}

سائد السرساوي: الحروب على غزة أدت لتأثيرات نفسية خطيرة

مليحة مسلماني 8 أكتوبر 2023
حوارات سائد السرساوي: الحروب على غزة أدت لتأثيرات نفسية خطيرة
سائد السرساوي
سائد سرساوي أحد أبرز الناشطين والمتخصصين في مجال الصحة النفسية في غزّة، المنكوبة بويلات الحروب وتبعاتها المستمرة على مختلف المستويات، النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وقد أكسبه العمل في ظل ظروفها القاسية خبرةً عميقة في التعامل مع الاضطرابات النفسية، كاضطرابات ما بعد الصدمة وغيرها، ودرايةً واسعةً ونظرةً عميقة للوضع القائم في غزة، النفسي والاجتماعي. حصل سرساوي، استشاري العلاج النفسي، ورئيس تحرير "مجلة الوئام"، على ماجستير في الصحة النفسية من الجامعة الإسلامية في غزة عام 2014، وشارك في دورات عديدة في مجال الصحة النفسية، من بينها دورتا "العلاج الجماعي" و"إدارة الأزمات". كما قام بالتدريب والإشراف في عدد من البرامج التابعة لمؤسسات مختلفة محلية ودولية، في موضوعات كثيرة، من بينها: الرعاية الذاتية، ومهارات التنشيط والتفريغ النفسي، والإسعافات النفسية الأولية، والعلاج المعرفي السلوكي، وطرق التعامل مع المشكلات النفسية للأطفال.
عمل في عدد من مشاريع الصحة النفسية، من بينها مشروع "الاستجابة الطارئة للاحتياجات النفسية والاجتماعية والحماية لمصابي مسيرات العودة وعائلاتهم"، و"مشروع حماية الطفولة" التابع لليونيسيف. أنجز عددًا من الدراسات في المجال ذاته، وأعدّ كتيّبات عديدة من بينها دليل "المساندة النفسية"، ودليل "آليات حماية المرأة من العنف الأسري". حول الوضع النفسي في غزة بخاصة، وفلسطين بعامة، والطفل والمرأة، والمنظور النفسي للثورات العربية، وحول الندوات التي يقيمها في المجال النفسي، والموسيقى والأحلام من وجهة نفسية، كان معه هذا الحوار:

تنصّلت إسرائيل من مسؤولية قتل الطفل محمد الدرة (أنس عوض) 

(*) بعد أربع حروب شُنّت عليها، كيف توصّف الوضع النفسي للفلسطينيين في غزة، وفي فلسطين بعامة؟ كيف يمكن الإبقاء على التماسك الداخلي للذات الفلسطينية، الفردية والجمعية، في ظل ممارسات الاحتلال المروّعة بين قتل واعتقال، والحرب النفسية المستمرة التي يشنّها على الفلسطينيين؟
يعيش الناس في غزة حالة من الإحباط والقلق نتيجة إنزال الدمار، ليس بحياة الناس فحسب، بل بنتاج الفعل الإنساني ككل. فالحروب المتكررة على غزة كانت وما زالت سياسة ممنهجة لتبديد وإهدار كل موارد الشعب الفلسطيني، بهدف تحطيم القدرات الواعية للشعب على المدى الطويل. أدت هذه الحروب إلى تأثيرات نفسية خطيرة، ناهيك عن تردّي الأوضاع الحياتية؛ من انقطاع للكهرباء والمياه، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والتي نرى آثارها في ازدياد حالات الانتحار وهجرة الشباب. هذه التأثيرات لم تكن لتتحقّق لولا تدمير الثقة وتأجيج التوتر الاجتماعي بين أفراد المجتمع الفلسطيني، بفعل الانقسام الداخلي الحاد، بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. كلاهما همّه الرئيسي محصور بالسلطة، بينما مصالح الناس، وقضاياهم الإنسانية والوطنية، لا تعنيهم كثيرًا. كل هذه الأمور مجتمعة فاقمت من شعور المواطنين بالحيرة والعجز والخذلان، وهي من أهم مسببات الضغوط والاضطرابات النفسية، التي وصلت إلى حدود لا تطاق.

