}

أصالة لمع: كتابة القصيدة توجب الاشتغال على الجمال

بهاء إيعالي 20 نوفمبر 2022
حوارات أصالة لمع: كتابة القصيدة توجب الاشتغال على الجمال
الشاعرة والطبيبة أصالة لمع

أصالة لمع شاعرةٌ وباحثةٌ لبنانيّة من الجيل الجديد الذي بات عليه أن يكمل مسيرة الشعر المعمّرة عمر الإنسان. صدر مؤخّرًا ديوانها الأوّل "التفاتةٌ نحو نغمةٍ خافتة"، وحظي بقبولٍ طيّبٍ في الأوساط الأدبيّة، حتى يصحُ القول إنّه بشّر بميلاد شاعرة. تقول عن كتابها الأول: "التفاتة نحو نغمة خافتة" عنوان أتى وحده، كالقصائد، وأعتقد أنه مجدّد أكثر منه تقليدي… كان أول ما دونته حين فكرت في اختيار العنوان، ولم أفلح أبدًا في تدوين أي عنوان آخر.
هنا، حوارٌ معها:




(*) ما هي الدوافع التي أوصلتك إلى الكتابة بشكلٍ عام؟ ولماذا الشعر تحديدًا؟
في مقال عن دوافع الكتابة، يتحدث جورج أورويل عن طفولته، وعمّا يسميه "مراحل الترعرع الأدبي"، ويرجع فيه إلى طفولته وصباه ليحدد الدوافع التي أوصلته للكتابة. حين أحاول الآن أن أرجع في الذاكرة إلى بداية علاقتي بالكتابة، لا أستطيع تحديد تلك اللحظة التي اكتشفت فيها أنني في حاجة للتعبير عن نفسي بهذه الطريقة. ما أعرفه أنني بدأت قراءة الكتب ـ أيّ كتاب تقع عليه يدي ـ في وقتٍ مبكرٍ جدًا من حياتي، وجاءت الكتابة تلقائيًا منذ ذلك الحين كحاجة، كشيء ملحّ دومًا، تداهمني بلا إنذارٍ، كنوبة صداع نصفي، أو كزخة مطر استوائي! ولا أرتاح الا حين يخرج النص من بين يديّ ويدلني هو على مكان ولادته في داخلي.
مع الوقت، صارت الكتابة ملاذًا، طريقةً أواجه بها كل شيء. أكتب لأغلق جرحًا، لأنجو من سؤال معلَق... أكتب حين يكبر الشعور فلا يتسع له جسدي، وأكتب أيضًا حين يذوي، أقاوم انطفائي بالكلمات. قد تبدو دوافعي شخصية جدًا، لكنني فعلًا أكتب استجابة لرغبة جارفة لا تفسر، وأفرح حين يصل هذا النص الذي كتبته إلى قارئ واحد على الأقل، ويلامس شيئًا داخله ربما كان شبيهًا بما أشعر به.
لماذا الشعر؟ لأنه الطريقة الأجمل لتكثيف الشعور. لأنني أستطيع أن أقول كثيرًا بكلمات قليلة. لأنه مع الشعر لدي الحرية الكاملة للرضوخ لهذه الرغبة الجارفة للكتابة بلا كثير من التفكير. لا مكان لشيء سوى الإحساس في حضور القصيدة. "لا شيء تتشبث به، هو مجرد إقلاع"، كما تقول فيرجينيا وولف. وربما أستطيع هنا أن أضيف دافعًا مهمًّا لدوافع الكتابة لدي، وهو الدافع الجمالي، رغبتي بأن أرى الجمال في كل شيء، وأن أصنع الجمال من كل شيء، وهذا يبلغ ذروته في الشعر... حين نكتب قصيدة، نحن نشتغل على الجمال.


