}

حسن الجوني: لا توجد طبيعة ميتة وأخبّئ الحزن باللون

دارين حوماني دارين حوماني 9 أغسطس 2023

"العمر لوحة... قل لي بماذا تحلم أقل لك من أنت... يا فن حرّرني من سجن أحلامي... الفن زهرة الألم... خذ من الحياة قبل أن تأخذ الحياة منك... هنا أعيش، أنا والله أيضًا... أنظر إلى اللوحة تراني... الوعي العظيم يؤدي إلى قلق عظيم... يا وعي أرجوك كن صديقي، يعتزّ الفنان بإبداعه والوحش بأنيابه..."- هي عبارات سنجدها على باب مرسم الفنان التشكيلي اللبناني حسن الجوني (1942)، والمرسم هو بيت من بيوت بيروت التراثية. عبارات كتبها الجوني بروحه الشعرية تشكّل مقدمة لدخول هذا المكان المنسوب إلى الزمن، هي أيضًا مقدمة للولوج إلى عالم حسن الجوني حيث "اللوحة ثقافة" و"أوتو بورتريه مثلما القصيدة أوتو بورتريه". فنان يشتغل على التراجيديا الإنسانية، رسم بيروت ومبانيها وناسها، صوّر الحزن الإنساني والكدح البشري تشكيليًا. كل لوحة تشكّل فكرة لا تخطئ طريقها في تصوير الوجود. ثمة تأمل ذهني في أعمال الجوني تشير إلى خصوصية تحيط بهذا الفنان الذي يملك أسلوبًا متفرّدًا وخطوطًا لونية ستدرك مباشرة عند رؤيتها أنها تنتمي لعالم حسن الجوني والذي يحزن على رحيل أصدقائه الأدباء والفنانين تباعًا.
درس الجوني الفنون في بيروت ثم حصل على رتبة أستاذ بالرسم والتصوير من الأكاديمية الملكية العليا المركزية للفنون الجميلة - سان فرنانديز في مدريد... أقام عشرات المعارض حول العالم وحاز على العديد من الجوائز، وسنجد من لوحاته في متاحف عدد من دول العالم منها البرازيل وعمان والكويت. في مرسمه حيث يقيم الزمن تمامًا، كان لنا معه هذا الحوار:    

 

(*) حدّثنا عن علاقتك بالرسم، كيف بدأ هذا الشغف وصولًا إلى سفرك للدراسة في إسبانيا؟

