}

عائشة عدنان المحمود: لا كتابة دونما رسالة تؤطّر دورها

باسم سليمان 2 ديسمبر 2023
حوارات عائشة عدنان المحمود: لا كتابة دونما رسالة تؤطّر دورها
عائشة المحمود: الكتابة كانت قدرًا انطبع على جبيني
عائشة عدنان المحمود كاتبة كويتية من الجيل الجديد، حجزت لها مكانًا مهمًا في السرد الكويتي والعربي، حيث تشتغل بأناة وتأمل على مشروعها الإبداعي، الذي تريده كاشفًا لتلك المناطق المسكوت عنها، عبر خورازمية من النور والظل، فتخرج إبداعاتها مرآةً، لا تعكس فقط الواقع، بل تشتبك معه. صدر لها عدد من الكتب؛ رواية "عباءة غنيمة"، و"في حضرة فوجي سان ـ رحلة الصيف والشتاء"، وأخرى قيد الطبع: مجموعة قصصية بعنوان "عابرون"، وفي أدب الرحلات: "على متن الطلقة"، وفي النقد: "خلف الصورة أمام الكاميرا". وهي بالإضافة إلى الاشتغال الإبداعي، أسند إليها منصب الأمين المساعد العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، الذي سيحتفل بمرور خمسين عامًا على تشكيله، فبين عزلة الكتابة والإنشغال بالشأن العام تمسك العصا من المنتصف، فكان لنا وقفة معها في هذا اللقاء.



(*) يُقال، ابتدأ السرد العربي مع شهرزاد، فلم تكن حكايتها إلّا دفعًا للموت على يد مسرور السياف وإنقاذ بنات جنسها من جنون شهريار. وبناءً على هذا، ما الدافع الأصيل الذي نحا بعائشة المحمود إلى أن تصبح كاتبة؟
لعلّ السؤال الذي نبدأ فيه لعبة التساؤلات هاهنا، لهو الأصعب على الإطلاق. لا أدري تحديدًا ما الذي يدفع بكاتب ما لأن يقترف إثم الكتابة، ولأن يُمسك بمقبض مبضعًا حادًا، يُدرك يقينًا أنّه سيدميه. ولا أدري من أين نبع هذا الاحساس الموغل في غرابته، وكيف نتأ في عالمي الصغير، فأنا لم أنشأ في بيت تزيّن إحدى حوائطه مكتبة كبرى، تنوء بعبء التثاقل وأرق الكتابة، كسائر الكُتاب الذين تواثبت الكلمات باكرًا إلى أحضانهم كقطط صغيرة تموء محرضةً إياهم على الكتابة.
فلم تأتني الكتابة كانبعاث لازم يرافق الوجود الأول، أو كطيف مُتعملق يحرّضني على ابتداع لغته الخاصة دافعًا بصاحبه بكلتا يديه صوب الهاوية المأهولة بالمخاوف. ولم يأخذني أحد ما من يدي الصغيرة المرتعشة نحو طاولة واطئة، ليطلب مني أن أنقش حروفًا تشي بي. على العكس كنت فتاة كامنة في قوقعتها الخاصة، البعيدة عن الكلمات، طفلة عليلة بصدر متعب مُثقل بأزيزه، كسولة في كل شيء، ولا تجيد من العربية أبجدياتها، إلّا أنّني لاحقًا عندما تخلّق في داخلي الإدراك أصبحت واحدة أخرى.
اليوم، لو سُئلت هذا السؤال، سأقول بأنّ الكتابة كانت قدرًا انطبع على جبيني في لحظات تخلّقي الأولى ليصبح وسمًا يلازمني، لا أملك أن أنفك عنه. هو فعل وجود يرافقني كتميمة حظّ نفثتها عرافة عجوز في يد أمي، عندما كانت تكشف لها عن مستقبلها وهي صبية جميلة تسير في طرقات بيروت قائلة لها: ستتزوجين برجل اسمه عدنان وتنجبين بنتًا ستصبح كاتبة، وستدس لك الضجر والتقلّبات بين طيات ثيابها الملوّنة كلّ صباح.




اليوم، أصبحت الكتابة بالنسبة لي لعبة أدمنتها، وسبيلًا أقطعه في الصباحات الحائرة، لأتعافى من نهش الوحوش التي تتربّص بي وتُدميني، دربًا أهرب إليه كلّما أضنتني الحياة وأرهقني دبيب أهلها فوق وعيي المهزوم. صرت أجد قوّتي فيها، وإن كانت قوة واهية يُضخّمها لي عقلي المسكون بأخيلة الأميرات وقصص العشق الهُلامية.

