}

أنس البريحي: أنا ضد الفن الرقمي ولا أقتنع به

مناهل السهوي 21 أكتوبر 2023
حوارات أنس البريحي: أنا ضد الفن الرقمي ولا أقتنع به
أنهى البريحي دراسته الجامعية في سورية
دخل التشكيلي السوري، أنس البريحي، عالم الألوان بقوة، قبل أن يدخل معارض العالم بالقوة ذاتها. في لوحاته طفلٌ ما زال يركض في السهول، لكنه طفل متعب ومثقلٌ بالهموم الفردية والجماعية. في الفن، تجاوز الأولى، ورسم الثانية، وطعّم العمل النهائي بلحظات من ذاكرته. اللحظة هنا قد تكون لونًا، أو سطحًا أكثر خشونة، أو ضربة ريشة في هامش اللوحة.
الألوان الجريئة، والمواضيع البسيطة القريبة من الفرد، والسطوح المشغول عليها بثقة، لا تقل أهمية عن اختيار الألوان، هي العناوين العريضة لابن مدينة السويداء في الجنوب السوري، الشاب الذي ترك حضورًا قويًا في عمر صغير.
أنهى البريحي (1991) دراسته الجامعية في سورية، وتخرّج في كلية الفنون الجميلة. انتقل سنة 2015 إلى بيروت لدراسة الماجستير في الجامعة اللبنانية في بيروت. له من المعارض "منال"، و"صائد الأحلام"، و"الحالم"، و"أمنا الأرض"، و"باب الهوى"، كما شارك في عدد من المعارض الجماعية في نيويورك، وباريس، وألمانيا، ولندن.
هنا، حوار معه:



(*) في بداية انتقالك إلى بيروت تشاركت السكن مع مجموعة من العمال من جنسيات مختلفة. كنت تراقبهم خلال نومهم، بعد أن يعودوا منهكين من العمل. لاحقًا، أقمت ثلاثة معارض اتخذت من النوم موضوعًا لها، وهي: "صائد الأحلام"، و"باب الهوى"، و"الحالم"، الذي عرضته في معرضين مختلفين. بعد أن عالجت النوم فنيًا، هل تغيرت نظرتك إلى هذا العالم؟
نظرتي إلى العالم لم تتغير منذ زمن بعيد، لكنني تأكدتُ أن هذه النظرة نابعة من حقيقةٍ داخليةٍ، وهي أن العالم مليء بالخيبات والظلم والاستغلال والماديات وانعدام الحريات، كما أنه مليء بالحياة والأمل. مع الأسف، في العصر الذي نعيشه أصبح علينا بذل مجهودٍ من أجل العيش كما نريد، أو كما تريد الحقيقة. هنالك شيء مبتذل وتافه جدًا يحيط بنا، وعلينا أن نحمي أنفسنا ومشاعرنا منه على الدوام. أنا ممتن للنوم، لأنه جعلني أرى جزءًا من الحقيقة والحرية، كم نحنُ أحرارٌ، حينَ ننام، ونصبح خارج النظام.

(*) وما الفارق في رسمك للنوم بين معرض وآخر؟
كانت ثلاثة معارض تدور حول النوم. في الأساس كانا معرضين، لأنني قسمت معرضًا واحدًا منهم إلى معرضين، جزء عرض في أميركا، وجزء عرض في ألمانيا، لكن تحت العنوان نفسه، والفكرة ذاتها.
معرض "باب الهوى" هو على اسم معبر باب الهوى بين سورية وتركيا، الذي عبر من خلاله اللاجئون في سيارات مفتوحة. الاسم يحمل معنيين؛ المعبر الذي يمكن إغلاقه في وجه اللاجئين، و"الهوا" بمعنى الأوكسجين.
باب الهوى فيه شيء من النوم، لأن التركيز هو على الشخص النائم في الكميون، أو السيارة المفتوحة، كل الكميونات فيها رجل نائم، والمرأة تنظر نحو الأرض، فالمرأة في سيارة اللجوء تفتح عينها والرجل ينام، وهذا له علاقة بكسر الصورة النمطية للنظرة الذكورية، التي تصور الرجل قويًا لا ينكسر، أمّا المرأة فمن الطبيعي أن تبكي، أو تحزن. أنا عكست هذه الصورة، فالرجل دائمًا نائم، بينما يحيط كل هذا الخراب بغفوته، الغفوة هي أساس المعرض، وأنا قلت ذلك في نص التقديم: "كيف يمكن أن تغفو وأنت تترك وطنك؟". هل هذه الغفوة هي هروب، أم حاجة، أم ماذا؟