(*) "التفاتة نحو نغمةٍ خافتة"، هو عنوان مجموعتك الأولى، عنوانٌ لافتٌ ومثيرٌ يحاول المزج في تركيبته بين التقليد والتجديد. ما الذي يحدّد عناوين كتبنا ككتّابٍ حسب رؤيتك الخاصّة؟ وما هو السبب الذي يتسبّب في وقوع عديد الكتّاب الجدد في فخ العناوين؟
عنوان الكتاب أمر يعنيني كثيرًا. أحب العناوين التي تترك مساحة للقارئ، مساحة كافية للتخيل والدهشة والسؤال! أشعر أن مهمة العنوان أن تنفتح العيون على اتساعها، وأن تحدث تلك الرغبة بمصافحة الصفحة الأولى، بالإضافة إلى صلته طبعًا بثيمة الكتاب العامة. عمومًا، وفي الشعر أكثر، أحب العناوين المركبة، بعيدًا عن الرؤيا التقليدية للعنوان القصير والمختصر. كما قلت فالشعر تكثيف، والعناوين التي أحبها هي تلك التي تشعر أنها جملة شعرية قصيرة. هذا ينطبق حتى على عناوين القصائد التي أعتقد أننا لا نعطيها دومًا أهمية كافية.




"التفاتة نحو نغمة خافتة" عنوان أتى وحده، كالقصائد، وأعتقد أنه مجدّد أكثر منه تقليدي… كان أول ما دونته حين فكرت في اختيار العنوان، ولم أفلح أبدًا في تدوين أي عنوان آخر. ربما لأنه يعبر فعلًا عما كلفتني هذه القصائد، عن الباب الذي فتحته داخلي لأصل إلى تلك النغمة الخافتة.
شخصيًا، تعجبني كثير من عناوين دواوين الشعراء الجدد، معظمها تشعر بأنها مقطوعة هايكو قصيرة… الفخ هو أن نحبس أنفسنا في التقليدي، أن نخشى الخروج منه.. أو ببساطة ألا نعطي أهمية كافية للعنوان. يحمل الكتاب عنوانه كما نحمل أسماءنا. ومن المهم أن يليق اسمه به.


(*) ثلاثة وثلاثون قصيدةً تتضمّنها المجموعة. وهذه القصائد في مجملها تجنح نحو التأمّل الحسيّ المثالي الذي يرسي نوعًا من الأجواء الحالمة على الكتاب، في وقت بات الشعر فيه يتّجه نحو محاكاة ما هو يوميّ ومادّي، والاعتماد بشكلٍ أكبر على الرؤى الذهنيّة الخاصّة بالشاعر تجاه الأشياء. هذه الهويّة الرؤيويّة التي تنتهجينها في كتابتك كيف يمكنها أن تحدّد مسارها الذي سيكرّسها ضمن الحركة الشعريّة المتواصلة منذ الخليقة؟ أفلا تجدين فيها نوعًا من العيش ضمن "البرج العاجي"، كما درجت النظرة إلى الشاعر في الماضي؟
لست من هواة التفكيك. ولا أستسيغ هذا الميل إلى قولبة الإبداع بحسب الزمان والمكان والتيارات السائدة، وغيرها من الاعتبارات التي لا تشارك بالضرورة بالعملية الابداعية. وفي الشعر تحديدًا، يتخذ هذا الأمر معناه كاملًا. الذاتية التي ترتبط بشكل وثيق بأي تجربة شعرية تجعل كل شاعر، كي لا نقول كل قصيدة، في حالة من التفرد التام. وإذا أخذت ديواني مثلًا، ترى أن الهواجس والحالات الذهنية التي تبنى عليها القصائد تنطلق فيه من الداخل في معظم الأحيان، في حالة حالمة كما وصفت، لكنها تصل بعدها دومًا إلى المحسوسات الواقعية، تلمسها برفق، تتلاعب بها، وتضعها في خدمة الفكرة والشعور في حالة من التواصل الذي لا ينقطع مع العالم.




