ليس من النافل القول بأنّ الكتابة اليوم هي عمليّة وصلٍ وقطيعة، وصلٌ بما هو آني ولحظيّ وقطيعة مع السابق واللاحق لها، وبالتالي، لم تعد تلك التي يحدّد لها كاتبها شكلها وجنسها بقدر ما باتت تفرض كل ما تريده على كاتبها، وهو ما يدفعه على الدوام للتساؤل عن ماهيّتها وتنوّعاتها، عن تأثيرها وتأثّرها، وهي التي تأتي من اللغة وتخرج منها.
باسكال صوما (1991) كاتبة وصحافيّة لبنانيّة من الجيل الجديد الذي وجد نفسه واقعًا في صخب هذه التساؤلات، وأراد أن يقدّم لها إجابات تحاكي خصوصيّته ولغته. بإصدارين شعريين، وروايتين، تقدّم لنا نفسها على أنّها إحدى الأصوات الأدبيّة القادمة لتحلّ محل السابقة لها. وبمناسبة صدور روايتها الأخيرة "مورينيا" (سما للنشر والتوزيع ـ القاهرة)، كان لنا هذا الحوار معها:
(*) البداية مع بطاقة تعريفك، كشاعرةٍ في بدايتك، ما هي الأسرار التي دفعتك نحو الكتابة الروائيّة؟ وهل يصحُ القول إنّكِ من كوكبة الكتّاب الذين دخلوا السرد إلى جانب الشعر، أو تخلّوا عن الأخير؟
نحن في زمن باتت فيه الأجناس الأدبية متداخلة، وهذا ما أراه مسألة إيجابية. حين كتبت الشعر، لم يكن ما كتبته خاليًا من الرواية، أو من فكرة السرد. الآن، في "مورينيا"، وقبلها في "أسبوع في أمعاء المدينة"، هنالك كثير من الشعر. هذا التداخل بين الأنواع الأدبية مهم وجميل ويمتعني، وألاحظ أن من يقرأني يبحث عن هذا تحديدًا في نصي. لست مؤمنة بصراحة بالحدود الإسمنتية التي يتم بها فصل الأجناس الأدبية عن بعضها بعضًا، فيما بإمكاننا تركها تندمج وتتناغم وتنتج نصًا أجمل وأكثر عمقًا. من قال إن الشعر والرواية ضدّان، وعلينا أن نكون ضحية هذا الصراع العبثي، ونختار فريقًا واحدًا دون الآخر؟ لم أخسر الشعر، ولم أهجره حقًا، لكنني حملته معي إلى الرواية.
(*) عملٌ في مجال الصحافة والتحرير. مجموعتان شعريّتان، وروايتان. بين هاجس الإبداع لدى الكاتب وسيرورة العمل اليومي لدى الصحافي، كيف بإمكانك تفسير هذا التباين العلمي والمعرفيّ في الذات الكاتبة لديك؟ وهل ثمّة هويّة خاصّة يمكن أن تتولّد في سياقه؟
العمل الصحافي، كما أراه، هو عملٌ إنساني قبل كلّ شيء، وليس مجرد تقنيات وقراءة بيانات وأرقام. والصحافي عليه أن ينغمس في الواقع، أن يقرأه من الداخل، ويلتقط تفاصيله حتى يستطيع الوصول إلى نتائج، وعرض الوقائع، ومساءلة المعنيين، إن استدعى الأمر. والكتابة الأدبية، أو لنقل الكتابة بمفهومها العام، هي أيضًا عمل إنساني، بمعنى أن الروائي، أو الكاتب، عمومًا، ينغمس في عمق الواقع ويشذّبه ويفرغه في النص. العين الصحافية هي أيضًا عين راوٍ، أو روائي، ومن خلالها يستطيع الصحافي سرد حكايات الناس ومعاناتهم، بموازاة الاعتماد على المعلومات وتقصيها. لكن كل شيء يبدأ بالقصة، وبالعين التي شاهدت وشعرت، وصولًا إلى الكتابة، التي بطبيعة الحال تختلف معاييرها وأصولها بين النص الصحافي والنص السردي… لكنّ القصة تأتي أولًا.