(*) منذ بداية الاحتلال، على مدار عقود، عانى الطفل الفلسطيني من ممارسات الاحتلال. في رأيك، كيف أثّر ذلك على الشخصية والمجتمع الفلسطينيين، وكيف يمكن توفير حماية نفسية للطفل الفلسطيني اليوم ومستقبلًا في ظل هذا الواقع القاسي؟ يصف بعضهم الطفل الفلسطيني كونه "بطلًا"، كما قيل في "أطفال الحجارة" في الانتفاضة الأولى، والتي بالفعل كانت شريحة كبيرة من مُشعِليها ونشطائها من الأطفال والفتية... هل الطفل الفلسطيني بطل/ مقاوِم أم ضحيّة؟
لا يمكن قياس الآثار النفسية للاحتلال على الشخصية والمجتمع الفلسطينييْن على المدى القريب فحسب، وإنما على المدى البعيد أيضًا؛ عاش الطفل الفلسطيني في غزة تجارب قاسية، أثناء الحروب المتكررة التي انتهكت جميع حقوقه في الحياة. وقد أثبتت عدد من الدراسات أن هنالك علاقة ذات ارتباط طردي بين الحروب/ والعنف، والإصابة باضطرابات نفسية بعد التعرض للحدث مباشرة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، والتي تظهر أعراضه مباشرة، وخلال فترة زمنية متباينة، تتراوح بين أيام وسنين بعد انتهاء الحدث.
وقد أُجريت عدد من الدراسات المحلية بهدف فهم وتحليل الآثار النفسية على الفلسطينيين، وشملت هذه الدراسات أطفالًا وبالغين تعرّضوا لحوادث صادمة، وأكّدت هذه الدراسات على الآثار النفسية والسلوكية الهائلة التي أصابت كثيرًا من الأفراد من بالغين وأطفال، مثل: التوتر، والقلق، والتجنّب، والعدوانية، والاضطرابات النفس ـ جسمية، وعدم القدرة على التركيز. إلا أن المقلق حقًا هو تشكّل الشخصية المضطربة، وذلك إذا لم يتم التدخّل بشكل سريع وفعّال. ومن مؤشرات هذه الشخصية المضطربة: عدم الثبات الانفعالي، ما يؤدي إلى تطرّف المشاعر والأفكار، وعدم التأقلم مع المحيط الأسري والاجتماعي، والحدّة، وعدم التسامح مع الآخر، والأنانية، واختزال الفكر في الحياة الآنيّة والحفاظ على البقاء.




لذا، يجب تعزيز نظام وطني للحماية قادر على تطبيق تدابير الحماية الوقائية. وهذا يستلزم إعادة النظر في برامج وأنظمة الصحة النفسية على المستوى الرسمي وغير الرسمي، وتمكين القوى العاملة في مجال الصحة النفسية والرعاية الاجتماعية، بأنظمة مهنية في إدارة الحالة وطرق العلاج والوقاية الملائمة للطفل. كما يجب تعزير التماسك والتكامل بين كل من الطابع النفسي العلاجي والطابع الطبي الدوائي، أي التكامل القائم على المصلحة الفضلى للطفل، وليس لمصلحة مُنتَفَعة من المنهج الطبي الدوائي، فهذا الأخير أصبح كارثة حقيقية تهدّد استقرار الصحة النفسية العامة. ويجب كذلك توسيع قاعدة المعلومات المستندة إلى دلائل حول مواطِن الضعف والاضطرابات التي تواجه الأطفال، بما يخدم تصميم برامج صحة نفسية تستجيب لحاجات الأطفال التي تم تحديدها.
أما عن الطفل الفلسطيني: هل هو بطل أم ضحية؟ فأعتقد أن رمزية الضحية لا تتعارض مع رمزية البطل. لقد رأي العالم بأجمعه، في أواخر سبتمبر/ أيلول عام 2000، استشهاد الطفل محمد الدرة في قطاع غزة، وهو يحاول الاختباء وراء والده الذي كان يصرخ ويحاول صدّ الرصاص بيديه. ليتحول محمد الدرة إلى رمز لانتفاضة الأقصى. كما شاهد العالم، بعد شهر من استشهاد الدرة، الطفل فارس عودة، وهو يتحدّى بالحجارة دبّابة "الميركافاه" المحصّنة ضد القذائف الصاروخية. ليصبح فارس عودة رمزًا يجمع بين الضحية والبطل في آن واحد. إضافة إلى ذلك، كان من تداعيات قيام مستوطنين يهود بخطف وحرق الطفل محمد أبو خضير في منطقة دير ياسين في القدس اندلاع حرب غزة الثالثة في صيف عام 2014. وكذلك حَرْق عائلة دوابشة في قرية دوما قرب نابلس على يد مستوطنين، كان من نتائجه اندلاع "هبّة القدس". المعنى الذي يجب التأكيد عليه أن جميع ثقافات العالم، بما فيها الثقافة الفلسطينية، لا ترى تناقضًا بين رمزية الضحية والبطل عندما يكون موضوع الحديث هو الأوطان.