برغم هذا، هنالك قصائد أخرى تحاكي اليومي بشكل كامل، وتنطلق منه في رحلة في اتجاه معاكس نحو الداخل، كما في قصيدة "أخلع النهار عني مثلًا"، أو "احتراق"، أو غيرها. الشعر هو طريقتنا لرؤية العالم، وطريقتنا أيضًا للإطلالة على ذواتنا والتواصل معها. لذا فمن الصعب جدًا وضع فاصل بين من يكتب ليحاكي الواقع، ومن يكتب في إطار حسي مثالي… الاثنان يمتزجان وينفصلان ويلتقيان، وفي النهاية تولد القصيدة في معظم الأحيان بلا أي وعي من الشاعر عن ميكانيزمات ولادتها. يقول بورخيس: "أظن أن إحدى خطايا الأدب الحديث هو امتلاكه كثيرًا من الوعي لذاته"، ويرى أن الشعر هو "نقل الحلم فحسب". وهذا تحديدًا ما أجيبك به على تلك النظرة إلى أن الشاعر يعيش في "برجه العاجي". أعتقد أن هذه النظرة مجحفة لأنها تطلب من الشاعر أن يحدّد خياله وحلمه بالواقع المحسوس، والخيال والحلم هي سمات ما لا يحدّ بشيء سوى الشعور. هذه النظرة إلى الشاعر كمنفصل عن واقعه يعيش في "برجه العاجي" فقط لأنه تخفف من الالتزام بأي شيء، بالقضايا وبالموسيقى وبالتماهي دومًا مع المعاش... أي منذ صار حرًا بأن "ينقل الحلم". شخصيًا، هذا تحديدًا ما أفعله حين أكتب. أنسى نفسي وأنسى العالم، أنا أنقل الحلم. لا أفهم الشعر خارج هذه الرؤيا الشعورية الخالصة، ولا أعرف كيف يمكن لمن ينقل شعورًا خالصًا أن يكون بعيدًا عن الناس. على العكس، النخبوية تبدأ حين تصنع ما تكتب، حين يمنع التكلف الشعور من الوصول إلى القارئ.


نجري خلف اللحظات
(*) في قصيدتك "الآن، لا أمس ولا غد" تعملين على تفسير اللحظة الزمنيّة، وإمعان النظر في مختلف تفاصيلها، وبالتالي تستحضرين مقولة سيوران "ما أميّزه في كلّ لحظةٍ من اللحظات هو لهاثها واحتضارها، وليس الانتقال من لحظةٍ إلى أخرى". على أيّ أسسٍ يحاولُ الشاعر، أو الكاتب بشكلٍ أعم، بناء عالمه من خلال الارتكاز على مفهوم اللحظة ومفهومها، لئن أردنا الحديث عن الانتقال من مستوى "متى" إلى مستوى "ماذا"؟
الشعر بشكل ما هو التقاط لحظة وتجميدها والدخول فيها حتى الذوبان. وأوافق سيوران تمامًا هنا. لا يعنيني حين أكتب إلا اللحظة. وأنا أذهب أحيانًا إلى الاعتقاد، بشاعرية ربما مبالغ بها، بأنه لا يوجد أيّ شيء حقيقي ومحسوم أبعد من اللحظة، كل ما كان وكل ما سيكون هو وهم لا شيء يؤكده لأنه خارج حيز الزمن اللحظي.
وهكذا نجري خلف اللحظات وهي تتبدد بسرعة هائلة، تنقلنا في كل مرة من حقيقة ملموسة إلى حقيقة ملموسة أخرى. وفي المقابل، من ذكرى إلى ذكرى أخرى، ليبدو العالم بأكمله مرافعة طويلة ضد الوهم. هاجس البعد الزماني حاضر بشكل كبير في قصائدي. حين أكتب، أنطلق دومًا من لحظة ما في داخلي. أنا في حاجة إلى الارتكاز على معالم، وإن كانت ضبابيّة، لبناء عالمي الشعري. أعتقد أنه في الكتابة الروائية مثلًا، للحظة مفهوم مختلف تمامًا، وقد يكون في كثير من الأحيان غير مهم تاركًا المكان للزمن، أو الوقت كما نعرفه. في الشعر، يصير مفهوم اللحظة في صلب البناء الشعري، لأنه مرتبط بشكل وثيق بالحالة الشعورية التي يجمدها الشاعر في قصيدته. الآن والأمس وغدًا هي أيضًا هواجسنا وذكرياتنا وأحلامنا، وهكذا تحدد اللحظة أو الـ"متى" ما نشعر به وما نريد أن نقوله…


