}

مارسيل خليفة: ما زال بمقدورنا الحُلم بالشعر والموسيقى والغناء

وسام جبران 18 يناير 2022


عندما نتحدّث عن الأغنية العربية، أو الموسيقى العربية عمومًا، لا يكتمل الحديث من دون التوقف مليًّا عند مارسيل خليفة ومسيرة أربعين عامًا من الإنتاج المُثابر، الغنيّ والمتنوع، الذي قد نحبه وقد نختلف فيه أو عليه، لكن ما من أحدٍ يُمكن أن يتغافل عن هذا الحضور الذي يضجّ بصمته، ويصرخ بأناقته، ويُقاوم بحنانه.

هنا الجزء الثاني والأخير من الحوار مع مارسيل خليفة:

(*) .. ومع "وعودٍ" أتت "من العاصفة"، بدأت رحلتك إلى العلن، وبدأت القاعات تغصّ بجمهورك...

في عَمْشيت، في عزلتي، لم أجد ما أستأنس به سوى ديوان شعرٍ لمحمود درويش. أخذت "أتسلّى" بمَوْسَقة القصائد... وفي صباحٍ باكرٍ من شهر آب/أغسطس لسنة 1976، دخلت أحد ستوديوهات باريس الصغيرة، ولم يكن معي سوى بعض الألحان المُدونّة والعود. مسّ الجمهور حنين عميق؛ اتخذت الأغاني طريقها، ودخلت الأعماق. ثم بدأت القاعات تغص بالناس في كل مكان. وتوالت الأعمال، من وعود من العاصفة، وصولًا إلى نص موسيقي إنشادي مستوحى من العالم الرؤيوي لجدارية محمود درويش. تبع ذلك تأليف موسيقى تصويرية لأفلام المخرج مارون بغدادي. وموسيقى لمسرح فرقة الحكواتي. وكان سبق ذلك أوبريت "مَرَقِ الصّيف" في مهرجانات جبيل سنة 1971. وموسيقى لعروض البالية الشرقي لفرقة كركلّا.

(*) هل "التزامك" بقضايا الإنسان في فنّك هو أسير بدايةٍ صنعتها الظروف، أم هو "التزامٌ" واعٍ منذ اللحظة الأولى؟

في محاولة لتبسيط الأفكار الفنية التي انتعشت أثناء الحرب اللبنانيّة، نشأت تسمية "الالتزام"، وكانت التسمية "موفقّة"، لأنها سهلة الحفظ، سهلة التكرار، قويّة الوقع. وجعلت الكثيرين يعتقدون أنها تسهّل لهم الأمور. وانهالت القصائد الملتزمة والأغاني الملتزمة على الناس، وجعل النقّاد من الالتزام قسطاسًا في الحكم، وراحوا يرددون اللفظة في كل سطر ويقرنونها بالتفوّق. وذلك بقدر ما تشير الأغنية أو القصيدة أو المعزوفة إلى مواضيع الساعة، والقضايا الخطيرة. وصار إنتاج الجميع ملتزمًا، وبالتالي ممتازًا، وفي هذه الغمرة، اختلط الأمر على السامع وعلى المبدع. فكلاهما ناقم، وكلاهما يريد بلورة نقمته، وكلاهما يتشوّق للتأمل في صورة عصره وجماعته، منعكسة في فمه. فخيّل إليهما أن الالتزام يحقّق ذلك، لأنه يعني التزام قضايا المجتمع. واختصرت الأعمال إلى ضرب من الوعظ السياسي. فبدا أن القضيّة جماعية لا فرديّة، وأن الفنان هو من استطاع أن ينطلق عبر ذاته، وينصهر في المجموع.

الفرد مغلق على نفسه، منكمش، متهرّب، ما دام هو لا ينطلق ولا ينصهر. والالتزام معناه أن يضم الفنان صوته إلى صوت الكورس. أن يشارك في المأساة على صعيد الشعب. أما من يقف إلى جانبه، ليقول غير ما يقوله الكورس، فيعتبر نشازًا وفرديًا ومقلقًا...

وهكذا انتقلنا، وفي كثير من الحماسة، إلى الصراخ والتذكير اليومي بما نعانيه، دون أن نضيء على القضية بنورٍ جديد، ودون أن نتغلغل إلى الخفايا والبواعث المعقدّة، أو إلى الأكاذيب المُحكمّة وراء ستار السياسة والنظريات الدعيّة؛ فعلنا كلّ ذلك، بدلًا من النّفاذ إلى الدقائق النفسية اللا محدودة، والقوى المغيرّة المطورّة الخافتة.

ولقد حاولت جاهدًا، على قدر الإمكان والكفاءة، أن ألتزم بما أفهم الالتزام، منذ العمل الأول وأن أدمج في إنتاجي كلّ ما هو ذهنيّ وشعوريّ في آنٍ معًا، وبالمعنى المعاصر والعميق. غير أن الوجود العميق في الزمن، لا يعني بالضرورة، الوجود في وسط الضوء الكاشف، وادّعاء الفطنة السياسية، والتلاشي في التيارات العامة.