(*) من الضروريّ وضعُ مقارنةٍ بين عملكِ الصحافيّ الذي يرتكز على كتابة الواقع اليوميّ اللبنانيّ اجتماعيًا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وبين تجربتك الأدبيّة التي تتّجهين فيها لخلق عالمٍ موازٍ ومتخيّلٍ يجنحُ أحيانًا نحو الابتعاد الكلّي عمّا هو معاش. هل مِن الممكن الحديث عن عالمك هذا بأنّه جاء كردّة فعلٍ على الواقع؟ وما هي الخيوط الرفيعة التي تجدينها جامعة بين واقعك الصحافيّ، وخيالك الأدبي؟
أؤمن تمامًا بأن الخيال لا يأتي من العدم، وأنّ الشخصيات التي نظنّ أننا اختلقناها بالفعل موجودة هنا، أو هناك، أو في الشارع المقابل، ربما في قطار متجه إلى مكان لا نعرفه، ربما في حافلة مزدحمة، ربّما في مولٍ تجاري. ما أود قوله هو أنني، وحين أتجه إلى صناعة مكان، واختراع تفاصيله وشخصياته، أعتمد على الواقع بطريقة مختلفة ومكثّفة، لكنّ الخيال الأدبي من وجهة نظري هو التصاقٌ حميم بالواقع، وربما يكون الواقع المسكوت عنه نفسه، ذلك العمق الذي لا تستطيع القصة الصحافية أن تتناوله، لأنه ليس شأنها. باختصار، إنّ الخيال الأدبي هو الواقع، إنما من جهةٍ ووجهةٍ أخرى.
(*) حدّثيني، من وجهة نظرك، ككاتبةٍ شابّة، عن الأسس التي تدفع للمصادقة على تسمية النص روايةً، بصفتها المستوى الأصعب والأكثر تعقيدًا من بين المستويات السرديّة الأخرى؟
هنالك مقولة للروائي والمسرحي المصري، يوسف إدريس، جاء فيها: "أن تؤلف كتابًا، أن يقتنيه غريب، في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلًا، أن يختلج قلبه لسطرٍ يشبه حياته، ذلك هو مجد الكتابة". ما لاحظته هو أنّ القارئ يعمل على البحث عن نفسه في ما يقرأ، يحاول العثور على تفاصيله التي لم يلتفت إليها قبل الآن، ويريد أن يجد شيئًا يشبه المرآة في النص لينظر إلى نفسه فيها. ربما لا يستطيع الكاتب أن يخترع مرآةً يرى جميع الناس نفسهم فيها داخل رواية واحدة، لكنّ تنويع الشخصيات، وتنويع الأبطال، يمنح القارئ فرصة ليلتقط أنفاسه ويلتقط ملامحه في الأحداث والحوارات والطباع. ما أؤمن به هو عدم وجود بطولة مطلقة في الحياة، وكذلك في الرواية، هنالك دومًا أبطال آخرون، وهذا ما حاولت قوله في "مورينيا"، فحتى القطة هي واحدة من أبطال الرواية. كما أنك حين تقرأ فصلًا تظنّ نفسك تعرفت إلى البطل وفهمت نهايته، لكنك تكتشف على مر الفصول أن القصة ليست بالبساطة التي ظننتها، بل دائمًا هناك قصة خلف القصة، وبطل خلف البطل، تمامًا كما في الحياة.
(*) واضحٌ أنّك تتّجهين للاشتغال على مستوى لغويّ خاص يعمل على الجمع بين شعرية الخيال وغنائيّته وبين رشاقة السرد الساعي لإرساء مشهديّته، وهو ما يخفّف من ثقل العبارة وصرامتها لكنّه يبدو أحيانًا كأنّه واقع في دائرة الصراحة التامّة. ما الذي يدفع باسكال لاعتمادها هذا المستوى اللغوي، وأيّ تقنياتٍ تعوّل عليها لإرساء دعاماته؟ وهل تتّفقين معي أنّ هذا الزمن لصالح السرد الملمّح والمحرّض الذي تحمله القصّة القصيرة والنوفيلّا؟
ليست الرواية عملية سرد قصةٍ فحسب، بل هي نصّ سرديّ عليه أن يقول شيئًا وينثره في هذا العالم، حتى ولو كنتَ تكتب رواية تاريخية بحتة. كما أظنّ أن على الكاتب ألا يكتفي بتوثيق الأحداث وسرد القصة، بل أن يتّجه إلى تحريض القارئ على التفكير وفتح حوار مع ذاته ومع العالم.