البداية كانت بإيعاز من أستاذ الرسم بالابتدائية، كنتُ في العاشرة من عمري حين رسمت لوحة وسمّيتها "رجال حول النار"، كنت لا أزال طالبًا بـ"الكلية العاملية". لم يصدّق أستاذي أنني تمكّنت من أن أرسم هذا التأليف البشري الإنساني وأن أجمع عددًا من الأشخاص حول النار مع انعكاسات ضوء الجمر عليهم. استغرب وطلب مني أن أرسم خلال تواجدي بالصف، ورسمت، فقال لي: "من الآن ولاحقًا، أي رسم ترسمه سنعرضه على واجهة الكلية العاملية الزجاجية"، وكانت عبارة عن معرض صغير يراه كل طالب عند دخوله وخروجه من الكلية العاملية. يومها أحد أساتذتي، وكان لاحقًا سفيرًا للبنان بأكثر من بلد، سمّاني "الفنان الصغير". هذا الشعور دفعني إلى أن أستبدل الفروض المنزلية برسوم. تعوّد أساتذتي على ذلك، ومنهم الشاعر اللبناني بالفرنسية صلاح ستيتية، إذ كان عندما يصل صباحًا يقول لي "أرني الفرض"، وكان يقصد "أرني الرسمة". أخذ الرسم الحيّز الأكبر من اهتمامي، كما أنه بالموازاة أخذت القراءة الحيّز الكبير، فصرتُ، رغم الطفولة، بالموازاة بين القراءة المكثّفة وما بين الرسم. وصار حسن الجوني يمشي بين مناخين، القراءة والرسم والتلوين. مع الوقت، صرت أشعر أن براءة الطفولة كلها تغيّرت عندي، وكل طيش الطفولة والميل للّعب والتسلية البريئة لم تكن موجودة بحياتي، لأني إذا ما لم أكن أقرأ كنت أرسم، وإذا لم أرسم كنت أقرأ. تعرّفت على الأدب العربي وعلى الأدب الفرنسي من خلال ما تُرجم من كتب ومن خلال دراستي في المدرسة. إنما الشعر العربي، والأدب العربي بشكل عام، كان يؤثّر فيّ بشكل كبير، خاصة بالمراحل الدراسية الأولى، جبران خليل جبران، مصطفى لطفي المنفلوطي، مارون عبود، أحمد شوقي، إلياس أبو شبكة وغيرهم. وكان من حظي، بحكم تردّدي على المكتبات، أن ألتقي شخصيًا بهم، وكانوا كبارًا في السن، وكنت في الرابعة عشرة من عمري، أراهم يتحاورون في المكتبة، وغالبًا ما كنتُ ألتقي بأمين نخلة، ومارون عبود، وتوفيق يوسف عواد الذي أصبح فيما بعد صديقًا وزميلًا بالمركز التربوي للبحوث والإنماء. إلى أن دخلت إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، انحزتُ كليًا للرسم، وكانت الدراسة لمدة ثلاث سنوات على أيدي فنانين لبنانيين وأجانب، ولا زلت أحتفظ بتذكارات جميلة معهم ومع الرفاق الذين كانوا معي، ومعظمهم توفوا. أنهيت دراسة الفنون، ولكن شعرت أن الفن خارج حدود لبنان، وأن لبنان هو جزء من هذا الكّل العظيم "أوروبا"، فسافرت إلى إسبانيا، وكان بلدًا تكاليفه أقل من باريس، احتاجت مدريد إلى 150 ليرة شهريًا فيما كانت الدراسة في فرنسا تحتاج 250 ليرة شهريًا. لم يكن عندي منحة وكان العوز المادي ببيتنا لا يتحمّل هذا المبلغ. أخذت الباخرة إلى برشلونة، وقدّمت امتحانات الدخول في فالنسيا، وكنتُ بين 38 تلميذًا نجحوا من أصل 462 طالبًا تقدّموا لامتحان الدخول. حالفني الحظ بالنجاح. للوهلة الأولى وقفت بمتحف فالنسيا للفنون الجميلة، لا أكتم أنني عندما دخلت للمتحف شعرت أني أدخل لأرى لوحتي، كان عندي هذا الشعور أن لوحتي تنتظرني، ولكني لما واجهت أول لوحة، شعرت أني أصغُر وأصغُر وهذه اللوحة تكبر وتكبر، وكانت لوحة للفنان الفالنسي ألبرتو مونيوف دوغرين، وهي عبارة عن صراع الذئاب على الثلج، كانت لوحة بغاية التأثير التراجيدي، ويومها بدأت أشعر أني أمسكت بحجمي الثقافي والتواصلي مع الفن، وقلت أنه ينبغي عليّ أن أعزل كل ما تعلّمته بالأكاديمية اللبنانية، وأبدأ من جديد، ليس ترميمًا، إعادة بناء لتكويني الفني. فوجئت أن أكاديمية سان فرنانديز الملكية العليا للفنون الجميلة علّم فيها فرانشيسكو غويا ودرس فيها بيكاسو وسلفادور دالي وكبار فناني العصر، هذا دفعني لأشعر بمسؤولية أكبر مما جعلني أكون أول الحاضرين وآخر المغادرين من الأكاديمية إلى أن أنهيت دراستي. ببساطة العمق أقول لك، لغاية اليوم كلما دخلت إلى مرسمي أشعر أني عدت طالبًا إلى الأكاديمة الملكية بالرغم من مرور كل هذه السنين، كانت تغسل روحي من وسخ الأيام، وأشعر أني حامل لقبي من هناك لهنا بكل محبة، لأن إسبانيا علّمتني كيف أعرف أن أشعر وأرى وأرسم. 