كل ما غنيته

قائم على الحب

(*) الرهان على الذات؛ الذات المُبدعة، الحب، أليس هو فعل مقاومة؟

قال لي أحدهم عندما أصدرت "أندلس الحب": "معقول، وأنت المناضل الذي دافعت عن فلسطين والجنوب والمقاومة. ألم يعد هناك غير الحب تكتب وتغني له (يا عيب الشوم) أَوَليس هذا دعوة إلى الانحلال؟! فقلت له بالفم الملآن: لا أفهم أيَّ قضيةٍ ما لم أفهم نفسي. كيف تريدني أن أتحرَر وأنت تستعبدني؟".

يريدوننا أن نموت قبل أن نولد. كل ما غنيته قائم على الحب.

أقف أمام الكون كلّه، أتفاعل معه، أتحدث إليه. أزعل منه ثم أعود لأتصالح معه. وهكذا أقضي أيامي بفلسفة بسيطة للحياة: أن أبقى في سلام مع الكون، وأن أتغلّب على الضعف والكبوات والمآسي والموت، متمسّكٌ ببريق الأمل وقوة الانبعاث. جروحنا عميقة، ترفض أن تندمل؛ تصرخ قهرنا وتمرّدَنا إلى حد العصيان على البشر والله معًا.

(*) كيف ترى إلى الفن، من حيث علاقته بالفرد والجماعة؟

الانزواء والصمت قد يكشفان منابع تعكس الفترة التي يعيشها الإنسان على مستوى أعمق من الإنتاج الذي، بإصراره على الالتزام أو التجنيد للقضية، لا يبعد خطوة واحدة عن خطاب رجل سياسي أو كلام الجريدة اليومية. الانزواء الصامت، دون التجنّد بطريقة سطحيّة لأي قضيّة، فيه التزام يتعدّى ما يطالب به الدُّعاة لأنه يحافظ على وضوح الرؤية لدى الفنان، والرؤية في هذه الحالة موجهّة نحو حالة الإنسان.

(*) أهو الفارق بين أن يكون الفنّ نِتاجًا لإرادةٍ حرة، وبوصفه فعلًا وجوديًّا فردانيًّا، أو أن يكون منصهرًا في الجماعة، منزوعَ الإرادة؟

الشق الأهم في الفعل الوجودي هو القلق. إن القلق الفردي الناجم عن ضرورة حريّة الإرادة عند الإنسان؛ عن ضرورة الاختيار لديه، وسواء انتهى هذا القلق الوجودي إلى عَدَميّةٍ أو إلى تمجيد الخالق، فإنه الدافع الأهم في عملية الخلق. في القلق فعل بطولةٍ، القلق الشخصي الفرديّ الذي أعيشه داخلي، قد ينتهي إلى فعل يؤثر في الآخرين، أو قد لا يؤثر فيهم. وقد يكون هذا العذاب نتيجة الالتزام أو لا يكون، غير أنه منفعلٌ، في معظم الحالات، بعشرات المؤثرات الأخرى، من أحاسيس دينية، وغربة، وفقر، ومرض، وتهتّك، وإدمان، وتمرّد...

(*) ومتى يكون القلقُ فاعلًا؟

باعتقادي أن الاتزان يرفض الخضوع للبرامج النظريّة. في القلق شيءٌ من الرفض، وهذا في صُلب الإبداع. فمن المهم بمكان عدم التهرّب وكشف حقيقة الوضع الإنساني ومنعرجات الضمير الإنساني، ثم التمرّد على الظلم والعنف من أجل تحقيق الغاية الإنسانيّة التي تؤكد كرامة الفرد. التمرّد لا يعمل بدافع الواجب المُقَرِر الذي يشطب الفردانية، بل هو يعمل بدافع يأتي من داخل الفرد كي يحافظ على قيم الكرامة الفرديّة. هكذا يصر المتمرّد على العدل وعلى رفض الإرغام الخارجي السُّلطوي. لعلّ من المحتّم علينا اللجوء إلى الداخل، إلى القلق الجوّانيّ، حيث يواجه الإنسانُ منا ضميرَه وكيانَه؛ حيث يرى ذاتَه عارية.

(*) قضيّة الفن هي قضيّة الإنسان إذًا؟

عمرُ "الالتزام الفني" قصيرٌ، لأنه يتوخّى من السياسة أكثر ممّا يتوخّى من الإنسان. ويستهدف المجموع المبهم أكثر ممّا يستهدف الفرد المحدّد.

قضية الفن هي قضية الإنسان بكل ما فيه من تعقيد في السلوك والتفكير والشعور والبواعث والأهداف والعلائق. نعم، قضية الفن هي قضية الإنسان، بكل ما في ذلك من تعقيد في السلوك والتفكير والشعور والبواعث والأهداف والعلاقات.