(*) "لا أملك شجاعةً كافية/ لأطلب النسيان/ أريد فقط/ أن أخلع ذاكرتي/ وأعلّقها كقبّعة". هنا محاولةٌ للتصويب على مساحة الماضي في الحياة الإنسان ومشقّة حمل الذاكرة لديه، وهي فكرة ليست بجديدةٍ، لكنّك هنا تعيدين طرحها بقالبٍ ونفسٍ جديدين وشديدي الخصوصيّة. إلى متّى يمكن للتأمّلات المتداولة أن تظلّ بيئةً خصبةً لإعادة طرحها بصورةٍ مختلفة في الكتابة والحياة عمومًا؟
هنالك دراسات كثيرة في هذا المجال، وأعتقد أن هذا موضوعَ بحث دائم… تأملاتنا وهواجسنا وأسئلتنا كبشر تتغير باستمرار، بحسب الحقبة الزمنية مثلًا، وبحسب الظروف في الحقبة الزمنية نفسها. لن تكون تأملاتنا نفسها في الحرب وفي السلام… في الفقر أو في الرفاهية… إنما في العمق، إذا دققنا قليلًا، فهنالك أنماط قليلة من التأملات تتولد منها كل الأفكار الأخرى: الذاكرة ـ الزمن ـ الحنين ـ الغياب ـ الوجع ـ الموت ـ الحلم ـ الجمال ـ الظلم ـ الحرب... عناوين عريضة لأشياء طالما شغلت البشر منذ كانوا. وحتى في أساليبنا للتعبير عنها، في الاستعارات التي نستخدمها، هنالك أيضًا أنماط قليلة تتفرع منها كل الاستعارات الأخرى، لذا نجد أحيانًا تشابهًا كبيرًا في كتابات أشخاص لم يقرؤوا لبعضهم أبدًا.
هنالك أشياء نكتبها ونكون متأكدين أنها قيلت من قبل، إنما نكون متأكدين أيضًا أننا نقولها بطريقتنا الخاصة، بحيث تصير لنا وحدنا، كالمثل الذي أوردته في سؤالك. ليس جديدًا أبدًا أن ينوء الإنسان بذاكرته، إنما أن نعلق الذاكرة كالقبعة هو تعبير جديد عن هذا التأمل السائد. لقد خصص بورخيس إحدى محاضراته الشهيرة عن الشعر في جامعة هارفرد عن هذا الموضوع، وأورد أمثلةً كثيرة عن أنماط مألوفة من الاستعارة: تشبيه العيون بالنجوم مثلًا، أو الزمن المتدفق مثل نهر، أو مقارنة المرأة بالزهرة، والحياة بالحلم… إنما من هذه الأنماط الأساسية تتفرغ مئات وحتى آلاف الاستعارات، ويمكن لكل استعارة أن تكون مختلفة، وهنا يحدث الشعر. يقول علي بن أبي طالب: "لولا أن الكلام يعاد، لنفد". ما يهم في رأيي هو عدم الوقوع في الابتذال حين نطرح فكرة متداولة، أن تقدم الكتابة شيئًا جديدًا دومًا، أن تفتح أفقًا، أن تغني المعجم الابداعي المعروف لموضوع ما.