ثمّ إن الكتابة بلغة جميلة وخاصة لأمرٌ ضروري وهو مهنة الكاتب اليومية، فعليه أن يكون على اتّصالٍ مع اللغة بالمعنى العميق، أن يمسكها، أن يطوّعها، أن يفتح أبوابًا جديدة فيها. أجد نفسي في تحدٍ يومي مع اللغة، أتحدّاها أن تقولني بشكل أفضل، وأن نستطيع معًا بناء نصٍ حقيقيّ وجميل. ولا أقصد هنا اللغة بمعنى النحو والمفردات الصعبة التي أبتعد عنها كثيرًا، بل أقصد اللغة بوصفها هوية ووسيلة للتواصل مع الذات، ومع المعنى، ومع العالم. في هذا السياق، أستذكر ما قاله الكاتب المسرحيّ الاسباني، إنريكي خاردييل بونثيلا: "إذا تمكنت من قراءة مادة مكتوبة من دون جهد يذكر، فهذا معناه أنه تم بذل جهد كبير عند كتابة هذه المادة".
(*) جزءٌ من عملك يقوم على دراسة المكان وتبيان أبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة، وواضحٌ أنّك أنجزت ذلك في روايتيك "أسبوعٌ في أمعاء المدينة"، و"مورينيا"، من خلال الرسم الدقيق للمكان جغرافيًّا وحيويًّا. ما هي المعايير التي تستطيع أنسنة المكان وجعله محورًا أساسيًّا في النصّ السردي؟ وكيف من الممكن إيصال ذلك للقارئ من دون تجريد بقيّة العناصر من دورها، ودون إلحاق الضرر بالنص؟
كلامك صحيح. أعتقد أنني لو استطعت منح بطولة مطلقة في الروايتين لكانت للعنصر المكاني. والمكان لا أعني به الجغرافيا والمساحة وحسب، بل المكان ببعده الثقافي والقيَمي والاجتماعي والإنساني. المكان هو الجامع بين الشخصيات التي أشتغل عليها، وأعمل على تفسير هذه العلاقة بين المكان والشخصيات، لأن الإنسان يأتي من مكان، من بيئة، تؤثر فيه، تطبعه، ويطبّع معها، أو ينتفض عليها، لكن حتى الانتفاض على المكان لا يعني بالضرورة التخلّص من أثره، أو "لعنته"، إذا جاز التعبير.
في "مورينيا"، تبدو الشخصيات غريبة عن بعضها، وأحيانًا متناقضة وغير منسجمة، لكن الجامع المنطقي بينها هو مدينة مورينيا، المكان الذي يعيش فيه كلّ هؤلاء، ويخضعون لمعاييره وشروط العيش فيه. لكن لا يعني ذلك تهميش عناصر الرواية الأخرى أبدًا، لكن المكان يحتويها كلها، بحيث إنك إذا كنت تريد تخيّل مشهد تقرأه، ستستطيع تخيله يحدث في مورينيا، وليس في مدينة أخرى، لأن التركيز على عنصر المكان منحك القدرة على رسمه، وكأن مورينيا موجودة بالفعل، وأنت تعرفها وتعرف الطريق إلى هناك.
(*) كثيرًا ما قيل إنّ الروائي، أو الساردِ، بصورةٍ عامّة، هو صوتُ كلّ وجهٍ من الوجوه الهامشيّة لعالمه الخاص، لكن من الملحوظ أنّك تلجئين لشيءٍ من "العنف" في نقل هذه الأصوات، عبر رفع حدّتها، وإعطائها أكثر أبعادها الفيزيائيّة والأخلاقيّة تطرّفًا. هل ينطوي هذا العنف المستخدم من قبل الكاتب على غاية توسيع آفاق هامش هذه الشخصيّات، أو حتّى إخراجها منه كلّيًا؟ كيف تفسّرين ذلك؟
هل هو عنف حقًا؟ لم أفكّر بذلك، لكنني أعمل على الشخصيات من الداخل، أعمل على الجوانب المسكوت عنها، ولا أهتمّ كثيرًا للأشياء السطحية والأحداث المتسلسلة المتتالية التي تتطلب المنطق والمشي على الصراط المستقيم. ما أشتغل عليه هو تركيب شخصيّاتي من الداخل، أحاول فهمها بعمق، وأحيانًا يكون العمق أقسى مما نتوقع، فنبش الذات الإنسانية ليس مسألة لطيفة، وتتطلب من الكاتب أن يكون صارمًا حتى يغدو حقيقيًا، والحقيقة في أوقات كثيرة قد تبدو كما قلتَ "عنيفة"، وقد نظنها مبالغة، لكنها ليست كذلك. كلّ ما في الأمر أن الحقيقة كانت نائمة، وحين أخرجناها على السطح بدت مؤلمة.
