}

ذكرى إيمانويل بوف.. "إحساسٌه بلمس التفاصيل لا مثيل له"

بهاء إيعالي 13 يوليه 2022
استعادات ذكرى إيمانويل بوف.. "إحساسٌه بلمس التفاصيل لا مثيل له"
(إيمانويل بوف)


لعلّ فكرة تغييب كاتبٍ عن المشهد الثقافي بعد وفاته ليست بجديدةٍ على الإطلاق، إذ عرف التاريخ الأدبيّ بمجمله تغييبات (أو لنقل غيابات) لأسماء أدبيّةٍ كان لها صولتها وجولتها في المعترك الثقافي في عصرها، لتجد نفسها مهملة عقب وفاتها، وكثيرةٌ هي الأسباب التي أدّت لاختفاء هؤلاء وغياب أسمائهم. الأمر نفسه ينطبق على الكاتب والروائيّ الفرنسيّ إيمانويل بوف الذي عاش حياةً أدبيّة زاخرةً بالعطاء والشهرة رغم قصرها، بل وكان موضع اهتمامٍ للعديد من الأدباء المعروفين خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ومن بينهم ماكس جاكوب وأندريه جيد وفيليب سوبولت وغيرهم. ولكن لم تمض فترة قصيرة على وفاته حتّى غدا صاحب رواية "أصدقائي" في طيّ النسيان، وهذا ما ظلّ مستمرًّا قبل إعادة اكتشافه منذ فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا.

حياةٌ قصيرة زاخرة

لم تكن طفولة إيمانويل بوبوفنيكوف (وهو الاسم الحقيقيّ لإيمانويل بوف) سهلة، فلطالما قيل إن رغبة الكتابة تنشأ غالبًا من نقصٍ موجودٍ عند الشخص في طفولته. وإيمانويل هذا، ابن عاملة نظافةٍ من لوكسمبورغ حملت به من رجلٍ يهوديّ روسيّ غير أهل لحمل المسؤوليّة، أبصر النور في 20 نيسان/ أبريل 1898 في باريس محاطًا بظروفٍ صعبةٍ للغاية، فطيلة طفولته لم يشعر بحنان والدته التي فضّلت عليه أخاه ليون، كما لم يعش حياةً مستقرّةً مع والده الذي ارتبط بامرأةٍ انكليزيّةٍ غنيّة. وعلى الرغم من أنّ الأخيرة كانت بمثابة أمّ مثاليّةٍ له، غير أنّ ولادة أخيه فيكتور (وهو ابن هذه المرأة) جعله يشعر بفقدان مكانته عندها، ليجد نفسه في كنفِ جوّ من الكراهية والحسد والاستياء، وهو ما دفعه شيئًا فشيئًا نحو الكتابة التي وجد فيها سلوانه.

لم تكن بدايته مع الكتابة باسمه الذي عرف به لاحقًا، فمع سفره إلى النمسا وزواجه واستقراره هناك، أخذ ينشر بعض الروايات الشعبيّة تحت اسمٍ مستعارٍ هو جان فالوا، وبالتالي ظلّ بعيدًا عن الحياة الثقافيّة لحين عودته إلى باريس عام 1922، بحيث حصل بعد عامين أن اكتشفته الروائيّة والصحافيّة الفرنسيّة الشهيرة كوليت، فساعدته على نشر روايته الأولى "أصدقائي" والتي أطلقت مسيرته الأدبيّة الحقيقيّة ولاقت قبولًا طيّبًا. وبعد أربع سنواتٍ نشر خلالها عدّة أعمالٍ حصل على جائزة فيغيير عن روايته "الائتلاف" (La Coalition)، ومن بعدها استمر في الكتابة والنشر بغزارةٍ وانتظام قبل أن يجد نفسه متوقّفًا بشكلٍ قسري مع اندلاع الحرب.

