}

هند جودة: الكتابة في الحرب تشبه إرسال نداء استغاثة

مليحة مسلماني 29 ديسمبر 2023
حوارات هند جودة: الكتابة في الحرب تشبه إرسال نداء استغاثة
ولدت هند جودة عام 1983 في مخيم البريج
"لا سكّر في المدينة!
أريد أن أخبز كعكةً ولا سكّر في المدينة
لا ابتسامات تهطل في الوجوه العابرة،
لا شرفات تطلّ على الأحلام،
والنوافذ لم تعد إلى أماكنها منذ آخر الحروب"
هند جودة

هذا حوار أُجرِي في زمن الحرب، مع شاعرةٍ صاغت الحروب المتكرّرة، وغزّةُ البحرِ والنوارسِ ــ تجربتَها؛ أن يكون من الممكن التواصل معها، أن يصحب التواصل قلقُ الفقدِ، أن يكون فيسبوك نافذة وحيدة للاطمئنان عليها، وعلى أصدقاء من غزة، منهم أدباء ومبدعون، تحوّلت صفحاتهم إلى بيوت عزاء، ثم التردد في التعبير عن هذا القلق عبر مقدمة هذا الحوار، والخجل من فكرة طلب الحوار منها، والتفكير مرات ومرات في الأسئلة التي قد تُطرح عليها: هل تُسأَل شاعرة، تحت القصف وداخل الحصار، عن الشعر وقضاياه، أم عن الخبز؟ وهل هنالك فصل بينهما؟! ألا تتعاظم الأسئلة الوجودية الكبرى مع الحضور الثقيل للموت والخراب؟ أتُسأل عن الشعر الموزون والحرّ، أم عن جنون حرب استعمارٍية هوجاء خرجت عن كل الموازين والأعراف، لاغتيال قصيدةِ مقاومةٍ وحرية، كتبها شعبٌ مستعمَر بالدم... كل هذا وأكثر، ما قد يعنيه حوار يُجرى مع شاعرة في زمن الحرب.
ولدت هند جودة عام 1983 في مخيم البريج، حاملةً ذاكرة النكبة، تشكّلت شخصيتها الشعرية عبر حكايات جدتها في الطفولة، وبتأثير من والدها الذي رغّبها في الكتابة، وكانت له هو كذلك محاولات فيها. صدرت لها مجموعتان شعريتان، وكتبت سيناريوهات لعدد من الأفلام الوثائقية، وعملت كذلك في مجال الإعداد الإذاعي. كما عملت مديرة لتحرير مجلة "28" الأدبية، التي كانت تصدر من غزة منذ عام 2016 حتى عام 2020.
استمرت هند جودة في كتابة نصوص وقصائد تحت القصف، واقتبست قصائد من ديوانها الشعري الثاني "لا سكّر في المدينة"، لتشاركها على صفحتها على فيسبوك خلال الحرب الأخيرة، وليلقيها فنانون وأدباء عرب. كما لم ينجُ ديوانها الأول "دائمًا يرحل أحد" الصادر في عمّان (2013) من الحصار، فهو "طفلها الذي ولد غريبًا"، كما تقول، إذ لم يكن في الإمكان إدخال نسخ منه إلى غزة لتحتفي به كاتبته. حول غزة، التي يُمنع دخول الخبز والشعر إليها، وحول الشعر والحرب، كان هذا الحوار.