(*) تفاصيل؛ فاصلة؛ أسبوعٌ في أمعاء المدينة؛ مورينيا. واضحٌ أنّك تركّزين باهتمام على مسألة العنوان واختياره. أيّ مخاوف يمكنها اليوم اعتراض طريق الكاتب في اختيار عنوانه لئلا يسقط في المألوف، ولئلا يتوه في الضبابيّة؟
كان أحد أساتذتي ينصحنا بأن علينا الوصول إلى العنوان الحادي عشر قبل الاختيار النهائي. كان يقولها على سبيل المزاح، ولكن الحقيقة أن العنوان يحتاج من الكاتب مساحة ووقتًا، لأنه مفتاح الكتاب، وصلة الوصل الأولى بين الكاتب والقارئ، وبين المنتج الأدبي والعالم. لكن أيضًا ينبغي التأكيد على فكرة البساطة، ليس بمعنى الاستسهال، إنما من باب كسر الحواجز نحو قلب القارئ، وهي ليست مسألة سهلة، أن تختصر كل ما قلته بكلمةٍ أو اثنتين وتكون كافية...
أنا أميل إلى البساطة، وأؤمن أنها تفي بالغرض. لا أعقّد النص، ولا أعقّد مسألة العنوان، لكنني أشعر بنصي حتى آخر رمق. وأستطيع أن أقول إنني لا أختار العناوين، بل إنها تختارني في لحظة لا أخالها، وكذلك النص، إنه يلاحقني حتى أكتبه، والعنوان يأتي على قدميه إلي ويقول: هاكِ أنا هنا، هل كنتِ تسألين عني؟ باختصار، على العنوان أن يكون قادرًا على اختراق القلب، قلب القارئ.
(*) شأنّها شأن أيّ كتابة، للكتابة الروائيّة طقوسٌ خاصّة، لعلّ أبرزها طقس الرؤية والاستبصار، ففي مساحة العين تتركّز الصور التي تتفاعل في داخلها عبر المجهود الذهنيّ، وبالتالي تولّد الحكاية. بصفتها هذه الرؤية هي الإيقاع الذي يعمل على ضبط التناغمات بين عالمٍ فيزيائيّ، وآخر افتراضي، أين يذهب بك أثناء الكتابة، وأين يمضي بمصطلحات التوازي والتلاقي بين العالمين؟
كتابة الرواية عمل مرهق وممتع في آن، بخاصة أنني أتفاعل مع الشخصيات والأحداث لدرجة أن ذلك ينعكس على حياتي اليومية. والانفصال عن الرواية في النهاية يؤلمني، بخاصة أنني أنتبه إلى كمّ الأذى الذي سببته للشخصيات أحيانًا، من أجل صناعة نصٍ حقيقي وعميق. لكن أعود وأؤكد أن الشخصيات المتخيلة هي حقيقية في الواقع، وبالتالي لا يمكن اعتبار الرواية عالمًا افتراضيًا بحتًا. كما أن العالم الحقيقي الذي نعيش فيه ليس حقيقيًا دائمًا، وهو افتراضي في أحيان كثيرة، وربما في العمل الروائي يمكن الجمع بين المسكوت عنه في العالم الفيزيائي وبين لغة الكاتب وذاته (العالم الافتراضي كما سميته في سؤالك).