(*) من روايتك الأولى "وطن مزوّر؛ يوميات البن والحناء" ومن ثمّ "عباءة غنيمة"، نجد أن عماد الرواية يقوم على شخصية ذكورية من عمر بن سالم بن سيف العاطف في رواية "وطن مزوّر"، إلى فيصل الغازي في رواية "عباءة غنيمة"، في حين تظلّ الشخصيات النسائية على الرغم من أهمّيتها، ليست في واجهة السرد، فهل يأتي ذلك من انعكاس للواقع العربي، بأنّ المرأة لم تستطع بعد أن تنتزع تاريخها الخاص من ظلال الرجل، على الرغم من الأضواء الكاشفة التي تسلّط عليها؟
هذا سؤال أتجنّبه، أهرب منه، حتى أنّني أتحاشى أن ينبثق كحديث هامس بيني وبين ذاتي. ما أصعب أن تعترف بما تحاول الهرب منه دومًا، أن تجده بغتة مكتوبًا أمامك، وليس في يدك حيلة سوى أن تستجيب لتلك التدافعات المتصاعدة جلبةً والتياعًا، وأن تضطر مُرغمًا على الإعلان عن ذاك الهمس الدفين، وأن تدفع به ليصبح تمظهرًا لازمًا ينطلق كصيحة في وادٍ يردد صداك ووقع أنفاسك وخطاك اللامرغوبة،  فكثيرًا ما تساءلت لِم لا أكتب عن بنات جنسي، فأنا أقدر على سبر أغوار هواجسهن، وعلى تفكيك عقد الخوف الرابضة على هيئة أكداس رمل متراكمة خلف أبواب الغواية الملغزة، وأن أجلو هذا الصهد الذي يرين على حكاياتنا وكأنّها لامرئية، ونصف معاشة وربع محكية، فأنا أقرب إلى ما يعشنه، أنا جزء أصيل من كل ما يمكن أن تشعر به امرأة نبتت في رمل الخليج الحار، وانبثقت كسدرة مُحملة بالمخاوف.
وأصدقك القول، بأنّني حاولت بصدق أن أكتب كامرأة، وأن أنبش المستور عن هواجسنا وفزعنا المتواري، لكنّني مع كل مرّة كنت أفعل فيها ذلك، أجدني مرغمة أت أعود إلى الرجل، أكتبه ليكون هو البطل، لا هي! لا أدري إن كنت أفعل ذلك هربًا من تلك المنطقة الهشّة التي أدرك أنّني سأسقط فيها، أم أنّني إذ أفعل ذلك، أعترف ضمنًا أنّ الرجل هو سيد الحكاية، وهو المهيمن على تفاصيل الواقع، والمتسيّد لمشهد الحكي، مهما تظاهرنا بغير ذلك.
قد تكون تلك هي الحقيقة الباترة، وهي ما أهرب منه، فمهما تعالت الأصوات المرهفة، وتجلّت المرأة في وقع السرد، فإنّ الرجل يبقى سيد تلك الصورة المكسورة، ولربما كما قلت، بأنّنا كنساء، لا نزال نسكن في ظلال المشهد، نتوارى خلف أكتاف الرجل في انتظار انبثاق بقعة ضوء تصلح لنا/ وقد لا تأتي أبدًا.
وهنا، أعترف بأّنّني في كل ما أكتبه أبحث عن رجل ما، رجل بمواصفات بطل، يجيد قيادة السرد صوب ناصية متينة، ومتكئ حصين يجعله حقيق بالحضور، ربما في أبطالي كنت أبحث عن رجلي، لا أعلم!
إلّا أنّه عليَّ أن أعترف، على الرغم من العلاقة الثرّة المهيضة التي تجمعني بأبطالي أثناء الكتابة، إذ يلازمني طيفهم، صوتهم، وحتى روائحهم، إلا أنّني بعد قليل عندما يقودني السرد صوب درب لم أخطط له، أكتشف أنّني ما أحببتهم أبدًا، إذ أرى فيهم ضعفًا لا يليق بالرجال، لعلّني كنت أقول عبر ما أكتب؛ أنا أبحث عن رجل لا يشبهكم، فهل هو موجود؟