(*) في قصيدة كتبتِها مؤخرًا هي عبارة عن محاولة شعرية للإجابة عن سؤال "ماذا يعني أن تكون شاعرًا في زمن الحرب؟"، تقولين إنه يعني "أن تكثر من الاعتذار... للأشجار... للعصافير... للبيوت... للأطفال...". ثم يصبح سؤال القصيدة "ماذا يعني أن تكون آمنًا في زمن الحرب؟" فتجيبين "يعني أن تخجل... من ابتسامتك من دفئك... من ثيابك النظيفة...". وتختمين بقولك: "يا إلهي... لا أريد أن أكون شاعرة في زمن الحرب". لعله عبء كبير أن تكوني شاعرة في زمن الحرب، أم أن الحرب تصيّر كل شيء عبئًا كبيرًا، بما في ذلك الشعر؟
الحرب تجسيد كامل للقسوة، وتدمير كامل للرحمة. ربما لم أشهد كل حروب غزة، لأنني تزوجت وعشت عشر سنوات مقيمة في المملكة العربية السعودية قبل أن نقرر العودة، لذلك فأنا أملك تجربة مكّنتني من التعرف على معنى العيش بسلام والسفر بحرية. كما عرفت الحنينَ والرغبة في العودة، واختلاطَ المشاعر الرهيب في الاختيار بين مكان آمن ليس وطني، وبين مكان خطر يُعد العيش فيه تحدّيًا مستمرًا مثل غزة. لقد شهدتُ أغلب الحروب، إذًا، وفي كل مرة كنت أسمع الناس يقولون إن هذه الحرب هي الأصعب، وربما في الحرب الأخيرة، عاش الناس أصعب وأقسى الظروف حقًا، وعانوا أشد المعاناة من فقد الأمن والشعور بالخطر المباشر على الحياة في كل متر من غزة، فمن ترك منزله في المناطق المشتعلة كان أمام خيارين، إما القلق المستمر من فقد البيت بسبب القصف الجنوني، وخوض مغامرة النجاة بنفسه، أو الموت تحت ركامه.




كانت الخيارات ضيقة حقًا، وقد انتقل كثيرون من هذا الضيق إلى ضيق آخر، في بيوت الأهل، أو الأصدقاء البعيدين عن المناطق الأكثر سخونة واستهدافًا، أو في مدارس الأونروا، وصالات الأفراح في المناطق البعيدة عن البحر، وهي قليلة، والمستشفيات، وغيرها. ومع أنه لا مكان آمنًا بشكل حقيقي في غزة، وقد ثبت ذلك فعلًا، إلا أن هنالك مناطق محدودة تعد أقل تعرضًا للقصف، لأنها، بقياسات الجغرافيا في غزة، جاءت في منتصف المذبحة، أي في منتصف القطاع (جنوب وادي غزة)، ولم تنته الحرب لنعرف إلى أي حد ستسلم بقية غزة في "المناطق الآمنة" ـ كما يدّعي الاحتلال ـ من المسح والإبادة.
لقد اشتركت غزة في كل مناطقها بالتجويع، والتعطيش، وغياب الكهرباء، والقطع المستمر والمتعمّد للاتصالات، وبإصرار قاهر ولئيم. أسمع نفسي كيف أكرر ما تقوله نشرات الأخبار، ولكن تخيّلي أن ما خلف النشرات هو التفاصيل، فبعدما انتهت البضائع في المحلات التجارية، بعد أسابيع قليلة من بدء الحرب، من الأرفف والمخازن، بدأت المأساة الغذائية الفعلية. وقد كان جيش الاحتلال ينفّذ التجويع بقصدية أربكت الجميع، فقد قُصفت وأُحرقت المخابز وكبرى المحلات التجارية التي كان يمكن أن يتبضّع منها الناس لأشهر طويلة. ولكن كما قلت، كان الهدف خلق حالة من الجوع وفقد الإمدادات.
ومع إغلاق المعابر، ومنع دخول التموينات للتجار، توقفت حركة الشراء، وبدأ انتظار المساعدات، التي كانت وما زالت تدخل مناطق الجنوب، وبدرجة أقل في المنطقة الوسطى، حيث بيت العائلة الذي يضم 80 نازحًا من مناطق مختلفة من أماكن غزة الحدودية، وغيرها. أما تدبير الطعام، في كل يوم بعد نصف الشهر الأول من هذه الحرب، فهو تحدّ مؤلم، ولكنه ينجح في النهاية، فالمساعدات تصل من وكالة الغوث لكل البيوت تقريبًا في مناطق الجنوب والوسط، مع منع وصولها إلى مدينة غزة والشمال، هذا على شحّ المسموح له بالدخول، قياسًا بالوضع الرهيب الذي نتج عن قطع الاستيراد وتدمير المخازن، وقد تجدين من يبيع الفائض من تلك المساعدات على قلّتها، ليوفروا بعض النقد لإكمال باقي احتياجاتهم. وهكذا تسير عجلة الجوع وتتعثر فوق الأمعاء، لتمس أساسّ الحاجات البشرية الطبيعية حسب تصنيف هرم ماسلو، الذي يصبح مثيرًا للحزن في هذه الحرب وفي كل حرب.