(*) واضحٌ أنّك تحاولين التخفّف من عبء الاشتغال على التركيب اللغوي في بنية نصّك، ويتجلّى ذلك في التبسيط النسبيّ في الصياغة المعتمدة من قبلك والتي تبتعد، إلى حدّ ما، عن الدخول في معضلات اللغة الشعريّة المركّبة. ما هي الجماليّات التي في إمكان اللغة البسيطة أن تحملها إلى الشعر اليوم؟
لماذا على اللغة أن تكون "معقدة"، وإلا فستصبح "بسيطة"؟ الاشتغال اللغوي لا يجب أصلًا أن يكون عبئًا. عليه أن يكون اشتغالًا جماليًا كي يكون جزءًا أساسيًا من القصيدة، ومن العملية الإبداعية. على الشاعر أن ينتبه كل الانتباه للغة، أن يشتغل بها برهافة وبعناية وبإجلال. أعامل اللغة كما تعامَل قطعة من الكريستال. أداري هشاشتها، وألمع ما يلحق بها من غبار. يمكن أن أمضي ساعات لاختيار مفردة واحدة أحيانًا. ويمكن أن أجد نفسي عاجزة عن إنهاء قصيدة لتعذّر استعارة واحدة. يشغلني المعنى، ويشغلني التجدد، كما يشغلني الانسياب والموسيقى. ما تسميه "بساطة" أسميه سلاسة. وما تسميه "معضلات اللغة الشعرية المركّبة" يذكرني بالتكلّف. اللغة قلب الشعر، وعليها أن تغمر القصيدة كما تغمر موجة خفيفة شاطئًا رمليًا، برفقٍ وهدوء. هذه هي اللغة التي ينبض بها الشّعر.


(*) ثمّة نقطة ينبغي الإشارة إليها، ألا وهي التباعد النسبيّ بين مجمل ثيمات النصوص، أو لنقل اللعب على الثيمة ذات الوجوه المتعدّدة، وهذا ما ليس بغريبٍ على شاعرٍ يطرح باكورة أعماله. هل تجدين نفسك في المستقبل تتّجهين نحو الاشتغال على عملٍ شعريّ ذي ثيمةٍ واحدة خالصة، أم أنّ شكل العمل يفرض نفسه حتّى على الكاتب؟
ما يفرض نفسه هو تجارب وانطباعات الكاتب تجاه العالم. ما يشعر به. ما ينفتح في روحه من شروخ، وما يعلق في حنجرته من ملح وحشرجة. أشعر بأنني أكرر الفكرة نفسها، لكنني متحيزة جدًا للذاتية الخالصة، ولفكرة أن الكتابة يجب أن تكون حقيقية. أصدق محمود درويش حين قال: "لا دور لي في القصيدة إلا إذا انقطع الوحي". "التفاتة نحو نغمة خافتة" هو تجربتي مع النضج، طريقتي للعودة في أعقاب الأحلام والخيبات التي تتضح معالمها حين نبتعد عنها في الزمن والتجربة. هو أيضًا محاولة للنجاة، بطرح الأسئلة، بغض النظر عن الإجابات، بإلقاء نظرة مختلفة على الحياة، بالمضي كالوسيلة الوحيدة للمواجهة. إذا بدت ثيمات النصوص مختلفة في الظاهر (المرأة ـ الشتاء ـ الألوان ـ الوقت ـ الذاكرة ـ العمر...) هي في العمق تعبر عن الهواجس نفسها، عن أوجه عدة للشعور الإنساني، في محطات مختلفة من العمر، وتلتقي أخيرًا في هذه الحاجة للتخفّف من كل شيء، التي يمكن أن تنضوي تحت ثيمتها كثير من قصائد الديوان.