ما إن احتلّ النازيّون فرنسا حتّى قرّر بوف مغادرتها، ففي البداية أراد الذهاب نحو لندن، غير أنّه استطاع عام 1942 الوصول إلى الجزائر التي مكث فيها قرابة الثلاث سنواتٍ كتب خلالها رواياته الثلاث الأخيرة: "الفخ" (Le Piège)، "المغادرة في الليل" (Depart dans la Nuit) و "لا مكان" (Non-Lieu)، وقد نُشرت أوّل روايتين في حياته فيما نُشرت الثالثة بعد وفاته بأشهر. وعلى الرغم من عودته إلى فرنسا بعد تحرّرها من الاحتلال النازي، إلّا أنّه عاد إليها بصحّةٍ عليلةٍ جرّاء إصابته بالملاريا في منفاه الجزائري، لتوافيه المنيّة جراء سكتةٍ قلبيّةٍ في 13 تموز/ يوليو 1945 عن عمرٍ يناهز 47 عامًا.

على الرغم من عمره القصير، إلّا أنّه ترك لنا العديد من الأعمال التي تتميّز بالمفارقة السخيفة والبائسة والتي تثبتُ سبب رؤيته السوداويّة للوجود، ومن أبرزها روايات "أصدقائي" (Mes Amis)، "الهاجس" (Le Pressentiment)، "راسكولنيكوف" (Un Raskolnikoff) و"الفخ" (Le Piège). وقد اعتبره الأكاديميّون والأدباء أحد روّاد الرواية الجديدة، ولا شك أنّ ذلك بسبب أسلوبه المجرّد والرماديّ المحايد وحسّه العظيم بالملاحظة، بحيث قال عنه صامويل بيكيت: "لديه إحساسٌ لا مثيل له في لمس التفاصيل".




عوالم مضطربةٍ لمجتمعٍ هامشي

حينما يتعمّق المرء في أعمال بوف الروائيّة، تنتابه رؤيةٌ سوداويّةٌ ومسببّةٌ لليأس تجاه الوجود، وهذا ليس ببعيدٍ عن رؤية الكاتب نفسه له، فهو يراه أنّه ذو طبيعةٍ روتينيّةٍ آليّةٍ غير قابلةٍ على اجتراح تقلّباتٍ فجائيّةٍ حادّة، بحيث أنّها تزيل أيّ هدفٍ آخر لهذه الحياة باستثناء الموت في نهاية المطاف. من هنا يأتي يقينه بأنّ أيّ رفضٍ لهذا الواقع هو مجرّد خيبة أملٍ دائمةٍ وقتلٍ لكلّ الآمال والاحتمالات، وأنّ أيّ تحريضٍ على رفضه بمثابة عملٍ سخيفٍ لا طائل منه، ومن هنا تأتي سمات شخصيّاته المختلفة التي تظهر نوعًا من الاستسلام المطلق لهذا الواقع.

من الواضح أنّ بوف يعتمد على نقل أفكاره كتابيًّا عبر ما يعرف بسيل الوعي، وهو ما يعرّفه القواميسي الإنكليزي جون أنتوني بودون كودون "بأنّه الأسلوب الذي يحاول الكاتب من خلاله تصوير الأفكار والمشاعر المتعدّدة التي تمرّ عبر عقب الراوي". وهذا الأسلوب لدى بوف يتجلّى واضحًا في روايته الأولى "أصدقائي" التي بدت كتداعياتٍ دماغيّة واضحة تجاه أزمة العلاقات التي يمرّ بها بطل الرواية، بحيث بدا بوف أقرب لمارسيل بروست في رأيه عن العلاقات الحميمة التي لا طائل منها. ما يميّز بوف في هذا المضمار هو أنّه يعملُ على دمج سيل الوعي بنسيج القصّة من خلال المزج ما بين المونولوغ الداخلي والسرد بضمير المتكلّم، وكلّ هذا يحدث كما لو أنّ هذا المونولوغ الداخليّ يقدّم له إمكانيّة إضافيّة لتحليل البيئة المكانيّة، وخطوة إلى الوراء تسمح له برؤيةٍ أبعد وأكثر دقّةً من ذكرى الفعل أو حاضره. ولكن من الضروريّ الإشارة إلى أنّ حتى ضمير الغائب لدى بوف يتشابه مع ضمير المتكلّم من حيث دلائله في النص، فالقارئ يشعرُ تمامًا أنّ الراوي المجهول يتقمّص الشخصيّة الرئيسيّة بشكلٍ أو بآخر في نص العمل، فيكون ضمير الغائب هنا ذا غايتين متماهيتين: غاية معلنة هي التعميم (أي رسم شخصيّةٍ موجودةٍ في العموم)، وغاية مبطّنة هي التخصيص (أي تجريب إسقاط بعض ذات الكاتب عليها).