(*) ما الذي يحتاج إليه الفنان، في مواجهة طُغيان السياسة والمذهبيّات والتحزّبات والطائفيّة؟

لقد طغت الحياة السياسية على حياتنا طغيانًا أخذ علينا كل مسلك، وغمر بيوتنا وشوارعنا وكل زاوية من حياتنا. وما عدنا نرى إلاّ من خلال هذا الطغيان. نحن في أمّس الحاجة إلى سلامة الفكر، إلى الصحو. الفنان اليوم، يعيش فترة صعبة، ناقمة على تاريخه، متجسّسة على خصوصياته، مريعة بما فيها من فقر وجوع وقهر وقتل بحقّه. فإذا لم يتمرّد الفنان ويدافع عن وجوده الفردي، فسوف يفقد وجهه وملامحه. للفنان سحرٌ، إن تُرك للمذهبيين والطائفيّين والسياسيين، فسوف يُمحق كلّ ما يميزه من رؤية خاصة للحياة أو فهم متفرّدٍ للتاريخ أو تعاطف خلاّقٍ مع البشر. يصير هذا التمرّد إلى حتميّةٍ كلّما اشتد الصراع السياسي واحتدمت الخصومات، ويبدو أننا نعيش زمن الذّروة.

الاضطراب السياسي أدّى إلى قلقلة مريعة في القيم، وتمزّق شديد في النفوس. علينا أن نكون متيقظين. وفي غمرة البرامج النظريّة التي تتشدّق بها كل فئة، من دون تفعيلها على أرض الواقع، استشرى فساد السلطة المطلقة والرياء لا نستطيع أن نغفل عنه.

(*) إلى جانب هذا كلّه، نعيش طغيان الكَثرة والازدحام، أليس كذلك؟

كذلك هي الوسائل الجماعية الطاحنة للذهن، من إذاعات وصحف ومجلات وتلفزيونات ومواقع إلكترونية... وبطلٌ من يحاول أن يقف على رجليه في لجّة هذا السيل الطاغي من التفاهة والاستسهال، ليعيد إلى ذاته الإنسانيّة كرامتها.

على الفن أن يكون شجاعًا باستيعابه لهذه الحالة المعقدّة، وتمكّنه من النظر إلى مصير الإنسان رؤية نافذة وخلاّقة. نقاسي شحًّا في الإبداع، وكثرة في الإنتاج، وعلينا أن نخصب تربة الإبداع خارج سطوة هذا الجَرف، فنهيب بشبابنا أن يتألموا ويُبدعوا.


(*) هل يبدو عالمنا اليوم، كما لو أنه فقد جمالَه؟

الجمال الذي خُيّل لنا أننا فقدناه من عالمنا، يُقيم ها هنا في عزلتنا، في انتظاراتنا. هذا الكائن المنعزل الذي يمضي وحيدًا. يبحث عن البقاء أو الهرب، أو يحاول تجاوز ذاته في فوضى الرّعب من مواجهة مشهد موته الخاص، ولحظات الصَّلب الأليمة.


(*) من يكون "بطل هذا الزمان" إذًا (إذا ما استعرنا تعبير ميخائيل ليرمونتوف)؟

في غمرة الفساد والسلطات المطلقة والرّياء ووسائل التواصل الاجتماعي الطاحنة، تصير البطولة في الوقوف ضد هذا السّيل الطاغي، وإعادة الحياة إلى الذات الإنسانية. هنا، على الفن أن يتمسّك بدوره البطوليّ الخلاق.

(*) وهل هناك "ما يكفي" من الفنّ "لإنقاذ" العالم؟

إننا نقاسي شحًّا في الإبداع (كما قلت). علينا أن نُخصب التربة، نتأمل ونُنتج. وحين نفترض أن الفنَّ إنسانيٌّ في الجوهر، يبقى سؤال "أهو جيّد أم رديء"، وبذلك يكون الفنُّ وسيلة لتعزيز الاندفاع، لا وسيلة للكبت والتجميد.

 

في إحدى حفلاته مع ابنه 



العود..

(*) بعيدًا عن العود الذي "يُرافق" الكلمة، فقد أفردْتَ للعود حيّزًا مُعتبَرًا في أعمالك الموسيقيّة، ومنها مقطوعات على قالب البشرف والسماعي واللونغا، وأعمال حرّة تؤسّس لقوالبَ جديدة، مثل "جدل" (ثنائي العود برفقة الرّق والباص)، ورباعي العود برفقة الأوركسترا، وتقاسيم للعود والكونترباص برفقة الإيقاع، ومتتالية أندلسية للعود والأوركسترا، وكونشرتو للعود والأوركسترا. ماذا تقول عن هذه المساحة في إنتاجك؟

حاولت في هذه الأعمال مراجعة أساليب الكتابة لآلة العود، وفي تقنيات العزف، ودراسة مختلف الأشكال المُحتملة لتطوير الكتابة والعزف. سواء تعلّق الأمر بالمحافظة على شكل العود، أو بعمليات تجديدٍ باتجاه ولادة عائلة للعود، مثلما هنالك عائلات لآلات موسيقية أخرى.

هذه الأعمال كانت الخطوة الأولى ولكنها لم تكن منفصلة عمّا سبق من تاريخ موسيقي لهذه الآلة. والجديد في آلة العود مرّ في كل طريق، في تاريخ تطوّر الآلة ذاتها، فزرياب كان جديدًا في عصره، كذلك محيي الدين حيدر، محمد القصبجي، جميل بشير، فريد غصن، وغيرهم.

(*) وكيف يفهم العودُ "الجديدَ"، في زمن "ما بعد الحداثة" و "ما بعد الكولونيالية"؟

الجديد هو أن تعبّر بأدوات جديدة تتّفق مع متطلبات تطوّر الإنسان في كلِّ عصرٍ وعصر. وهذا، برأيي، لا يأتي من خارج تاريخ آلة العود، بل من داخل تاريخ هذه الآلة.