(*) لعل تجارب قاسية وصادمة كالحروب تحتاج الى زمن حتى يستطيع الشاعر استيعابها وإعادة صياغتها شعريًا، لكن هند جودة، وأمثالها من شعراء غزة، ربما ليس لديهم هذا "الرفاه"، إذ لا تكاد عملية إعادة صياغةِ تجربةِ حربٍ سابقة، حتى تُشنّ حرب أخرى. ولعل الواقع الاستثنائي في غزة، على مدار سنوات طوال، شكّل شعراء استثنائيين فيها، شعراء قادرين على الكتابة تحت القصف.
الكتابة في الحرب تشبه إرسال نداء الاستغاثة، وفيها تحدٍّ وإعلانُ وفاةٍ لأحد، أو نجاةٌ في الوقت نفسه. هنالك من يبكي بالكلام، وآخرون يرثون الشهداء، وبعضهم يغضب بشكل علنيّ من وقوعه في المحرقة. وهنالك من يرثي بيته وأحلامه. وألاحظ مؤخرًا أن الغالبية أصبحت صامتة، أو تصمت لفترات طويلة، ليس بسبب قطع الاتصال فقط، ولكن لأن الشعور باللاجدوى يزداد مع ازدياد وقت الحرب. بمعنى آخر، ومع استمرار القتل، ومشاهد التدمير، والضحايا التي تخلع القلب، يصبح النشر عبر المنصات هو حالة عويل جماعي، تسكت قليلًا، لكنها تتواصل بعد كل مشهد جديد يأكل القلب، ويشكّل حالة من القهر والصدمة. ومع شكوى أهل غزة من عدم قدرتهم على البكاء، كما يستحق المشهد، فإنني أخشى عليهم حقًا من ذلك الأمر بالذات.
أذكر في تصعيد عام 2021، والذي استمر لثلاثة أيام فقط، كيف أنها انتهت، ولكنها خلّفت أثرًا مزعجًا، فقد كنّا نمر في حالة من عدم التركيز وقلة الانتباه، كانت واضحة جدًا في سلوك الناس. كما نلاحظ كيف أثرت وتؤثر كل تلك الانفجارات على حاسّة السمع؛ فتجد نفسك لا تسمع بشكل جيد، كأن أذنك تحميك، أو كأنها وضعت حاجزًا نفسيًا بينك وبين العالم. ولكنك ستقفز كملسوع من أي باب يطرق بقوة، ثم تمسك صدرك وأنت تقول لنفسك: أوف يا إلهي... ظننتها عادت! وبالطبع ما إن تتلاشى تلك الآثار المنهكة، ويظن أهل غزة أنهم تعافوا، حتى تعود الحروب لتعيدهم إلى نقطة الصفر. وفي هذه الحرب ما زالت آلات القتل تصنع حُفَرًا عميقة في الأرض والنفس، لا أعرف كيف سيتم مداواتها وترميمها.

(*) استذكرتِ حكايات جدّتك عن جرائم شهدَتهْا خلال النكبة، وكيف أنهم كانوا يلتقطون بقايا أشلائهم عن أشجار الجمّيز والصبر، وهي الجرائم ذاتها التي ترتُكب اليوم في غزة؛ كشاعرة من أجيال عرفت النكبة بالرواية، ما الفرق بين المعرفة بالنكبة عبر سماعها روايةً، وبين المعرفة بها شَهادةً؟
تعدّ قصة النكبة نقطة البداية في كل تعريف بما حدث؛ لماذا نعيش في مكان يسمى المخيم، ولماذا هنالك جنود في الشوارع، وشبان يلقون الحجارة، مواجهات وقنابل غاز، شعارات على الجدران، ركض، شبان يختبئون في المنزل، جنود يلاحقونهم، باب البيت يطرق بأحذية الجنود، ثم رصاص، كثير من أصوات الرصاص، صوت بعربية مكسّرة يعلن منع تجوّل، وأسرى، كثير من الأسرى، وهدم بيوت أهل الأسرى، ولماذا هنالك شهداء وجنازات وهتافات، وإضراب عن الدراسة، أو خروج من المدرسة في مسيرات تهتف ضد الاحتلال. لقد عشت كل تلك التفاصيل بوعي طفلة، ولكني كنت أسمع باهتمام رواية جدتي، وأحاول أن أحفظ وصفها لبيتها في القرية "أسدود"، لأنني، كما تقول، ربما سأعود ذات يوم!
كان هذا أساس التربية الوطنية، وغرس البلاد البعيدة في القلب الأقرب لجدتي ـ قلبِ الطفلة التي تنام في حضنها كل ليلة؛ لقد رأيت المذبحة بعينيها، واشتقت كشوقها، وتخيّلت من خلال وصفها، أشفقت عليها مما اختبرتْ، وأحببت شعبي الذي تضامن وتكافل واستقوى، وما زال يقف على أرضه، رغم أنه كان عليه أن يرحل، حسبما تخيّل المجرمون، بعد كل ما مورس بحقه من فظائع، ليحفظ حياته من الآلام المباشرة للاحتلال بعد النكبة. لكن هذا الشعب ما زال يقاوم، ويثير غضب وجنون آلة القتل، حين يتمسك بأعلى ما يحتاجه الإنسان، وهو تحقيق الذات والحرية والكرامة، ونجده يقول للاحتلال بكل الوسائل: لن تستريح في أرضي ما دمتُ حيًا.
ولذلك يسعى المحتل بكل الوسائل أيضًا إلى القضاء عليه، سواء بالقتل، أو بالحصار، أو بالقتل المعنوي، كهدم البيوت، ووضع الحواجز في الضفة، واستمرار أسر الآلاف من الشباب الفلسطيني، وهي قصة آلام أخرى تتحرك بشكل أقل جلبة، ولكنها تسرق أعمار الآلاف وصحتهم النفسية، وتسمّم بالتالي حياة آلاف العائلات.