من أعمال الفنان


(*) خلال رسمك الآن، هل تشعر بتأثيرات أحد الفنانين العالميين الذين اقتربت منهم أكثر خلال دراستك في إسبانيا؟

فرانشيسكو غويا كان له الأثر الأكبر على لوحاتي.

(*) ولكن أعمال غويا سوداوية، فيما لوحاتك ممتلئة بالألوان.

غويا يحمل سوداوية ولكنه شعر بالإنسانية في عمقها. أنا ولدتُ في بيت ممتلئ بالفقر، وممتلئ بعاطفة أب تراجع عن العمل مبكرًا مما جعلني أفتش عن عمل في النهار وأدرس بالليل، وكنتُ أشعر بالكآبة عندما أراه يبكي عائدًا خالي الوفاض من أي مؤونة لنا، ما جعل عندي إحساسًا كما عرفته لاحقًا حيال كلمتين للرسول محمد "قاتل الله الفقر، يدني من الكفر" والإمام علي "لو تمثّل لي الفقر رجلًا لجلدت به الأرض"، فصرت ميالًا إلى كل فنان يشتغل على التراجيديا الإنسانية لأن خارج الإنسانية لا شيء.

(*) المتأمل في لوحاتك، ورغم أنها تنطوي على الكثير من النوستالجيا الحزينة إلا أن هذا الامتلاء بالألوان يعطي شعورًا بالفرح، وتختار لها الواقعية التعبيرية، كيف تجد اللون لفكرتك وهل فكرتك تأتي بأسلوبها معها؟

اللوحة مثل أي خزانة مفتوحة أمام شخص يريد الخروج، حسب المناسبة، عندما تكون الفكرة كئيبة، يصير اللون الفاتح مبعدًا، وتحضر الألوان الداكنة. اللوحة هي التي تفتش على وعائها الخارجي، وعلى زيّها، ولكن يجب أن تتواجد هارمونية اللون، أن يكون التناسق اللوني موجودًا، التداخل بين لون ولون وبين مساحة ومساحة، لأن اللوحة هي المرئي الوحيد ذو زمن واحد، القصيدة زمن، المسرحية زمن، الأوبرا زمن، هؤلاء أزمنة، بينما اللوحة تنظرين إليها فترين زمنًا واحدًا لذلك يجب أن ترتدي رداءها.

أنا رجل شرقي مولود ببلد، الشمس بالكاد تغيب فيه لتعود، والضوء ممتلئ باللون، أملك حيوية في داخلي، وجداني ممتلئ بحيوية عصيّة على الموت، عصية على الاكتئاب بالمعنى الدرامي أو المرضي.

بيروت كانت تعني لي هذه المدينة الجميلة لأنني كنت أراقبها من زقاق البلاط لرأس النبع من الكلية العاملية، في خمسينيات القرن الماضي، وكان ممنوعًا عليّ أن أركب القطار أو الترامواي، لأني كنتُ الأكبر في البيت، ويومها كان منتشرًا دهس الناس. كان هذا السير اليومي يجعلني أرى بيروت وهي تستيقظ صباحًا، وبعد الظهر وهي تسترخي. كانت بيروت خارجة من الحكمين العثماني والفرنسي، وتحاول تشكيل نفسها في تلك الفترة، وكانت الشمس تلوّنها عصرًا، ولا زالت ألوان تلك الشمس البيروتية محفوظة في وجداني. لذلك عندما أذهب للدراما، كأن أحدًا يغلّف دمعته بابتسامة، حتى ترتاح هذه الدمعة. لذلك الذي يتأمل بلوحاتي يشعر أن فيها دراما فرحة، وهذا هو الذي قصدت أن أقدّمه وإلا ستصير الكآبة هي الفنانة وهي التي ترسم وهي التي تلوّن وبالتالي أصير متفرجًا. تمكنتُ من أن أخبّئ الحزن داخل اللون، على الأقل كي تظهر اللوحة كما أشعر بها. 