(*) ألا يحرمه هذا من التفاعل مع هذا الخارج؟

لا ينبغي أن يُفهم هذا الكلام على أنه إغلاقٌ لباب التفاعل مع أشكال تطوّر التعبير الفني في العالم. بل على العكس، فإن هذا التفاعل ضروريّ جدًا، لكن، مع الحفاظ على الملامح الخاصة للتراث الشعبي الذي ننتمي إليه. ففي كل فترة من الفترات، تنحسر أشكالٌ ومضامين، وتحلّ مكانها أشكالٌ ومضامين جديدة. وعلى الموسيقيّ أن يتفهّم حاجةَ المجتمع إلى هذه المضامين والأشكال الجديدة، ويكون قادرًا على أن يتطوّر معها ويُطوّرها، وأن يلبّي حاجات الذوق العام، ويجيب على الأسئلة التي يطرحها المجتمع والنَّاس والحياة.

(*) ديوان العود...

أتذكر عازف العود القدير، الأستاذ إبراهيم حبيقة، وكيف استدرجتني تقاسيمه الساحرة عندما كنت أذهب لسماعه في معهد الرّسل بجونيه. وديوان العود يولد من أولى تلك التقاسيم الساحرة. حاولت أن أعمل على تطوير العود، وساهمت، ربما، في خلق توازن، إذا أمكن التعبير، بين اتجاهين، وهما السلفيّة المُفرطة في إنكار التطوّر التاريخي، وبين الفوضى العبثيّة التي تقترح بابًا واحدًا للمعاصرة عبر الانقطاع عن تاريخ الآلة أو اختيار شكل محدّد ونوع محدّد من الأشكال والأنواع الموسيقيّة. اليوم، في ديوان العود الذي أكتبه، أجمع ما بعثرته الأيام، وأكمل الطريق لتلسعني ريشة العود. عود بلا حدود، أروّض نبرتَه على التّحليق بعيدًا. أحبو من جديد على الوتر، وأرتكب أخطائي التي، ربما، ستشكّل فعلَ مشاغبةٍ، ونزعةً حادّة للإفلات من "القطيع". كم يعوزنا اليوم، في هذا الزمن الموحش، كم يعوزنا صوت العود في بهائه النقي.

بيروت وفلسطين

(*) هل نمرّ على بيروت قليلًا؟

لن يمر هذا اللقاء دون أن نمرّ على بيروت.

(*) أيّ صوتٍ بقي لبيروت بعد الانفجار المزلزل؟ ماذا يُمكن للموسيقى أن تقول بعد؟

بعد انفجار المرفأ الرهيب، يعود بي الولد إلى ساحة الشهداء. يشتاق إلى مدينة مكسورة. كيف أستعيد تلك الطرقات إلى أفق يفيض عن الطريق.

أصرخ مع درويش: بيروت نجمتنا، بيروت خيمتنا.

تنفتح المدينة في امتداد لا ينهيه حتى البحر، وتنفتح الجبال التي تصعد بلا تعب ولا ملل إلى الأعلى، لتصل القرى إلى السماء.

من يملأ فراغ الذين رحلوا؟ من يملأ هذا الفراغ؟

اجتاح جنون الواقع يأسي وحنيني في هزيمة الحروب الصغيرة والكبيرة. حجرٌ هنا، وزجاج هناكَ مرميٌّ على طريقٍ مهجور.

كيف تعلمنا سذاجة النشيد (كلنا للوطن) في البرد والحر وقبل الدخول إلى الصف! كيف تعلمنا أن نقاوم بما نملك من عناد وسخرية وحب، وبما نملك من جنونٍ لحريّةٍ اعتقدنا أنها طالعة إلى الضوء!

على قلق كلنا على قلق. يجرحنا هذا الدمار الشامل. نحتاج إلى خارقٍ، إلى معجزة. الزجاج يتساقط والأرصفة والحيطان والبيوت...

ما جدوى هذا العبث؟ من ينشلنا من هاوية السقوط؟ من ينسانا على رصيف الميناء؟ ففي وسع عنابر القمح أن تتفتّح في ساحة المرفأ التي شهدت أكبر انفجارٍ وأشدّه وحشية.

(*) "ذلك الطفل الذي كنت/ أتاني مرّةً وجهًا غريبًا..."، يقول أدونيس في قصيدته "أول الكلام". كيف يأتي مارسيل خليفة؟

أذكر ذلك الصبي المتحمّس الأخرق الذي كنته، والذي كان يريد أن يغيّر العالم. وفي الأخير لم يغيّر حتّى نفسه.

أذكر كيف كانت حِرفته الصمتَ، حين الطّنين على الوتر يحوم. وأذكر كيف كان يكتب ما يَعّفُ عنه أساتذته، وما يسهو عنه زملائه في الصفّ.

يعود من مشواره الطيب، من بيروت إلى بيته في الضيعة، وعلى مدخل المدينة يرى بيوتًا من صفيح وخيامٍ، ويسأل... ثم يعلم بعد حين أنها بيوت اللاجئين. ويومها تعرّف على فلسطين، وعلى قضيتها، من المنحى الإنساني.