باستثناء روايته "العازب" (Un Célibataire) التي تدور أحداثها في نيس، اتّخذ بوف من مدينة باريس مسرحًا لمجريات أحداث كافّة أعماله، وهو اختيارٌ لم يأتِ عن عبث مطلقًا، وذلك لأنّه قضى جلّ حياته في هذه المدينة التي عرفت ذات يومٍ بعاصمة الأنوار، لكنّها في الحقيقة حقل التناقضات التي بنى عليها مفارقاته النصيّة، التناقضات الاجتماعيّة الشديدة التي نجد الهوّة واسعة بينها في الشق المادّي، لكنّها ضيّقة من الجانب الأخلاقي. ومن خلال إظهاره لهذه التناقضات استطاع تسليط الضوء على أكثر الحقائق اليوميّة إضرارًا، وبالتالي إبراز جانبها المؤثّر دون تناسي مقدار هشاشتها، بيد أنّ أصغر تفاصيل هذه الحقائق اليوميّة تكاد تكون منطقيّة، وهي في ذلك تستحضرُ أجواء أفلام المخرج الفرنسيّ مارسيل كارنيه أبي الواقعيّة السينمائيّة الفرنسيّة، كما في أفلام "أطفال الفردوس" (Les Enfants du Paradis) أو "ميناء الضباب" (Le Quai des Brumes).

الإنسان المنهزم

لطالما أبدى إيمانويل بوف قلقه حيال الوجود البشري في أعماله كافّة، فعادةً ما يقال عن الإنسان إنّه عنيدٌ وطموحٌ ويتطلّع إلى ما لا يستطيع أن يكون عليه، وهذه هي القاعدة التي عمل على كسرها في تركيب شخصيّاته الروائية، إذ أظهرها بمظهر الأسرى داخل عالمٍ لا يستطيع المرء أن ينال فيه مكانته، بل وضاعف من ذلك برسم هذه الشخصيّات بهيئة المستسلمة للأمر الواقع وغير المبالية إطلاقًا إزاء التغيّرات السريعة التي تدور حولها، فتجده لا يكلّ من توصيف الوضع الصعب للإنسان في مصيدة عالمٍ يخنقه وحياةٍ يزدهر فيها الانحلال والمعاناة والفساد. يدرك بوف أهميّة الإرادة في الشعور بالضيق الوجوديّ والمحاولة للتخفيف من وطأته، لكنّه ظل على قناعةٍ تامّةٍ بأنّها ليست كلّ شيء، وأنّه من الضروريّ معرفة كيفيّة مراعاة ظروف الحياة التي يعيشها الإنسان، وفي هذه الحالة لا يعتبرُ الأخيرُ حرًّا سوى في أن يعاني تمام المعاناة من وجوده أو يحاول أن يضع حدًّا لهذه المعاناة، ومن الجليّ أنّ عمل بوف يتجلّى بوصفه فكرة مفادها عدم إمكانيّة رسم مسار حكايةٍ يتجاوز هذين الاحتمالين.

يصوّر صاحب رواية "المغادرة في الليل" إنسانيّةً غير قادرةٍ على تجاوز ضعفها، وعالمًا يكون فيه التمرّد على قوانينه الثابتة مجرّد وهمٍ وضعفٍ إضافيين وبالتالي فإنّ تجنّب ذلك هو الأسلم للفرد، بل وذهب إلى حدّ أنّه رأى العالم الخارجي بمثابة كابوس وهو ما عمل على اختباره في نصه، إضافة إلى عمله على اختبار الانسانيّة بطبيعتها الحقيقيّة والتي جعلت الناس في حالةٍ من العداء بين بعضهم البعض وبشكلٍ لا يمكن إصلاحه. من هنا كان لا بدّ أن يهيمن على أعماله الاجترار الدائم للمشاكل غير القابلة للحل (أو يُفترضُ ذلك) والتي تنتهي بشكلٍ من أشكال العدم المنطقي، ولعلّ ما يبرّر ذلك هو أنّ الفقر المادي، والذي يحجبُ فقرًا معنويًّا أكثر وطأةً وشدّة، ضاربٌ بجذوره في أعماق الإنسان، وبالتالي فهو يكشف عمّا ينبع من النفس البشريّة من خلال إبراز دناءة الإنسان البائس.