(*) تأتي جغرافية مجموعتك القصصية "آخر إنذار" تقريبًا بين جدران بيت العائلة، فهل كان المقصد منها أن تجلسي الروابط العائلة على أريكة فرويد؟
هذا تمامًا ما أردته، لطالما كانت العلاقات الأسرية في عالمنا العربي، تحديدًا في منطقتي، التي أعرفها جيدًا، وأحفظ جغرافيتها، وأتقن الاندساس في زوايا تفاصيلها المعتمة، عالمًا معقدًا، ونسيجًا مشتبكًا ومتشابكًا، فضاء مزدحمًا بالهواجس، التي يجب أن تُلفظ، أن تُحكى، وأن يراها الآخرون بكل زخمها، وزحامها وانثناءتها، فلربما إن حكيناها، ولو بشكل سردي، سنتخلص من ثقلها ووطأتها، فعلينا الاعتراف أنّنا كلّنا مثقلون بحيواتنا على اتساعها؛ من مكامن الهشاشة الأولى التي التقمنها صغارًا، ونحن نتلقط الطعام من أيْدي أمهاتنا، أو من تلك الدروب المتعرّجة التي سلكناها، ونحن نتعثر، ونسقط، ونرسم خرائط الإدراك البازغ خدوشًا وندبًا بارزة على أجسادنا الغضّة. كان لا بدّ من تلك المساحة المنسكبة ان تُشرع وتُستجلب.
وربما أنّها لم تجئ بالقدر المتسع الذي أردت أن تجيء به، إلّا أنّها كانت نقطة مزمومة أشرعت بقعًا مخاتلة من ضوء ضئيل، تسلّلت منه شمسًا مناورة سكنت رابعة الكتابة. كانت تلك تجربة أولى، مساحة لتنفس لازم، فرصة انسكاب صقيلة، لم تلوّثها بعد تهذّبات الحسابات، ونقاط ارتخائها، التي كلّما كبرنا، كلّما تأصّلت وتجذّرت فينا رغمًا عنّا. حقيقة ما زلت إلى اليوم أبحث عن نقطة التجلّي الأولى تلك، عن التي كانت تكتب هناك، دونما حساب ومن دون تحوّطات.

(*) لديك في أدب الرحلة إصدارات عدّة، وخاصة كتاب: "في حضرة السيد فوجي سان... مشاهدات سائحة في اليابان" حيث الذهاب لمطلع الشمس، وشعر الهايكو أشبه بضربة سيف الساموراي. هل كان اختيارك لليابان المختلفة بالمطلق عن محيطك الثقافي غايته اكتشاف الآخر القصي، كي نصل إلى الآخر القريب؟
اليابان لم تكن اختيارًا، بقدر ما كانت دهشة قابعة في ركن قصي من العالم ينتظرني أن أكتشفها، أن أشبع فضولي الطفولي البازغ كفضول القطط التي تركض بتهور صوب ما لا تعرفه بغية اكتشافه. رحلة جاءت للمرة الأولى مشفوعة بتساؤل: لِم لا؟ ليتحوّل هذا الدوار اللذيذ إلى ولع دائم، فأشق غبار الزمن صوب تلك المنطقة المتراخية على وقع انثيال المياه على ضفاف المحيط الصاخب بوشيش أمواجه الهاذية بحكايات جيرانها، وبالدخان الرمادي المُنبعث من براكينها النشطة، وباهتزازات أرضها التي أشبعتني فزعًا وشهيقًا، حتى صرت آلفها، وأعيش معها وألتقطها كبهجة قائلة لنفسي: ها هي ستجيء بعد قليل رافعة مؤشرات الترقّب إلى أقصاها، زمن ثمّ تهوي بها من جديد إلى عمق السكون، وفي ذلك متعة جيّاشة.
أردت أن أقول عبر ذاك الكتاب المغامر المجنون أنّ هنالك طفلة صغيرة بضفائر محلولة وابتسامة شاسعة وركبتين لوّثتهما الجروح، لم يرها أحد من قبل. في هذا الكتاب تحديدًا شيء ما يشبهني، شيء استحثيت تفاصيله على النهوض والتبدّي، وقد أكون أفلحت أو لم أفلح، لا أعلم صدقًا.




ما أتذوّقه واضحًا، وضافيًا، وجارحًا كنصل سامق؛ هو نشوة الانبعاث وألقه المدوّخ الرجراج يوم ولد هذا النص على يدي، إلى درجة صرت أتوق إلى انبعاث هذه المشاعر الهاجعة من جديد إلى بزوغها. حقيقة، حاولت إعادة استيلاد الفكرة، أن أجرب القفز الطفولي الحرّ بين دفتي كتاب جديد، وأغازل شمسًا ناعسة هنا، وأداعب قمرًا متواريًا هناك، منتعلة أخفاف الساموراي، وغارقه في أبخرة ينابيع جبل فوجي، لكنّني لم أفلح في إعادة صياغة المشهد. ولا علم إن كانت ستزايلني من جديد غواية الانكتاب صخبًا والتذاذًا أم لا!