(*) ترى إلين شوالتر أنّ الكتابة النسائيّة "نقش جسدِ الأنثى واختلاف ذلك عن اللغة والنص"، وهو ما يأتي تفسيره على يد مادلين غانيون على أنّه اتّجاه الأنثى لاختلاق لغتها الخاصّة غير تلك المصنوعة من الرجل، وبالتالي لغة غريبة عنها. وهذا ما يمكن ملاحظته في أعمال كاتباتٍ عديداتٍ، كفرجينيا وولف، وسيمون دو بوفوار. في ظلّ تصاعد الخطاب الأدبيّ النسائيّ اليوم، وبروز مكانته كجزءٍ أساسيّ في مجمل الظواهر الأدبيّة العالميّة، ما هي الآفاق المفتوحة التي تنتظر الأدب النسائي ككل؟ وأين تجد باسكال نفسها في هذا السياق؟
بصراحة، لا أحب تصنيف "أدب نسائي"، ولست مقتنعة به تمامًا. لا أجد مسوّغًا لجندرة الأدب، واستمرار اعتبار النساء حالة طارئة على الكتابة والإبداع، أو التعامل مع إنتاجهن كأمر استثنائي. ما أستطيع قوله إن النساء بتن أكثر جرأة في النشر والكتابة، ويحصلن على دعم أفضل من قرون سابقة طُبعت بما كتبه الرجال بشكل أساسي، بينما اندثر كثير مما كتبته نساء كثيرات، أو تم تهميشه. والأدب العربي القديم خير دليل على ذلك، حيث إن ما وصل إلينا هو ما كتبه رجال، فيما ستتعب كثيرًا قبل أن تنبش الشاعرات القديمات، وتتبحّر في ما كتبنه. أنا شخصيًا لا أتعامل مع نفسي كـ "امرأة" تكتب، بل أكتب فقط، مع العلم أنّ أي كتابة عن المجتمع والناس لا يمكن ألا تمرّ بعذابات النساء ونضالهن وما يواجهنه حتى اليوم من قمع وقتل ومحاولات إقصاء تمتد من السياسة إلى الاقتصاد وصولًا إلى الإنتاج الأدبي. وقد شاهدنا عددًا كبيرًا من الكاتبات اللاتي دفعن ثمن دفاعهنّ عن قضايا النساء، أو ثمن خوضهنّ غمار الكتابة والنشر، مثل الكاتبة المصرية الراحلة، نوال السعداوي.
(*) ثمّة جدلٌ لا يزال قائمًا حول مسألة الأدب السرديّ في التراث العربي، فالبعض يرى ضرورة إحيائه على غرار ما حصل زمن النهضة الأوروبيّة، والانطلاق منه نحو تجديدٍ عربيّ خالص، ومنهم من يدعو للتركيز على الحداثة القادمة من الألسنة الأخرى، ناسفًا دور التراث في التجديد. أيّ رؤيةٍ سرديّةٍ تحاولين تبنّيها إزاء الزخم السردي ذي الاتجاهات المتنوّعة في الأدب العربيّ المعاصر؟ هل توافقين على أنّ ثمّة إجحافًا لحق بالتراث السرديّ العربيّ حتّى اليوم؟
بل أوّد أن أسأل: ماذا علينا أن نفعل بالتراث السردي العربي؟ وماذا يعني تحديدًا الدفاع عنه والحفاظ عليه؟ هل إذا أتى بودلير إلى هذا الزمن، وكتب بأسلوبه الكلاسيكي، سيكون مقبولًا ورائجًا، وسيحصد ما حصده في زمنه؟ قطعًا لا، الأدب ابن بيئته. التراث شيء نبحث فيه ونتعلّم منه، ولكن لا ضرورة لتطبيقه إلى الأبد. الأفكار تطوّرت، أهواء الإنسان في زمننا مختلفة عن أزمنة غابرة، وكذلك الأدب، علينا أن نمنحه فرصته في كل زمن، وإلا فما الفائدة منه؟ ثمّ إنني على مستوى اللغة تحديدًا أبحث دومًا عن تبسيطها وتجديدها، وجعلها معاصرة وخفيفة الظل، ولا أجد أن الإبداع يكمن في التعقيد، وفي عجرفة النص حتى يصبح ترفًا لا يستطيع القارئ إليه سبيلًا.
(*) "مورينيا" إصدارك الروائيّ الأخير حتّى الآن. وكثيرًا ما كانت بعض التجارب الروائيّة بمثابة مستهلّاتٍ لمشاريع سرديّةٍ متواصلة. هل أستطيع التخمين بأنّ "مورينيا" قد تكون بدايةً لمشروعٍ سرديّ متكاملٍ لدى باسكال، أم أنّ كلّ ما هو قادمٌ سيأخذ المقاسات المتناسبة معه من دون تدخّلٍ منك؟
لا أحبّ أن أحدّ نفسي، ولا أستطيع أن أؤكد أنني سأكتب دومًا بالطريقة ذاتها، ولا أعتقد أن أيًا مما أؤمن به، أو أعتمده، سيرافقني في كل ما أكتبه. لم أفكّر حتى الآن بما يمكن أن أفعله بعد "مورينيا"، وأظن أنّني أريد منحها فرصة كاملة ومساحة، وألا أزاحمها بعمل آخر في المرحلة الحالية. كما أنني أحتاج إلى وقت لصناعة فكرةٍ أخرى، ذلك أنني لا أسعى إلى كتابة قصةٍ، بل إلى طرح فكرة.