثيابهن التنكريّة.
ورحلت أمي...
رحلت في عزّ فتوّتها، وبلغ الحزن بنا منتهاه. لم أصدق في البداية بأنها لن تعود ثانية، ولم أستطع أن أسلّم بفكرة أنني لن أراها، ولن أستمع إلى ضحكتها مرة أخرى.
كانت أمي خلال مرضها مثارًا للدهشة بما امتلكته من خصال روحية فريدة، وبطاقاتها التي لا تنفد، وبقلبها الراجح المستنير. وفوق كل ذلك، اهتمامها الدؤوب بكل ما حولها كما هي عادتها. كانت تُضفي علينا الحماس والفرح والحب، بما لا يتناسب وآلامها. امرأة ظلت تبتسم لنا حتى الرمق الأخير.
لا أذكر من أمي غير جمالها الناطق بالحب، ونصائحها الصامتة لولدٍ منذور لما يقلق أجمل الأمهات.
(*) كما لو كانت "وعدًا"، جاء عاصفًا، وذهب...
...
(للحديث صلة)