(*) ثمة فلسطين موجودة وحاضرة في وعينا وحسّنا، لا تشبه فلسطين الواقع اليوم.. في ذاكرتنا "فلسطين من صُنع مارسيل خليفة"، إن شئت.. كيف هي في ذاكرتك أنت؟

في الليالي، كانت أمي تحكي لنا عن فلسطين، وتروي لنا قصص التهجير الأليمة. ولم أصدّق أحدًا غيرها، في بيئةٍ وزمنٍ شوّه الحكايات كلّها. تتكاثر الخيالات أمامي في الليل، وتختفي كنجوم السماء وأنا مدجّج بالحزن على الأرض السليبة. وكان الخوف يرعد في السماء بِليالي الشتاء، ويمطر قلبي على شعب الخيام.

وأصبحت فلسطين تسكنني في هيئة قصيدة أو مظاهرة أو اجتماع أو نقاش أو أغنية. وكانت القضية كيف نقدِّم شيئًا للقضيّة أكثر من أن نبشّر في الحلقات عن فلسطين.

سحرتني الكوفية الفلسطينية. شاركت في المظاهرات وأنا أطوِّق بها عنقي. ثم نضرب عن المدرسة تضامنًا مع فلسطين، وأنا بين الجموع أصرخ وقبضة في الهواء تلوّح: "بالدم بالروح نفديك يا فلسطين". وما من أحدٍ قد غيّر العالم بالهتاف. حتى الأنبياء خذلتهم الكلمات، فتحولوا بأسنّة الرماح عن وهن الأقوال إلى فعل مقاومة. وبدأت أُدرك أن ليس عرفًا أن يكون القهر عنفًا، أو سجنًا أو مشنقة؟ في البداية، وجدت صعوبة في فهم غرامشي على النحو الأمثل. حلمت كثيرًا، أتفيّأُ الأغنية، وللأغنية طقوس كطقوس العبادة. العود بجواري يُشفي ويُغني عن النوم، فأظهر مع القصيدة والنغمة حتى صباح الليل. لم تكن لدينا معجزات، كانت لدينا مخيلة وأحلام.

(*) قدّمت لنا درويش بنكهة خليفة.. فكيف كان لقاء الشاعر بعد لقاء الشعر؟

في يوم ماطر من أيام شهر أيلول التقيت محمود درويش لأول مرة وجهًا لوجه على فنجان قهوة بيروتية، وكان الذي كان؛ كان قلبه كالطفل في وجع قصيدته، تضرجّتُ يومها خجلًا لأشيّد بعد حين ملحمة "أحمد الزعتر". وأصبحت فلسطين أرض أغنيتي. نُسخت ووُزعّت آلاف مؤلفّة من الكاسيتات الممنوعة في الاحتلالات الإسرائيلية المتكررة، وفي الأنظمة العربية الفاسدة والمتآمرة على القضية دون أن نستثني أحدًا.

(*) بعُودِكَ وصوتك، جعلتَ من فلسطين أغنيةً تردّدها الحناجر وتحفظها القلوب.

كانت فلسطينُ - الأغنيةُ ريحًا في الغمام؛ كانت كوفيّةً أمسح بها دمعًا حارقًا كالصديد، فتولد من بحرٍ قديمٍ يحرّرني من قَرَفي، تحت سماء حارقة، في وطن عربي شاسعٍ، وقد أُخذت منه زينته، فبات عسيرَ النُّطق، بسبب كمّ الأفواه، وقد تقرحّت قلوب أبنائه، من عَفَن المرحلة، ومن تعب الأسئلة القاحلة.

بالأغاني، نحمي وحشتَنا، فلا نرهقها بالسياسة والخسارة والحرب والهزائم والمرأة والشهوة والحسرة: "منتصب القامة أمشي" مع سميح القاسم، "طفل يكتب فوق جدار" مع معين بسيسو، و"إني اخترتك يا وطني" مع علي فودة، و"يا شعبي يا عود الندّ" مع توفيق زياد، و"جفرا" و"بالأخضر كفنّاه" مع عز الدين المناصرة، وبداية مع "وعود من العاصفة" وصولًا إلى "تصبحون على وطن" وغنائية "أحمد العربي" مع محمود درويش. ومن أندلس المجد الضائع، إلى فلسطين المسلوبة، وصولًا إلى بحر حيفا ويافا وَ "يَا بحريّي هيلا هيلا"، والتي أصبحت تلك الأهزوجة "فولكلورًا" شاع في كل مكان.



(*) زمن عربيٌّ غارقٌ بأمواج اللجوء؟ هل صارت "الغربة" عنوان كلّ وطن عربيّ؟

عشت في هجرة قسرية دائمة، من قريتي، ومن مدينتي، ومن بلدي. هجرة منصوبة على تخوم خيمة حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس. اغتربت مع عائلتي الصغيرة عن وطن الحروب الصغيرة مع لسعة الموسيقى ترافقنا، تفوح منها رائحة المدى، وينتشر عرفها في البعيد.