تغييبٌ غير مبرّر واكتشافٌ متأخّر

جاءت وفاة إيمانويل بوف في 13 تموز/ يوليو 1945 لتضع حدًّا لمسيرته الأدبيّة بعد أن كانت قد توقّفت خلال فترة الحرب، بل لنقل إنّه اختار إيقافها بنفسه، فعلى عكس معظم الكتّاب الفرنسييّن الذين استمرّوا في نشر أعمالهم خلال فترة الحرب (على غرار سارتر وغيتري وغيرهم)، رفض إيمانويل الاستمرار بذلك تحت نير الاحتلال الألماني وقرّر مغادرة فرنسا. غير أن القدر لم يمهله كثيرًا بعد عودته، وبالتالي لم يستطع استئناف مسيرته المتوقّفة بشكلٍ جدي.

ومع ذلك يظلّ هذا السبب غير أكيد ويحتمل التأويل، فأيضًا لا بدّ من ذكر تأثير الحراك الثقافي الذي تغيّرت مساراته وأفكاره ومبادئه في فرنسا ما بعد الحرب، وتحديدًا على مستوى الثيمات المشغول عليها في الأعمال الأدبيّة، فما ساد في البلاد ما بين الحربين ليس هو نفسه ما ساد بعدها، كما لا يمكن نكران أنّ الأدب الوجودي الفرنسيّ تأثّر بشيءٍ من أدب الحياة اليوميّة الأميركيّة إثر هروب العديد من الأدباء والفنانين الفرنسيين إلى نيويورك خلال الاحتلال وعادوا حاملين لهذا التأثّر. بالتالي تشكّل تيارًا أدبيًّا جديدًا لم يستطع بوف أن يسايره ويواكبه لوفاته المبكرة.

مهما كانت الأسباب، فإنّ منجز بوف الأدبيّ والإنساني ظلّ غائبًا لفترةٍ طويلة حتّى أتى الروائيّ والكاتب النمساويّ بيتر هاندكه (والذي حصل على جائزة نوبل عام 2019) عام 1982 ليعيد الكشف عن هذا الاسم بترجمته لرواية "أصدقائي" إلى الألمانيّة أوّلًا ومن ثمّ إتباعها بالعديد من أعماله، بل إنّه قدّم ضمن محاضرةٍ له في جامعة دارمشتات عام 2017 العديد من الوثائق المتعلّقة بهذا الكاتب. هنا بدأ الجميع ينتبه لهذا الاسم، فاشتغل ريمون كوس وجان لوك بيتون على إحياء سيرته وأصدراها بكتابٍ عنوانه "إيمانويل بوف: الحياة كظل" (Emmanuel Bove: La Vie comme une Ombre) عام 1994. ومن هنا انطلقت رحلة انتشار بوف المتأخّرة بعض الشيء، فأعيدت طباعة أعماله في فرنسا وجرت ترجمتها للعديد من لغات العالم، كما كان بعضها ملهمًا للمخرجين السينمائيين ومن أبرزهم بيير داروسان الذي أخرج عام 2006 الفيلم المقتبس من روايته "الهاجس"، والذي حمل نفس العنوان (Le Pressentiment).

من الممكن أن نعتبر إعادة اكتشاف هذا الكاتب الفرنسيّ، الذي لا يزال حداثيًّا رغم مضي 78 عامًا على وفاته، بمثابة بحثٍ تاريخيّ يعيد تسليط الضوء على واقع المجتمع الفرنسيّ خلال فترة ما بين الحربين، بل ومن المقدور القول إنّ بيتر هاندكه لم يكتشف مجرّد كاتبٍ فحسب، بل اكتشف وثائق تاريخيّة ربّما يستطيع المرء من خلال التعمّق في قراءتها أن يقرأ بعضًا من الأسباب غير المباشرة التي، بشكلٍ أو بآخر، سهّلت على النازيين احتلال فرنسا بين 1940 و1944.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.