(*) انتقالًا الى السياق العربي الأوسع، شهدت الدول العربية خلال السنوات الماضية ثورات وانتفاضات على نظم الديكتاتورية؛ هل يمكن اعتبار الثورة بذاتها عملية تعافي من آثار خلّفتها عقود القهر والتسّلط؟ وبما أن الثورات العربية، وبشكل عام، لم تكمل طريقها كما لم تحقق معظم أهدافها، هل فشلت عملية التعافي تلك، أقصد على صعيد الذات العربية الداخلية، خاصة بعدما عانته الشعوب العربية من قمع شديد لتلك الثورات؟
ثورات الشعوب علاماتٌ فارقة في تاريخها. وهذه الثورات التي شهدتها الدول العربية، والتي لم تحقق أهدافها، استتبعتها دراسات كثيرة في السياسة والاجتماع وعلم النفس، لتحليل ومعرفة ما جرى فيها، وكيف ولماذا حدثت. وحتى لا أطيل، أكتفي بالإشارة إلى أن لهذه الثورات مجموعة من الخصائص المميزة؛ وأهمها: أنها تتم في ظل نظام ديكتاتوري بالأساس، ولكنه يقبل بالتعددية الصورية، من أجل تجميل صورته أمام العالم، حتى لا يبدو كنظام مستبدّ. ومن الطبيعي، من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية، أن تتكون ضد هذا النظام وسياساته حالة رفض شعبية عامة، ما سيتبعه بالضرورة شعور الناس بالحاجة إلى تغيير هذا النظام.
الدول الاستعمارية تعلم ذلك! أذكر أنه عام 1999، وكنت حينها طالبًا في جامعة بير زيت، قدّم القنصل الأميركي في القدس ورقة عمل خلال مؤتمر قال فيها: "عندنا في "البنتاغون" جهازان: أحدهما مسؤول عن صناعة الأحداث في العالم، والآخر مسؤول عن استغلال الأحداث في العالم". وأعتقد أن ثورات الربيع العربي كانت تدور في فلك هذين الجهازين، ولهذا لم تحقق أهدافها؛ بل عزّز فشلُها من تشقّقات الذات العربية وانهياراتها العميقة، داخل حياة حلمت بها ولم تكتمل إلا بما هو عبثي، لتتكشّف صورةٌ تُعرّي بشاعة الواقع العربي. ولكن الأخبار الجيدة هنا أن هذا العبث يمكن أن يُسهم في بناء الذات العربية من جديد؛ إنها فلسفة للحياة على نحو خاص، تزهر معها قدراتنا على معرفة وفهم طبيعة ما نعيشه وما نرفضه معًا. هنا بالضبط يمكن للذات العربية المتشظّية ترميم انكساراتها الداخلية، من خلال استعادة اللحظات الناقصة لترميمها، وتحويلها من أوقات عصيبة، ومعاناة لا تطاق، إلى ما هو مطلوب لحياة عادلة.

(*) تلجأ الشعوب في المراحل التاريخية الحرجة إلى الدين باعتباره هوية أيضًا يمكن الاستناد إليها في ظل الضياع السياسي والاقتصادي، لكن كثيرًا ما يكون هذا اللجوء تطرّفيًا يطاول كل مناحي الحياة؛ على سبيل المثال شهدنا مؤخرًا جدلًا بل عراكًا كلاميًا و"معارك إفتائية" حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، الذي اعتادت الشعوب العربية الاحتفال به منذ قرون. في رأيك، كيف تفسّر، ومن وجهة علم النفس الجمعي، الجنوح نحو التطرف الديني لدى فئات ليست بالقليلة في المجتمعات العربية؟
إن الضياع السياسي والاقتصادي، وعجز الأنظمة العربية الحاكمة، وهزيمتها، وإخفاقاتها المدوّية في التنمية لكافة مناحي الحياة، قادها إلى استغلال الدين من أجل إضفاء الشرعية على حكمها، وهو ما أدى إلى ظهور حركات دينية متشدّدة وجدت تعاطفًا من قبل الشعوب العربية، التي لم تعد الدولة مرجعية لها. لذا رأينا، وسنرى خلال السنوات المقبلة، مزيدًا من مظاهر استغلال الدين بهدف الوصول إلى السلطة، حيث يتلاعب اتباع الفكر المتطرف بالدين، وقد انتشروا بين الناس، الأمر الذي أدّى إلى نشر التطرف والتعصّب الديني والانغلاق في المجتمعات العربية.