(*) للمرأة أثر قوي وحاضر في حياتك، وبخاصة والدتكَ التي توفيت قبل أن تشهد على النجاح الكبير الذي حققته. تحدثت سابقًا عن مراقبتك لها وهي تخيط الفساتين الملونة، وتعتني بالمنزل، وأثر هذه الألوان على فنك لاحقًا. هل تحدثنا قليلًا عن والدتك، عن أول امرأة مؤثرة في حياتك وفنّك؟ هل ما زالت تحضر، سواء بالألوان أو المواضيع؟
شكرًا مناهل على هذا السؤال، أحبُّ مشاركة هذه المشاعر معك، فأنتِ شاهدة على علاقتي بأمي، رحمها الله. أتذكر أول لقاء بيننا في دمشق، كان في وجود أمي، وتعرفين جيدًا العلاقة الخاصة بيني وبينها.
في اختصار، أمي ليست فقط من أنجبتني، هي من علمتني، وأعطتني الحبّ الكافي لأكمل الطريق، هي من عززت طموحي، وعلمتني قيمة المرأة والروح المؤنثة، وحساسية العطاء. أنا اليوم أعيش بنفسها وذكرى رائحتها. أمعني النظر في كل لوحاتي ترين وجهها، في منال وجسدها، في النساء المزارعات في معرض mother earth، وحنانها تحت اللحف والأغطية، كما تجدين حزني على غيابها ينسل إلى لوحاتي رغم الصخب اللوني الذي يحاصر هذا الحزن ويخفيه تمامًا مثل الأيام.
هذه الألوان هي ألوان الخيطان والأقمشة التي استخدمتها أمي، وماكينة خياطتها التي رَبتْني أنا وأخوتي الخمسةُ من عملها عليها، لقد غرست في رأسي، هي ومدينتي السويداء، مخيلة لا تنضب من الألوان، ودعمت هذا الولد الصغير ليستمر في السؤال، وكي يحب الاكتشاف، ورأت فيَّ الفنان قبل أن أراه حتى. ما يعزُ عليَّ أنها لم تحضر تخرجي في الجامعة، ولم تشاركني كثيرًا من الإنجازات واللحظات الجميلة. لا أستطيع القول إنها لم ترَ نجاحي، لأنني ما زلت في منتصف الطريق والبحث، وما زال حلمها غايتي للاستمرار. ما أستطيع قوله إنني نجحتُ إلى اليوم في جعلها تحضر دائمًا، ليس فقط بالألوان والرسم، وإنما في كل اللحظات. وعلى صعيد التجربة الفنية، لا أجزم أني نجحت، فإلى الآن ما زلتُ أبحث.

(*) أثارتني عبارة قلتها في أحد الحوارات "المرأة في السويداء تشتغل لوحة، تحيكها وتعلقها على الحائط، وتدعو جيرانها لتريهم إياها، المرأة ها هنا، تفتتح معرضًا في بيتها، من دون أن تعرف أنها تفعل ذلك". أفهم تمامًا ما تعنيه كوني أيضًا ابنة هذه البيئة، وشاهدة على إبداع النساء العاديات اللاتي يبدعن ولا يدرين أهمية وعظمة ما يقمن به. هل يمكن أن تحدثنا عن مرحلة المراقبة هذه، أو كما سميتها مشاهدة معارض الأمهات، وكيف تسللت إلى أعمالك لاحقًا؟
نعم، لا أنسى هذه اللحظات! كيف تتجمع النساء لرؤية منجز إحداهن، غطاء طاولة، أو بيتٌ للأواني كما يُسمى (بيتٌ للغاز، بيتٌ للصحن، بيتُ المخدة...)، يا إلهي ما أجملها من كلمة أن تسمي عملك الفني بيتًا لشيء ما، في تلك اللحظات كانت عيناي تتحولان إلى عيني صقر، هكذا كنت أشعر، كانتا تتسعان بشدة حينما أرى فستانًا خاطته أمي، أو شرشفًا حاكته إحدى النساء، كيف لهاتين اليدين أن تفعلا هذا!
كنتُ صغيرًا جدًا حينها، لكن كل هذا حرّض مخيلتي ويداي على إبداع شيء مشابه، لا أنسى فخر النساء بإنتاجهن، وعرضه بكامل العفوية. كان بالفعل معرضًا فطريًا يليقُ ببساطتهن وعفويتهن.

(*) لو أردت رسم معرض عن النساء في السويداء، ماذا كنت ستسميه؟
بالفعل، أسميت معرضي الذي تحدث عن نساء السويداء، والنساء عمومًا، "أمنا الأرض"، لأنه جمع بين الأرض والنساء. أما إذا كان المعرض عن نساء السويداء، فسأكتفي بتسميته "نساء السويداء".