هو احتلال مستمر إذًا منذ 75 عامًا، يقلّ ليكون أسرًا، ويزداد ليصير حربًا نشهدها بكل بشاعتها، وربما نعيش لنكون رواة ذات يوم لأحفاد سيأتون، ونرجو أن لا نورثهم المأساة، وألا يشهدوا ما نشهد من وحشية وظلم.

(*) لم تغب المرأة، كما هي الحال في ديوانيك السابقين، عن عين قلب الشاعرة في مشهدية الحرب، قلتِ "من يعيدُ لنساء غزة ضجرهنّ العادي؟!"؛ في قصيدة قصيرة تحوي تساؤلات عن تفاصيل حياة يومية سُلبت منهن. ولعل من أسوأ ما في الحرب الرؤية إليها عبر الأرقام، كأعداد الضحايا والمباني المدمرة، ولا يُكتَرَث لتفاصيل حياة دوّنتِها في هذه القصيدة، تفقدها النساء والأطفال، وكل الناس في غزة، على مدار أكثر من شهرين، وكأن بوصلة الشاعر/ة تشير إلى ما خلف سطور الأرقام وأخبار القصف والدمار.
في الحرب، لا أستطيع أن أنفصل عن نفسي كامرأة، ولا عن بقية النساء، وعمّا نحرم منه من حياة عادية، وربما روتينية أعرف، بالخبرة المتكررة للحروب، أن الحرب تسلبها، وأنها تخرّب سيرة الحياة اليومية لكل إنسان يعيشها. أنا لا أستطيع أن أتجاهل الشعر إذا تدفّق داخلي، فتكون الكتابة فعلًا للنجاة اللحظية، أو التخفّف من ثقل الأحداث، وربما الهرب.
على سبيل المثال، أجدني أريد الكتابة، وأنا أتابع نظرات الأطفال وخوفهم، عن رغبتي في حمايتهم من أقل الأذى، وهو ـ للسخرية ـ صوت الانفجارات المرعب. لذا، نجعلهم ينامون مبكرًا، وفي أبعد مكان ممكن عن النوافذ. وكثير من أطفال غزة ينامون وأيديهم على آذانهم، ولا نعرف أثر هذه التجارب المفزعة على صحتهم النفسية والجسدية، والتي يسبب بعضها ارتجافًا في الأحشاء الداخلية للجسد، وهو ما تحدثه القنابل الارتجاجية! وهنالك المطالبات الكثيرة بالحلوى المقطوعة الآن في غزة، بسبب قفل المعابر حتى إشعار آخر.
ذلك ما تحدثت عنه بالطريقة التي وجدت نفسي أتقنها، فكان نص "لا سكّر في المدينة"، لأنها طريقتي في التعبير عن الحرب كما الحب. وفي كتابة الأدب، هنالك انتقال من لغة الأرقام والأمتار والخرائط، إلى أنسنة ما وراءها، من خوف، وحلم ورجاء، ويأس، أو أمل. وفي ذلك ربما أهرب من البكاء إلى الكلام، ومن القسوة إلى الخيال، إنها محاولة نجاة أخرى بالروح عبر صياغة الأمنيات، أو تجسيد الخوف والإحباط، ربما لإبعاد نفسي عن الأثر الجارح، نزوحًا داخليًا هذه المرة، إلى نشوة الكتابة، التي تنتهي بسرعة مع تعالي أصوات القذائف، وتلاحُق الأخبار عن الموت والهدم والجرحى واليتامى الجدد.