يرى المتطرفون كلَّ المخالفين لهم خارجين عن الدين، ما أعطاهم قوة تأثير كاملة على الناس؛ فأصبح الشكل بديلًا من المضمون، والقبح بديلًا من الجمال، والقتل والترويع بديلًا من الحب والخير، وبالتالي الكآبة والحزن بديلًا من السعادة والفرح، حتى لو كان هذا الفرح احتفالًا بمولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لماذا لا يفرحون لجمال هذا اليوم؟ لأن الدين عندهم لم يعد ذا قيمة إنسانية كافية للفرح والجمال. ما هذا إلا انهيار ثقافي، نجد آثاره في ارتفاع أعداد الحالات في العيادات النفسية، وتزايد حالات الانتحار، إذ يعاني كثير من الناس اليوم من مشكلات اجتماعية ونفسية خطيرة، نتيجة هذا الفكر الشاذّ، الذي يشبه التهاب الزائدة الدودية، التي يجب إزالتها.

(*) ما حال المرأة في ظل الوضع العربي القائم، كيف تحلل النظرة الجمعية إليها اليوم، خاصة مع تزايد جرائم العنف والقتل الموجّهة ضدها؟ كيف يمكن تحرير المرأة من الصورة النمطية التي بقيت أسيرة لها في الوعي الجمعي؟ في رأيك، هل تتبنّى المجتمعات الغربية نظرة أكثر احترامًا للمرأة؟
يبقى وضع المرأة العربية غاية في الخصوصية، لما تتعرض له من قهر وتحرش وإهمال واستغلال، في مجتمع صارخ الذكورية، ما يؤثر بوضوح على الوضع النفسي للمرأة، ويترك ندبًا وجروحًا مفتوحة، من أهمها: الإحباط، والتوتر، والصراع، والإحساس بالفشل، والخوف، والغضب تجاه نفسها والواقع المؤلم. هذا الواقع يزداد صعوبة في حالة المرأة الفلسطينية التي تواجه تحدّيات الاحتلال، والذي يعيق بدوره تطوّر المجتمع الفلسطيني.
والمرأة، باعتبارها جزءًا من هذا المجتمع، فهي ضمن القوى الاجتماعية التي تناضل ضد الاحتلال. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تكون مساوية للرجل؟ يتطرق جاك لاكان إلى العوائق التي تعترض طريق النقاشات النفس ـ تحليلية في ما يخص المرأة مقابل الرجل، ويقارن المرأة مع "الحقيقة"، لأن "الحقيقة" تعتمد على من يملك الخطاب اللغوي، ويسيطر عليه. وبذلك فإن لاكان حرّر المرأة من النزعة البيولوجية الذكورية المسيطرة في نظرية فرويد، ضمن رؤية جذبت المؤسسات النسوية، التي كانت تقف ضد نظرة فرويد السلبية للنساء، إذ قدّمهن بصورة "رجال ناقصين" يعانين من عقدة التدنّي الجسدي مقابل الرجل.
وقد تجاوزت النسوية المعاصرة في الغرب سابقاتها من الحركات النسوية، والمتعلقة أساسًا بالحقوق الاقتصادية والسياسية، لتتحوّل المرأة في الوقت الراهن، إلى ما يشبه مصنعًا للهويات: امرأة ذات طبيعة فوضوية استعراضية، أو امرأة خيالية ذات بعد هوليوودي خارق، أو امرأة بهوية مركبة ذات دلالات جنسية متنوعة، أي أنها "تجاوزت" الهوية الجنسية الفاصلة بين الرجل والمرأة، ليصبح الجميع "متساويًا"، بحيث لا يتمايز الرجال عن النساء. وبذلك، أصبح في الإمكان، في المجتمعات الغربية، صناعة هويات جنسية جديدة، أو إخفاء هويات جنسية، لدرجة أننا أصبحنا لا نعرف مع من نتكلم؟ هل هو رجل، أو امرأة، أو كلاهما! وهذا هو الجحيم بالضبط، الذي أفقد المرأة كثيرًا من الاحترام الذي كانت تسعى إليه في بحثها عن الحرية.
وإذا كان هذا وضع المرأة في الغرب، فإن وضع المرأة العربية أيضًا ليس سهلًا، حيث يتبنّى الوعي الاجتماعي صورةً "مثالية" لها أقرب إلى الجنون، ليس لها صلة بواقع المرأة المرير. والحديث عن مساواة المرأة بالرجل في المجتمع العربي أمر أقرب إلى المستحيل، لانعدام المبادئ الشاملة التي يمكن الالتجاء إليها في حلّ هذه المسائل. وكأن هذه الازدواجية التي تجمع بين المثالية وعكسها، أو بين الحب والخوف/ أو الكراهية للمرأة، أو بين احترامها وتبنّي نظرة دونية تجاهها، مرتبطة بالمكبوت اللاشعوري الذي هو ميدان عمل التحليل النفسي. ويحتاج تغيير هذه الصورة النمطية إلى شجاعة وتحدٍّ للأفكار الضلاليّة المتطرفة، التي تبرّر دومًا قمع حرية المرأة بالخوف على قيم المجتمع والأجيال القادمة، وهي فكرة خاطئة تمتد عميقًا في الوعي التاريخي، باعتبار المرأة السبب وراء آلام البشرية، حين أغوت آدم بأكل التفاحة، ما أدّى إلى السقوط من الجنة إلى الأرض.