(*) من الجليّ أن الخطاب النصّي يتّجه نحو الذات الشخصيّة، أي نحو الـ"أنا"، بل وحتّى كلّ ما يحمل صفة "عامّ" تحاولين خصخصته وإكسابه بعدًا شخصانيًّا. هذه الـ"أنا" التي تنعكس منها هذه التأمّلات وتتولّد منها هذه النصوص، كم هي قادرةٌ على استيعاب وتقمّص كلّ ما هو للـ"آخر"؟
من الطبيعي أن تغلب الأنا على نصوص تتناول الهموم الذاتية. برغم هذا تستطيع أن ترى أن هنالك تنوعًا في استخدام الضمائر. بعض القصائد كتبت بضمير الغائب لطابعها "السردي".




إنما ما يجيب على سؤالك هو استخدام ضمير المتكلم بصيغة الجمع في قصائد كثيرة، خصوصًا في القصائد الطويلة التي تحمل كثيرًا من التأملات الشخصانية فعلًا إنما التي تحاكي تأملات الذات البشرية بشكل عام.. حين أقول "الآن لا شيء يذكرنا بذاك الذي كنا عليه"، أو "نحن في حاجة إلى شيء أقل قسوة من الجرح"، أو "في الشتاء، أكثر من باب ينغلق على وحدتنا"… فما أفعله هو أنني أنادي هذا "الآخر"، وأشركه معي في هذه الهموم. أحب هذه الصيغة، أظنها طريقتي اللاواعية في الانطلاق من هذه الأنا نحو الآخر. بشكل أشمل، الأنا في الشعر تبقى أرحب الأمكنة لاستيعاب الآخر. الشاعر يخبرك كل شيء عن نفسه، يضع قلبه بين يديك في القصيدة. ثم حين تقرأها، ترى نفسك وتشعر أن أحدهم لامس هشاشتك ومخاوفك وحالاتك الشعورية الأكثر سرية وخصوصية. أجمل الشعر ذاك الذي ينطلق فيه الشاعر من أناه، ويبدو كأنه يتحدث عن كل واحد فينا.


الكتابة هي التي اختارتني
(*) عملٌ في مجال الطبّ ضمن تخصّص البيولوجيا الجزيئيّة والعلوم السرطانيّة. مجموعةٌ شعريّةٌ والعديد من المقالات السياسيّة والاجتماعيّة في العديد من المنابر الصحافيّة. بين هواجس الإبداع لدى الكاتب، وروتين العمل اليومي كطبيبة، كيف تستطيعين أن تفسّري هذا الاختلاف العلميّ والمعرفيّ والأدبيّ لديك؟ وهل يمكن لهذا السياق أن يولّد هويّة شخصيّةً جديدةً لديك؟
نحن لا نختار شغفنا، لكننا نختار مهنتنا. اخترت الأبحاث، واختارتني الكتابة. وأتأرجح بينهما باستمرار. هنالك أيام يكون الأمر سهلًا، وفي أيام أخرى يبدو أكثر صعوبة. أعمل بدوام طويل، يستهلك كثيرًا من وقتي. بالإضافة إلى أنني أم لطفلين، وهذا عمل بدوام كامل أيضًا. يبقى لديّ وقت قليل جدًا يجب عليّ فيه أن أكتب، وأيضًا أن أقرأ، لأنني على ثقة بأننا لا نستطيع أن نكتب إن توقفنا عن القراءة. يولّد الأمر هاجسًا فعليًا حين لا أجد الوقت الكافي لتغذية هذا الشغف، حين أشعر بالحاجة للكتابة مثلًا ولا أجد وقتًا لتفريغ النص الذي أختنق به في صدري، أو حين يمر وقت طويل من دون أن أكتب أي شيء.
أحب عملي العلمي وشغوفة به، إنما أشعر أنني أسرق الوقت وأتحايل عليه لأكتب. هذا لا يتعارض مع أن التنوع المعرفي أمر مغنٍ دومًا لهويتنا، ويلعب دورًا في تشكلها بلا شك. أعتقد أيضًا أنه يصبح مهمًا أكثر للروائي منه للشاعر، لأن الكاتب يكتب دومًا ما يدركه، ومن المهم أن تكون خلفيته المعرفية غنية ومتنوعة...