(*) هنالك ميل في روايتيك إلى التاريخ، فهل المقصد منه إنشاء مدونة متمّمة للمسكوت عنه في التاريخ الرسمي، بما إنّ علم التاريخ يهمل تاريخ الأفراد لصالح الدول، في حين الرواية تاريخ الفرد؟
التاريخ أبدًا شريك محوري في صياغة المشهد. لا يمكن أن نحيا كأفراد دونما تاريخ جمعي يعبر من فوقنا، يلقننا دروسه الخاصة، وما علينا إلّا أن نقبل تلك الدروس الباهظة الكلفة، أن نتلقاها بانصياع الطلبة الواقفين باحترام أمام هيبة معلمهم الكبير. في الدرب الموصل إلى تاريخ الأمم تسقط كثير من التواريخ الشخصية والخاصة؛ وذاك ليس لضعفها وتهالكها، على العكس، في بعض الأحيان هي من الجبروت بمكان أن تقف ندًا لند أمام سطوة التاريخ واستبداد كلمته. أؤمن تمامًا أن لا كتابة، أيًّا كان طيفها، دونما رسالة تؤطّر دورها، تمنحه تلك الحقوق المستلبة التي تسقطها الأمم من يديها في مواضع كثيرة. قد أمارس الغلو والتكثيف وأنا أمنح أبطالي تواريخ ثقيلة تنوء بها أكتافهم، إلا أنّني إذ أفعل إنّما أحرّر نفسي أولًا من عبء السكوت، فأنا أؤمن أنّ دور الكتابة هو البوح، هو النبش عميقًا في حفر وادعة، يظنّ أصحابها خاطئين أنّها حفظت عهودهم المطمورة فيها للأبد، إلّا أنّني أحاول النجاة من هذه المقصلة عبر البحث عن أزقة جديدة تصلح للتواري. ربما لن يكون التاريخ شريكًا متهدّلًا في روايتي القادمة، فما أبحث عنه في القادم هو أكثر عمقًا، وربما أكثر وجعًا وارتياعًا.

(*) صوت المرأة الكاتبة في العالم العربي ملوّث بالصوت السردي الذكوري، فهل تسعى عائشة المحمود إلى كتابة سرد نسوي بحثًا عن غرفة تخصّ المرء وحده؟
حقيقة، لست مأخوذة بفكرة جنوسة الأدب في انحيازات السرد صوب ناصية صوت ما. أنا أرى أن الأدب سيف ماضٍ يقطع الواقع ويشرّحه، يمضي عميقًا في جسده، مدميًا إياه حينًا، ومداويًا له أحيانًا، لا يعنيني أي صوت ينطلق ليعلن عن تلك الصيحة. لا أرى أنّ الصوت الذكوري هو الطاغي، وإن كان في الأمر شيء من الحقيقة، إلّا أنّني أرى أن السرد إنْ انثال مجدولًا، مفعمًا بالحقيقة، سينفي عن نفسه فكرة انتمائه إلى جنس كاتبه.

(*) بعد إصدارات عدة لك، وأخرى على الطريق، ما هو محتوى الكتاب المشتهى الذي لن تكتبيه؟
كل كتاب لم أكتبه بعد هو مشروع نص مُشتهى أرقبه على بُعد سردي هشّ، تفصله عنّي مسافة وعي صغيرة. أدرك يقينًا أنّني أمتلك أن أقطعها، إن شئت، لكنّني لا أفعل! تتأبّد تلك المسافة كغبش رابض يلوّث المسافة الفاصلة بين ضفتي الكتابة، كما قلت سابقًا، كلما كبرنا، كلّما تأصّلت في ذواتنا تلك الأشواك من المخاوف والالتباسات، التي يصعب أن ننزعها من أرواحنا، مهما اجتهدنا. أنا أدرك أنّ هنالك عملًا ترتسم كل خرائطه في رأسي كأحاج ماتعة، إلّا أنّ أصابعي عاصية، عجفاء ترفض أن تسكب تلك القصاصات في قوالب يقرأها الآخرون. عملي الذي لن يجيء هو عمل يختبئ في درج صغير أسفل ذاكرتي، لا يملك مفتاحه أحد حتى أنا، فصانع الدرج أضاع مفتاحه، وأضاعني معه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.