سرٌّ، لا أعرفه، ربما أنبت في البال شتلةَ الحكاية منذ طفولة رامي وبشار الموسيقيّة المبكرة، ربما هو ذلك الشغف بالتلصّص على النوتات. ذهب رامي ليتابع دراسته في جوليارد سكول في نيويورك، وذهب بشار إلى الكونسرفاتوار العالي بباريس. ويولا تركت تدريس الفلسفة لطلاب الثانوية وأمست تنتظرنا لنعود من جولاتنا الفنية. وبعد حين أصبحت ترافقنا في الغناء، وترعانا بالحب.

طين من الصُوَرْ تعجنه الحكاية، وتنحدر إلى قلب المدن بحثًا عن مدينتك.

تزدحم الخيالات في أرض لا أرض لها. يضيق التأمل، وتضيق المسافاتُ... كلُّ شيء يعيدنا إلى طفولة لم تغادر طفولتها.

أرى بلادًا تحت الخراب تخّر، وأرى جنودًا من شقوق الهزائم يخرجون، وفي الجوار حرَّاس لموتنا اليومي يصطنعون. طغاة يتكاثرون، وشعوبًا تَجُرّ ورائها قدَرًا وعطرًا يفرّ من الأبد.

التفاصيل التي أتذكّرها وتسمن الشفاه، هي كالكتابات المنقوشة على الصخر.

تفاصيل الحياة أوسع ممّا تحفظه الذكريات. تنتقي ما تشاء وما لا تشاء بدورك من دون إذن. لكن، تبقى الموسيقى ملحَ القصيدة، يمدّدها في الزمان كإكسير الحياة. دمعة أذرفها على مدن موجوعة. ما الذي تغيّر حتى تنتصر البشاعة وينسف اليقين الطاهر لفكرة الوطن - الأوطان التي ضاعت منّا.

ما فائدة أن نعمّرَ في هذا الفراغ المرّ، وأحمرٌ مؤذّنٌ بالنهاية. انهار كل شيء. "العالم كلّو مخربط". كيف نروّض هذه الأيام الصعبة المتناثرة بغموض المستقبل.

أكتب عن بيروت وأبكي ولا أعرف لماذا كل هذا الأسى في حروب تبدو بلا نهاية. تعبت ولكنني عنيد مثل ثور. أتذكر لوعة الأيام الأولى للمعارك الطاحنة في بداية الحرب.

أتذكر خيبتي يوم فرّ بي والدي ليهرّبني من المنطقة الشرقية التي نعيش فيها، لأن أحدًا لم يعد يحتمل ميولنا (مجموعة من الشباب) المتضامنة مع قضية فلسطين.

نعم هكذا. جحيم هنا، وجحيم هناك.


(*) الآن، بينما نتحاور، أنت عالقٌ في جزيرة قصيّة...

جئت بالصدفة إلى الأقاصي البعيدة، حيث يسكن ابني وعائلته، جئت لأيام فأعود... وإذ بالجائحة تجتاح الأرضَ، فأقفلت المطارات والمعابر. وها أنا في الشهر الحادي عشر، تصاحبني الأمكنة في مساءاتٍ تستوحش فيها نفسك. تمعن المسافة في التلاشي وأعتذر عن خاطرة قديمة مرّت بي منذ لحظة وصولي، وعن مكيدة كايدتها في عزلةٍ، فحفّظتك الذكرى ولثمت الكلام والحنين.

أعجز من أن أجيب عن سؤال بات مخيفًا: "ايمتا راجع؟"


(*) أعمق انطباع علق في ذهنك عن هذه الأرض الجديدة القديمة؟

زرت السكان الأصليين الذين سكنوها منذ آلاف السنين قبل دخول المستعمر الإنكليزي. ثقافتهم لا تزال حيّة حتى الآن. يقدسون الأرض ويقولون: نحن لا نملك الأرض لكن هي تمتلكنا. الأرض أمنا. لقد نقص عددهم حتى التلاشي بسبب المذابح التي ارتكبها المستعمر في حقهم. وتُعرف الجريمة الأكبر بجريمة الجيل المسروق، حيث انتُزع الأطفال من أحضان عائلاتهم ليوضعوا في معاهد خاصة مع عائلات غريبة. أحب تخطّي الفضاءات المأسورة بالمحرمات. النزعات المتفلّتة، والبحث المتواصل عن النفس في عوالم مختلفة، ما وراء إدراكنا وتخيلاتنا. وأحب البحث عن المجهول والمختلف، مزج الواقعي بالمتخيّل، الخوض في أعماق النفس البشرية وملاحقة مناطقها المعتمة، إضاءاتها، شبقها، جوعها ومخاوفها. الإنسان البرّي كائن في أعماق كلٍّ منّا. يهرول طلّهُ خلفنا وهو يمشي على أربع.


(*) وهنا قلبُك، الذي "ألِفَ" الغربة واعتادَها، قد تمرّد و"تفلّت" هذه المرّة!

قال لي البروفيسور الذي أجرى لي عملية قسطرة شريان يضّخ الدّمَ والحب: "جئت إلى هنا منذ ستين عامًا. كنت ابن الرابعة، وكانت أمي ترتق لنا الثياب العتيقة وهي تئن وتحّن. وما زال الأنين دمعة ذاكرة لا تفرِّط بالتفاصيل، وتترك محفوظاتها طازجةً كبرتقال الخريف".