(*) قلتَ مرة: "لا تجعلني أبدًا أرسم امرأة تبحث عن اللطيف أو الجمال، فسوف أخيب ظنها على الفور". اليوم باتت معايير الجمال شديدة القسوة على النساء، الشفاه المنفوخة، والعيون المشدودة، والوجه الخالي تمامًا من أي خطوط تقدم في العمر. عمَّ تبحث في وجوه النساء حين ترسمهن؟
ما يحدث في وجوه النساء في هذه الأيام هو عكس الحقيقة، وما أبحث عنه هو الحقيقة، أنا خائفٌ على الوجه البشري من الاستمرار في التزييف.

(*) تصف السويداء بأنها معرضٌ دائمٌ. ما الفوارق بين المدن الثلاث الرئيسية في حياتك لليوم، السويداء، بيروت، وباريس؟
لا أبحث عن فوارق في المدن، إنما أكون دائمًا مهووسًا بالبحث عن الأشياء المشتركة، اكتشفت هذا الآن بعد سؤالك، لقد فكرتُ كثيرًا أنني بطبيعتي أتعامل مع المكان بعفويةٍ كاملة، أرى في أي مكان أزوره ما يشبهني وما أشبهه، بعض الأمكنة مريحة لنا عن غيرها. أظنُّ أن ذلك مرتبط بالثقافة والقرب الجغرافي.




لكل مدينة خصوصيتها، مثلًا السويداء قريبة من قلبي كثيرًا، هي ذاكرتي وطفولتي، حيث العناصر قريبة جدًا مني كأنها جزء لا يمكن نزعه. كل عملي الفني يعتمد تقريبًا على ذاكرتي في السويداء، المجتمع في السويداء قريبٌ جدًا من بعضه البعض، تشعر أن الجميع يعيش مع الجميع، ما زالت هناك حارة، وأهل الحارة، والجيران، وتبادل الوجبات والزيارات.
بيروت هي حريتي، استقلاليتي الأولى في منزل بمفردي، ومنصتي لعرض فنّي وإحساسي، مذهل هنا اهتمام المجتمع بالفن، بيروت مساحة مهمة للفنان من حيث الإلهام، ويومًا عن يوم تغدو أقرب إلى قلبي، أحب مقاهيها، مسرحها، أماكن السهر فيها، وحواراتنا مع الأصحاب باللغة العربية، وبصوت مرتفع من دون خوف، خليطها السكاني، حتى أزماتها تحفّزني.
بيروت قريبة من الشام، يعني بالعامية "فيني شم ريحة الشام وأنا بالأشرفية، أو بالحمرا". لا أشعر في بيروت أنني في مدينة أخرى، أو بلد آخر، أشعر أنني في مساحة معاشة من الأشخاص، فيها كل شيء. لافت جدًا حب اللبنانيين والزائرين لبيروت. في بيروت تجد المجتمع قريبًا من بعضه كما السويداء، لكن ليس في كل الأوقات، فأحيانًا تجدها في منطقة الوسط، أو أقل قليلًا، فمفهوم الحارة ليس موجودًا تمامًا إلّا من حيث إلقاء السلام في الصباح والمساء.
أمّا باريس، فأنا ممتن لها، للكثير من الاهتمام والتقدير الذي منحتني إياه، لكنني أشعر فيها أنني بعيد. بالتأكيد، جغرافيًا، أنا بعيد، ولكن شعور الوحدة يصيبني كثيرًا في باريس. ربما يكون هذا هو الفارق، ففي السويداء أنا في بيتي، وفي بيروت أنا أبعد قليلًا عن بيتي، لكن الهواء واللغة يحميانني، أما في باريس فأنا بعيد حقًا واللغة مختلفة، ما يجعلني أعاني من التعبير عن مشاعري، فلا أتمكن من نقلها كما يجب مع لغة لا أتقنها تمامًا.
في باريس، هنالك فردية في الحياة، لا وجود لمفهوم الحَي، أو الحارة، كلٌّ بحاله وبأصدقائه، أتخيل كم سيكون جميلًا لو رأيت مجموعة من الأولاد يبنون بيوتًا بالوحل في ساحة برج إيڤل، أو مجموعة أخرى من الأولاد يصنعون العربات بالأسلاك المعدنية، أو يدحرجون الدواليب في شارعْ الشانزيليزيه!