(*) قرأ فنانون وأدباء عرب قصائد لك خلال العدوان الأخير. قد يُقرأ هذا الفعل على أنه تضامنيّ، أو شكل من الاحتجاج والتذكير بغزة عبر شعرائها المحاصرين، كيف نظرتِ أنت إلى مبادراتهم تلك؟
كانت مبادرة بعنوان "هنا غزة"، وما زالت تنقل ما يحدث في غزة، عبر قراءة نصوص كتّابها على لسان شخصيات معروفة وممثلين عرب، وعبر ترجمة ذلك إلى الإنكليزية، في حراك ملهم، ويدفئ القلب. هذا يجعلنا نشعر بأننا لسنا وحدنا، وأن صوت غزة الإنساني يصل عن طريق النص الأدبي غير المباشر، وبعيدًا عن جمود الأخبار، بمعنى لم تترك المبادرة الأمر لنشرات الأخبار فقط لتسمع عن غزة ومنها، بل حملت قلوب الغزّيين عبر كلماتهم إلى منصّات مختلفة، لتجعلها مؤثرة بشكل عميق. هي رسالة بأن غزة ليست وحدها، وأن صوت كتّابها يصل أبعد من صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه فرصة لشكرهم، وللدعوة لاستمرار هذا النوع من التضامن الملهِم والعابر للحدود.

(*) ماذا عن التجربة الشعرية القادمة... كيف تراها هند جودة في مخيّلتها؟
أمسك بمجموعتي الثالثة منذ عامين، وكلما هممت بنشرها ترددت، أعتقد أنها استكمال لطريقتي في قول الأشياء، أرجو أن تأتي اللحظة الجميلة لميلادها في ظروف مناسبة. ربما سأضيف لها نصوص الحرب الأخيرة، وأدفع بها للنشر بعد انتهاء هذه الحرب، كنوع من محاولة الولادة من جديد في كتاب جديد. لقد فقدت مكتبتي بعد قصف البناية التي كنت أملك فيها شقة جميلة، بتفاصيل رائعة أتجاهل تذكّرها، وأذكّر نفسي أن الروح أغلى، وأن كل شيء سيكون قابلًا لإعادة البناء ما دمنا أحياء. كانت البناية تتكون من 14 طابقًا، وفي تاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جاءت الصورة باستواء البناية بالأرض، لتبدو مجرد كومة أحجار.
أهرب، إذًا، من فكرة فقد البيت والمقتنيات وإطلالة شرفتي بشجيراتها الصغيرة، ومن كل تلك اللوحات التي كانت تزيّن البيت والممر، وكل ما يمكن تخيله من حياة كانت هناك، وأحزن على سريري وملابسي التي في الخزانة، وأتخيل أنها تئنّ، أو ربما ماتت الآن. ربما أكثر ما أتمنى أن أجده، بعد وقف الحرب، وبدء رفع الأنقاض، هو ألبومات الصور، وأثواب جدتي التي كنت أحتفظ بها كذكرى عزيزة. وكم يبدو ملهمًا تخيّل ولادة كتاب جديد يستطيع إسعادي قليلًا بعد هذه الخسارة وأنا أحاول البدء من جديد. كل ما أرجوه حقًا الآن أن تتوقف المذبحة بحق الناس والبيوت، وأن يبقى أهلي بخير، والباقين ممن أحبهم. ستكون هنالك حلول للدمار، سنبتكر طرقنا، كما اعتدنا على تحدّي الخراب، سنستطيع فعلها إذا نجونا وثبتنا في البلاد، وسنعيد إعمار غزة، وإعادة الألوان إلى الوجوه والبيوت والشوارع، بعدما كساها الرماد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.