"الغربة قاسية"، قال الطبيب البروفيسور. ألوف الكيلومترات بعيدًا عن مكانك كي تصحّح عثرة العّيش، وكي تبدّل الذي ما تبدّل.

أتساءل: هل أنا مُصابٌ بكل هذا الحب؟! على نفسي، في بيت ابني، أُغلقُ كي أفتح الباب. أبقى لساعات في خلق نوتةٍ جديدةٍ، ولا أدري أين تأخذني هذه النوتة!

سؤال الفارق بين مدى اللحن وصداه؟ - أعتقد أنه ليس في الأفق جواب. أوقد شمعةً في عتمة فراغ مُجهَدٍ، وحين أتعب أعود، ثم أبدأ من جديد. والطبيعة تلهمني وتصاحبني في الصباحات والمساءات. تستوحش فيها نفسي وتؤنسني في آن معًا.

وبتُّ بها كلفًا، ولها نديمًا ولصباحاتها ومساءاتها صاحبًا حميمًا. واتصلت بيننا المودّة حتى كدت لا أعرف منها فكاكًا. لا أتعب حين أذرع في غدي ما غاب منها عني في أمسي. أمضي إليها كما العاشق إلى امرأةٍ تهوى الهمسَ، وتُمعن المسافة بينكما في التلاشي.





الجدارية

(*) موسيقيًّا، ما الذي يشغلك الآن؟

جدارية محمود درويش. تراودني من سنين تلاوتها ومَوْسقتها. وبينما أعيش في عزلة صارخة، بدأت بعزفها على أوتار عودي الطالعة من بئر الصدر. أكتب، أنقّح، أمزّق، كي أصل بعد مخاض عسير إلى ولادة جديدة لغنائية الجدارية ولو بعد حين.

(*) وما أصل الحكاية؟

أصل الحكاية هي رغبة الشاعر في وضع الموسيقى للديوان الكامل عندما شاركته بأمسيتين قرأ فيها الجدارية ولعبت التقاسيم: الأولى في قاعة اليونيسكو بباريس والثانية والأخيرة في قصر اليونيسكو ببيروت في نهاية سنة 1999.

ورغبتي الوارفة أن أترك أثرًا وشهادةً على تجربة مشتركة مع صديقي الشاعر تألّبتْ على نور الأمل ونار الحسرة وبلورة خصوصية لا بديل عنها في هذه الأيام الموحشة. أريد أن أكّف عن عبث الغربة والحَجرْ المنزليّ المتكرّر والصارم وأخترع لنفسي حالة "خَلْق" في زمن الضجيج والغياب. في نفسي جنون مضاء مهما ضيّق على الفلك مساحتي فكانت الجدارية وجنائنها الواسعة والشاسعة، تتسّع لخطوة الحضور وخطوة الغياب. فبدأت بكتابة الموسيقى وتنقيحها من عبث أقوى من بياض الكلمة والنوتة الذي لا ينتهي.

(*) تورّطنا الرّغبةُ...

كلما كتبت أحسست بأنني لم أكتب بعد. وكلما استمعت إلى ما كتبت أحسّ بأنها ليست بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها والتي أسمعها بوضوح فاضح في الحلم وعندما أصحو تضجّ أذني بصمت مدوّ إلى ما لا نهاية فأعود وأضع نفسي في الريح والجنون، فليس في وسعي إلاّ أن أكون مجنونًا. ولن أشفى ولا أريد أن أشفى من هذا الجنون لأنه مرض ملازم لا يعني الشفاء منه سوى إنجاز موسيقى الجدارية، وأصدّق نغمًا مجدولًا من غيمة المجاز الشعري وأشرب الكأس حتى الثمالة.

هي ورطة، لكنها ورطة جميلة.


حصانٌ معلّقٌ على وتر، ما عليه سوى الاندفاع إلى الهاوية والقبض على الصهيل.

إن القلب ليس في القلب. قد نجده هناك على رصيف الوقت والأشعار، وقد نجده دون أن نبحث عنه، دون أن نلحق به، وهو يعيش أمامنا يبتعد عنّا ليلحق بصدى إيقاع بعيد.

(*) أما زال هناك متّسع للشعر والموسيقى في هذا الزمان؟

الوقت يمضي بنا. يغافلنا ويمضي بنا. ولكن، ما زال في مقدورنا أن نحلم بالشعر والموسيقى والغناء. 

إنني أسند موسيقاي إلى جدارية الروح العالية أبدًا. أسند جبيني إلى راحتي وأكابر قليلًا وأصنع غنائية. علّ الموسيقى تنقذنا من سطوة الحنين.

(*) ليصير مخاض الكتابة الموسيقية فعل مُقاومة!

مخاض الكتابة الموسيقية دقيق كَمَنْ يستمع إلى دقّات قلب جنين. أتخيّل ملامحه وحركاته وأقول لنفسي: هو ثأرنا من الوقت والمسافة والتلاشي وسُعَفُ انتصارنا على العبث والعدم.

(*) استئناف اللقاء بين خليفة ودرويش هو استئنافُ اللقاء بين الموسيقى والشعر.