(*) أقمت مؤخرًا ندوات عدة في ما يمكن تسميته "بثقافة الصحة النفسية". ماذا يمكن أن تضيف هذه الندوات إلى الثقافة الاجتماعية في ما يتعلق بمجال الصحة النفسية؟
الندوات هي محاولة حقيقية لنشر ثقافة التحليل النفسي بين طلاب وخريجي علم النفس في الجامعات الفلسطينية، وهي تتم برعاية وتنسيق "منتدى تطوير تعليم الشباب". وتأتي في ظل الممارسات المتطرفة، والتي تهدف إلى تشويه التحليل النفسي، وتقديمه للطلبة بشكل مغلوط، ما أدى إلى تراجع حاد في الصحة النفسية، تحت وطأة الفوضى والتطرف الفكري. ومن هنا، فإننا نحاول تقديم تجربة ثقافية واعية، وإعادة صياغة المشهد الثقافي والمهني، نظريًا وعِياديًا، من خلال ممارسات الاختصاصيين النفسيين، لدعم الأنشطة الثقافية بعامة والنفسية بخاصة.
تستدعي الحاجة هذا الدعم والتدخل النفسي العلاجي والثقافي سريعًا، لما يعانيه المجتمع الفلسطيني من ضغوط معيشية صعبة من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك التيارات المتطرفة التي تتفنّن في إفقار مجتمعنا الفلسطيني ثقافيًا ومعرفيًا وعلميًا. ومن هذا الواقع الحالي، تنبع أهمية التحليل النفسي اللاكاني للكلمة ومعانيها، وضرورة الاستماع لتحقيق الفهم والتقدم. حيث يتم في هذه الندوات مشاركة حالات دراسية واقعية ومناقشتها، ما جعلها ندوات مثمرة وفعّالة في تطوير أداء الطلبة والمختصّين ثقافيًا ومعرفيًا.