(*) لا نسمع كثيرًا عن تجارب فنية أثرت بشكل مباشر في حياة ناس معينين، وخاصة من الفئات الأضعف. رسمت منال الفتاة المصابة بمتلازمة داون، وأثرت في حياتها بشكل إيجابي، فبعد أن كانت مهمشة اجتماعيًا، ولم يكن الناس يعيرونها بالًا، أو يتواصلون معها، وبعد أن أصبحت موضوعًا فنيًا للوحاتك، تحولت إلى شخصية مشهورة، وبات الناس يعاملونها بطريقة مختلفة، وصارت تجيب حين تنادى بمنال: "أنا لست منال، أنا لوحة". أريد أن نتحدث قليلًا عن هذه التجربة، عن المرحلة التي يحمينا فيها الفن بشكل مباشر، ويحمي الموديل بشكل خاص.
أحببت مصطلح "الفن يحمينا"، واسمحي لي أن أتبناه. نعم، الفن يحميني. قلتها كثيرًا، لو لم أرسم لانتحرت عندما ماتت أمي. الفن أيضًا حمى منال، لأنه ببساطة سلّطَ الضوء على الجانب الجميل فيها. استطعنا سويًا أن نغيّر الصورة النمطية والقوالب الجاهزة لمفهوم الجمال، والطبيعي وغير الطبيعي. يملك جميع البشر في داخلهم شيئًا من الحساسية والرقة، حتى الأشرار منهم. وأعتقد أن أهمية الفن هي ملامسة هذا الجانب في داخلنا، فأي بشري قد يشعر بهذا الإحساس الخلاب، سيدمن على التمتع بالجمال والحقيقة والفن. الفن وسيلة حقيقية للتعبير والتأثير، كلما كان الفن حقيقيًا أكثر، كلما كان تأثيريًا أكثر. من الضروري أن يكون الفن حقيقيًا.



في هذا الزمن، ولنكن واقعيين، بعض الناس لديهم أولويات أكثر أهمية من الفن، كالحصول على الخبز مثلًا، لكن الفن ضروري للمجتمعات التي تواجه السلطات والأديان والفكر التهديمي أيضًا، الفن لا يحمي الموديل وحسب، إنما ينسجم مع الموديل ليقدمهُ حقيقًيا ممزوجًا بعاطفة وإحساس الفنان.

(*) تنطلق أعمالك من الانطباعية، وتستلهمها بشكل أساسي من الوحشية، ما الذي يجمعك مع الوحشيين والانطباعيين، سواء في بيئة النشوء، أو حتى في الرؤية الفنية؟
ما يجمعني مع الانطباعية والوحشية هو الرؤية والطبيعة والمواضيع المؤثرة، جميعنا يأخذ من نفس المنبع، ويحلل الضوء بالطريقة المثلى، نحن لم نخلق شيئًا جديدًا، كلٌ منا نقل الحياة إلى سطح اللوحة بطريقته وإبداعه، والشيء الذي يضفي الشبه هو روح الطبيعة والصدق في تصوير المشهد، وطريقة بناء الألوان، أمّا بالنسبة لي، وبعد أن تعرفتُ على فنّهم، وأيقنت تقاطعاتي معهم، أردتُ أن أطور بحثهم وأبدأ بحثي من حيثُ انتهوا، علّني أوفّق في ترجمة إحساسي بحقيقة مطلقة وبصمة شرقية واضحة.

(*) لطالما شغل الماضي والتراث الفنانين والكتاب، بعضهم يدعو إلى قطيعة، وآخرون يرون الماضي أساسًا لأعمال اليوم. كيف تصف علاقتك مع الماضي والحاضر، وكيف عكستها من خلال أعمالك؟
الماضي هو الذاكرة بالنسبة لي، ذاكرتي غنيّة بمفردات حقيقية أكثر من حاضري. أرى نفسي محظوظًا أنّي من مواليد التسعينيات، إذ عشت طفولتي ببساطة الحياة والألعاب المبتكرة من أولاد الحي، وعشت أيضًا مع التكنولوجيا والإنترنت لاحقًا.
لا أستطيع الفصل بين الماضي والحاضر، فكلاهما صنع مني الإنسان الذي تحاورينه اليوم، أمّا التراث فهو القيمة الأساسية، وعلينا فهمه جيدًا، وتحليله ضمن سياقه ووقته. وما يجب علينا فعله في أي عمل الآن هو القيمة المضافة، وإلّا لا تأثير حقيقيًا لأعمالنا. علينا قراءة التاريخ وتحليله وإعادة صياغته بما يتناسب مع مجتمعنا اليوم وتطلعاتنا.