(*) من المعروف عنك، وبحكم إقامتك في فرنسا، أنّك لا تشاركين في الفعاليّات الثقافيّة والأدبيّة العربيّة، وتظلّين في الظلّ إلى حدّ كبير، وأن اسمك بات معروفًا مع نشرك لنصوصك عبر "تويتر"، قبل أن تبدأي بنشرها في المنابر الثقافيّة. في حال أردنا وضع مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت مجهر النقد، إلى أيّ حدّ يمكنها أن تُبرز الأصوات الجديدة في الكتابة؟ وكيف يستطيع الكاتب ضمان عدم تفلّتها بين أيدي القرّاء؟
مواقع التواصل الاجتماعي اليوم تلعب دورًا كبيرًا في إبراز الأصوات الجديدة، وأيضًا في خلق حالة ثقافية بين الكتاب في مختلف الدول العربية والأجنبية، مُشَكِّلةً تعويضًا مهمًا حين تتعذر المشاركة في الفعاليات الحية. وهذه حالة جميلة. في خصوص إبراز الأصوات الجديدة، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا، لأن هذه المواقع تحتوي كل شيء، من المذهل جدًّا، حتى الرديء جدًّا. والأصوات التي تدفعها هذه المواقع إلى الضوء ليست دومًا الأصوات المذهلة، لأن التفاعل يأتي من قبل فئة واسعة جدًا من الناس، ليسوا جميعًا قرّاء، أو مهتمين بالأدب بشكل حقيقي.




شخصيًا، أنصفني تويتر، خصوصًا بحكم ظهوري الإعلامي في فترة كورونا كدكتورة باحثة. ساعد هذا في رفع التفاعل على صفحتي، ومع الوقت لاقت تغريداتي الأدبية تفاعلًا كبيرًا. وعبر تويتر، تعرفت إلى الأستاذ عبدلله الغبين، مدير دار أثر، الذي وافق على نشر الديوان بعد ذلك.
هنالك مشكلة أخرى هي أن لا شيء يحمي ما تكتب في هذه المواقع، خصوصًا في تويتر، لأن الصفحات ليست دومًا شخصية. غالبًا ما أجد قصائدي بلا اسمي منشورة على صفحات لا أعرفها، وهذا أمر يدعو للأسف حقًا. أعتقد أنه ككل شيء، لهذه المواقع سلبيات وإيجابيات، إنما لا يمكن أن ننكر أنها حالة جميلة، أن تكون الكتابة حقًا للجميع، كما هي فعلًا، ألا تبقى حكرًا على المثقفين بشكلهم النمطي، واختصاصاتهم الأكاديمية. هذه المواقع وفرت الكتابة كملاذ للناس، وجعلتها في متناول الكل. في النهاية، نحن نعرف أن ما سيبقى هو الجيد. انتقاد كل ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، كما يحدث أحيانًا، هو بمثابة القول إن هنالك أوصياء على الثقافة ينتفضون بكلمات لأن أحدهم تجرأ على الكتابة. وهذا جنون، لأن الكتابة كالكلام: وسيلة للحياة، وللتعبير عن الحياة، ولمواجهة الحياة.

(*) ما هو جديدك في المستقبل القريب؟
لا أريد أن أتسرع في نشر ديواني الثاني الذي أنجزت قسمًا منه. أريد أن أترك لهذا العمل الأول بعض الوقت، أن أدعه يعرّف بي قليلًا بعد، أن يصل إلى أيدي فئة أكبر من القرّاء. وهنالك مشروع شعري آخر أعمل عليه مع شاعر كبير وعزيز أتمنى أن يرى النور قريبًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.