(*) أقمت مؤخرًا ندوة تناولت فيها التحليل النفسي للموسيقى، باعتبارها إحدى الأدوات الرمزية للبشرية التي تقوم غالبًا بتوليد مشاعر متشابهة لدى الأفراد المنتمين لبيئة اجتماعية ثقافية واحدة. هل لك أن تخبرنا بشيء من التفصيل حول هذا الموضوع، في ظل فوضى الأغاني المنتشرة، والتي قد يستخدم بعضها مفردات لا أخلاقية، أو يحتوي على إيحاءات جنسية، ومنها كذلك ما يقوم بعملية تكثيف شديدة لمشاعر الحزن، أو الفرح، أو الغضب، أو غيرها من المشاعر؟
تعود أصول الاهتمام بالموسيقى إلى فترات الحضارة العربية، حيث يُنسب إلى الطبيب أبو بكر الرازي أنه أنشأ طرقًا متقدمة للعلاج النفسي عن طريق استعمال الموسيقى. وفي العصر الحديث، طورت مدرسة التحليل النفسي تفسيرات لتأثير الموسيقى على البشر؛ "أرني قائمتك الموسيقية أقل لك من أنت... إنها دليل واضح على شخصيتك وهوايتك". لقد سعى التحليل النفسي إلى دراسة علاقة الإنسان بالموسيقى، وأسبابِ تفضيلاتنا لبعض أشكال الموسيقى وابتعادنا عن غيرها، والعواملِ التي تحدد اختياراتنا، وطرقِ تأثيرها على مشاعر الإنسان وأفكاره.
حتى في الممارسات الاجتماعية والسياسية والدينية، تكون الموسيقى حاضرة لتؤثر على الجموع. وفي مقابل معادلة: موسيقى واعية تنتج شعبًا واعيًا، هنالك معادلة: موسيقى هابطة لا أخلاقية تنتج شعبًا هابطًا لا أخلاقيًا. هذه المعادلة مستعملة في كل دول العالم هذه الأيام. وبالبحث والتدقيق توصلنا إلى هذا الاستنتاج. ولو نظرنا إلى المنحنى الزمني لتدهور الوضع العربي، بالمقارنة مع تدهور الموسيقى العربية، نجد أن هنالك علاقة طردية بينهما؛ كلما تدهورت الموسيقى، تدهور المجتمع، وأصبح استغلاله والتلاعب به أمرًا سهلًا، لمن يريد العبث بالمجتمعات وطمس هويتها، وإعطائها صفة التبعية الرخيصة في كل المجالات.
حاول جاك لاكان تحليل الموسيقى بالنظر إليها كمرآة تعكس حقيقة الفكر في مرحلة ما؛ ففي أوروبا، مثلًا، ومنذ القرن السادس عشر، مثّل كل من اللحن والانسجام والإيقاع، ثالوثًا يقينيًا للفكر المسيحي. ولهذا بدأ فريديريك نيتشه اتجاهًا مضادًا لهذا الفكر، انتمى إليه جاك لاكان وبعض الفلاسفة والموسيقيين، ومنهم المؤلف المعاصر سلفاتوري شارينو، الذي رأى أن ثالوث الموسيقى من لحن وانسجام وإيقاع لم يعد مناسبًا، وقام بهدمه ضمن قطيعة كاملة مع الماضي، لكي يكتب موسيقى للمستقبل. وربما هذا بالضبط ما نحن في حاجة إليه، في ظل فوضى الأغاني المنتشرة في العالم العربي.

(*) من الندوات التي أقمتها مؤخرًا أيضًا ندوة تفسير "الأحلام"، حيث تناولتَ ما قدّمه جاك لاكان من مراجعة أَلْسنية لكتاب فرويد الشهير "تفسير الأحلام"، وتوظيف الأحلام لأساليب لغوية من الاستعارة والكناية ضمن جدليّة معقدة بين الظاهر والباطن. ما العلاقة بين الأحلام واللغة؟ وإلى أين وصلت نظريات علم النفس المعاصرة في تفسير الأحلام؟
بعد أكثر من مئة عام، ما زالت نظرية التحليل النفسي للأحلام هي الممارسة الأكثر استعمالًا وجاذبية بين المشتغلين بالعلاج النفسي؛ فالحلم هو الطريق "الذهبي" إلى اللاشعور، كما يقول مؤسس التحليل النفسي فرويد، وهو تحقيق لرغبة مكبوتة. ومن هنا يكون الحلم مدخلنا إلى عالم الأعماق وخبايا النفس، لا سيما أن للحلم لغة خاصة، ورموزًا عديدة لها دلالاتها. ومن تجربتنا وتجارب المشتغلين في التحليل النفسي، نقول إن لغة الحلم هي اللاشعور، وهي بالنسبة لفرويد لغة مصوّرة أشبه بالكتابة المصرية القديمة.
وعند جاك لاكان، تضرب الكلمة جذورها في أعماق النفس البشرية؛ وبالتالي فإن العلم الذي يبحث في اللاشعور هو علم اللسانيات. فاللاشعور يتكون كلغة ويتجلّى في مظاهرها، ويؤكد لاكان أن الكلمة هي الوسيط الوحيد من أجل التوغل داخل أعماق اللاشعور؛ أي أن الحلم عبارة عن صيغ لغوية تحمل دلالات عميقة للتعبير عن رغبات الإنسان وحاجاته. ويبين لاكان أن مادة الحلم الباطنية تحدد محتواه الظاهري في أبسط تفاصيله تقريبًا، وهو لا يستشف أي تفصيل من هذه التفاصيل من فكرة باطنية معزولة، وإنما يستشف من أفكار متعددة يجري اقتراضها من مستودع مشترك. وبذلك فإن دلالة الحلم تبرز من خلال جدل الظاهر والباطن، بحيث تفيض كل جملة من الجملة التي تسبقها، وتسلّم الراية إلى تلك التي تليها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.