(*) يُلاحظ المطلع على المقدمات التي تكتبها لمعارضك لغة شعرية عالية وحساسية فريدة، وتنشر كذلك في بعض الأحيان على صفحتك الشخصية نصوصًا كذلك، ولأني شاعرة أحب اكتشاف نظرة فنان مثلك إلى الشعر، وهل تعتقد أن هنالك علاقة بين كتابتك الشعر ولوحاتك؟
بالنسبة لي، الشعر متنفس آخر، أكتب ما لا أستطيع رسمه، والعكس صحيح، أعتقد أن اللوحة لا تتحمل المباشرة، أو الكثير من الأدب، فلغتها تشكيلية، ويجب أن تُحترم، وأن أكون واعيًا لتوازنها، فضربة ريشةٍ واحدة قد تخلَّ من توازن اللوحة، وتضفي عليها ثقلًا أنا في غنى عنه.



لذلك أنا في حاجة للتعبير بطريقة ما، أكتب عندما أشعر بالحب، بالشوق، والأكثر عندما أشعر أن الأوطان والمجتمعات في خطر، وكلما شعرت أني قريبٌ من البكاء أكتب، فالشعر والرسم هما ذاكرتي وقلبي. لا أُعرّف عن نفسي كشاعر، أو كاتب، الشعر هو وسيلة للتعبير وحسب، فإن بقي هذا في داخلي، سيثقلني كثيرًا يا صديقتي.

(*) أحب بشكل خاص انتماءك إلى المعذبين والضعفاء، الذي يظهر جليًا في لوحاتك. الناس البسطاء الذي يركبون الشاحنات عائدين من العمل، والنساء في الحقول، لكن ما يلفت حقًا هو التناقض بين ألوان هذه اللوحات الغنية والمشرقة مع حال هؤلاء البشر. لماذا تركز على هذه الألوان الجريئة في رسم المتعبين؟
أنا لا أنتمي إلى المعذبين والضعفاء، أنا من المعذبين والضعفاء، ممن يبحثون عن العدالة، وإن كانت حالي إلى حدٍ ما اليوم جيدة، لكنني أحمل همَّ كل هذه الأوطان المعذبة كما لو أنها سقف بيتي الذي يتسرب الماء منه. أنا لا أختار ألواني، هي موجودة في داخلي، هكذا أرى العناصر والأشكال، هذه الألوان نابعة من عيوني ومخيلتي، لكني اكتشفت مؤخرًا أنني، ومن دون أن أقصد، أُحيط الحزن والشقاء في لوحاتي بالألوان، كثير من الموتى تُزين نعوشهم بالورود والألوان، للحظة ما يصبح النعشُ جذابًا للرسم، وكذلك الحزن يمكن أن يكون محاطًا بالملابس الجميلة والشعر المصفف والأساور اللماعة.

(*) يميل كثير من الفنانين في هذا العصر إلى الأعمال الرقمية، بينما تتعمق أكثر في التعبيرية، وتبحث في مواضيع تثبت أن العمل التعبيري والمعاصر والفكرة البسيطة يمكن أن يتفوقا على تقنيات العصر المتسارع. كيف تتعامل مع التطور التقني والذكاء الاصطناعي، وغيرهما من المجالات التي باتت تلتهم المهن والفنون ومكان الإنسان في الإبداع والخلق؟
أنا ضد الفن الرقمي، ولا أقتنع به. إن المميز في اللوحة أنها تسعى للكمال، وهنا تكمن متعتها، فهي جميلة بأخطائها وهفواتها وإحساس صانعها. كيف لنا أن نقبل عملًا فنّيًا ينجزه حاسوب! لذا أرجو من الحواسيب الابتعاد عن اللوحة التصويرية والعمل النحتي، ولتَتَبرمج كما يحلو لها. أنا أحترم التكنولوجيا، ولكن في مكانها الصحيح، واستثمارها لخدمة الإنسان والبيئة والمناخ الذي أصبح اليوم في خطر كبير، الطب مثلًا والهندسة، لا لإفراغ الحياة من قيمها وحقيقتها وعاطفتها التي هي أساسُ الإبداع. الجميل في الفن أنه خليطٌ بين القلب والعقل واليدين، وفي بعض الأحيان خدشٌ على السطح بواسطة الأظافر يضفي جمالًا أخّاذًا، وليس فقط الريشة، أو سكين الرسم.

(*) ما هي أعمالك المقبلة؟
أنا الآن أنهي التحضير لمعرض كبير أعمل عليه منذ ثلاث سنوات، وسيعرض في غاليري صالح بركات في بيروت في الشهر الأول من عام 2024، وسيكون ختام بحث عملت عليه مؤخرًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.