ربما يكون لقاء الموسيقى وجدارية درويش هو استعادة الحوار بين الـ"أنا" والـ"أنا" الآخر؛ لُبّ الجدارية. أو هو استرجاعٌ لأصوات وتريّات الجدارية في السّير على البحيرة وعلى دروب القوافل. هو صدى هوائيّات حواراتها وحَميمِ بَوح إناثها. هو رَجْعُ نحاسيّات مشاهد التاريخ من الإغريق إلى الفراعنة إلى خُوَذ جيوش الملاحم. والموت الآلة الجهيرة الحاضرة، ولو على حدود الصمت، تتهكّم كلّما تردّد هديل أنثى اليمام. أغمض عينيّ فيصبح أنكيدو آلةً تنساب ما بين نهرين، وابن السجّان وطيف أبيه آلتين على الـ "Unisson" مع أوكتاڤ بين الآلتين.

جئت إلى الجدارية لأتفيأ ظلال لغة تتخمّر كالوليد يرقد في الجرار ويتدثّر، وذلك بعد أكثر من عشرين سنة من صدور الديوان. أتبرأ من وحشة الصمت ومن الفراغ الأسوأ في هذه الأيام الموحشة لأرتّل من مخزون الذاكرة ما ترك الشاعر في المدى من آيات الحياة والموت والنضارة، والخسارة، والحضارة، والعبارة. لا شيء أبقى من الجدارية في القلب. قد يذهب الماضي والحاضر والمستقبل لكن الجداريّة تخطف كل ذلك وتزّف الزمن في موكب المعنى والصُوَرْ. في الجدارية اكتشف أسرارًا مقفلة وأسئلة مهملة ونساء تستبد بهنّ رائحة الياسمين وتيهه. يبوح النص بمكنونه في متسّع للصفاء الطفولي. وكلما أدمنت نكهته أقام لك على أنقاض فراغ المعنى كونك. ولقد قلبت ما بين دفتيّ الديوان نصًا ينمو ويينع من جديد مع الموسيقى والغناء.

أدمنت العمل ولا شيء عنه أخذني: برد الشتاء كان أو الحر الشديد. وفي غرفة صغيرة محايدة في عزلتي يسكنني الشعور بالسلام الداخلي، تمسح عيناي الجدارية كمن يحتسي الفنجان. بتؤدة وهدوء أدوّن ما على ناظريّ يتدفق. وفي كل يوم يكبر فيّ العالم والأشياء ومن غموض تخرج المعاني إليّ تنقاد والمباني تتألق.

لا أرفع رأسي عن المخطوطة إلا كي أشرب من كوب الماء "شَفَّةْ". أجلس لساعات ولا شيء يخطف ناظري وسمعي يرهقه ضجيج العالم رغم عزلتي الفاقعة. أغلق على الخارج الأذنين وأفتح العينين وأجرّد نفسي عن المكان. أعيد قراءة كل فقرة ثالثة ورابعة لأدرك كنه الأشياء. أقرأ ببطء. أعيد فقرة مرّت أو جملة فرّت أو بيتًا أخطأ الطريق في القراءة الموسيقية الأولى فأبدأ بموسقته من جديد.

وعلى نفسي في غرفتي الصغيرة أُغلق كي أفتح لنفسي ألف باب. وما ضرّني إن استوحشت كثيرًا في عزلة صارخة فليس في العكوف ما يُعابْ. وقد يطيب لي الصمت والتأمل حين تضيق بي الساعة أو تسلمني للشعور المرّ باللاشيء. كم من وقت مرّ وسيمرّ بعد على الزمان كي أنهي ما بين يديّ.

أحيانًا يشبّ الحريق في شغف كان في النفس يسكن فأؤجل العمل لوقت آخر.

في عام واحد التهمت من ثمار الجداريّة الكثير، وفي كل أسبوع أنهي مقطعًا، وفي كل شهر أطرق بابًا. وأنا الآن ملتزم بالمتابعة، وعلى ظهري حِملْ الشعر وفي نفسي فيض من المعاندة.

هل كنت مجنونًا حين بدأت بهذا العمل؟ لقد كنت مفتونًا. أغرق في التأمل.

لقد أرهقتني الجدارية وعذبتني وأتعبتني وأذاقت جفني السهاد. لقد قرأتها من عشرين سنة وطويتها. ثم عادت اليوم بإلحاح لم أستطع لجمه واسترحت من عناء السؤال عن الفارق بين المدى والصدى. فليس في الأفق جواب عن خاطر طائش أصابني ربما لأداوي جرحًا في القلب يريبني.

قرأت في الجدارية اسمي مرسيل ابن ميشال وماتيلدا من حيّ "العَرْبِةْ" ببلدة "عمشيت" الساحلية، وقرأت لوحة الحياة والموت، لأقود شمعة في عتمة فراغ مُجهد ولأهب المعنى للأشياء وأقهر خوفي المدفون لئلا يضيع مني الليل وتنسدل الجفون وحتى لا يحاصرني طويلًا فتذهب عنّي وعن حولي وتطاردني الظنون. وحين أتعب أعود أقرأ ثمّ أكتب وهكذا دواليك.

ما الذي يبقى في عتمة الأيام غير الشعر واحتراف الموسيقى؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.