من أعمال الفنان 


(*) تستولي بيروت على لوحاتك، بناسها، ومقاهيها، وبحرها... تؤرشف بيروت بكل ما فيها، فماذا بقي من طفولتك في هذه المدينة؟

ولدت في زقاق البلاط في غرفة لا تزال قائمة إلى اليوم، وهذه الغرفة كانت تضم الآتين من خارج بيروت للعمل فيها. في فترة من الفترات تضيق الأرض على فلاحيها، يهجرونها صوب المدينة من أجل معيشتهم. كان نصيب والدي أن يعيش ويتزوج في بيروت. ولدتُ وإخوتي في غرفة بينها وبين الغرفة التي ولدت فيها فيروز زاروب من متر ونصف المتر. الغرفة التي ولدَت وعاشت فيها فيروز هي مقابل الغرفة التي ولدتُ فيها تمامًا، وللأسف فإن سقف الغرفة التي ولدت فيها فيروز أصبح على الأرض، والغرفة مفتوحة على السماء. هذا هو الإهمال، هذه هي الرداءة، هذا هو الطعن المباشر بهامة الإبداع في لبنان!

الغرفة التي ولدتُ فيها رسمتها مرارًا بعذاباتها، وكان تطل على دار وسيعة يقيم فيها عمال يشتغلون بشدّ المكانس، وكانوا يغنون لأن نساءهم ليست معهم، وعندما يغنون يشعر المستمع بخوائهم الوجداني، بحنينهم لعائلاتهم، ما شكّل عندي حنينًا مبكرًا، فكنت منذ طفولتي أشعر عند سماع أحد ما يغني أن بيروت كلها تسمعه، ولكن بيروت هي بيروت، هي هذه الأحياء الخارجة من ظلمين عثماني وفرنسي. كان بيوت بيروت مكوّنة من أحجار رملية ومن قرميد، وكانت "العصرونية" على سقوف البيوت التي كانت بالكاد طابقين. كانت الدار مؤلفة من طابق أرضي، أو مع غرفة على السطح لصاحب البيت. فكان سكان بيروت عصرًا يخرجون إلى سطح البيت مع كراسٍ أو صحاحير خشبية وركوة قهوة عربية، ويغنون. ولطالما سمعت تراتيل فيروز، وهي تغني، وكنت أقف تحت شباك غرفتها كي أسمعها، وفيما بعد أصبحت "السيدة فيروز". كان الشباك على الشباك والبوابة على البوابة. أذكر بيروت، ولها تأثير بتكويني الأولي. كان هناك "بيت خلاء"، في الصباح تجتمع النسوة وتغسل الثياب على البابور، وكنا أطفالًا نتفرج على الغاسلات، يأخذون ماء من البركة. كانت الحياة بدائية نوعًا ما، مجموعة صبيان يسخّنون لنا الماء ويحمّموننا سويًا. كان لدينا الإحساس الجماعي بالذكورة، صبية بعمرنا البعض، ثم بدأ الحياء، البنات أيضًا يتحممون سويًا. كان هناك نوع من التهتك البريء، وأضيفي عليه بركة الإحساس الفطري بالعري. مثلًا يسمحون لنا أن ندخل خلال استحمام النساء، وهذا الأمر تحوّل عندي مع العمر إلى أنسنة الأشياء، صرت أنظر إلى الغسيل، أتذكر المرأة التي غسلته ونشرته، وأشعر أن هذا الغسيل ممتلئ أناسًا، هذا الإنسان لم يخلع قميصه، لا يزال مرتديًا قميصه، وهو معلّق الآن على الحبل، والمرأة لا تزال في فستانها على الحبل. ما رغبتُه في فني هو أنسنة الأشياء. يومها كتبت مطالعة بالأكاديمية الملكية عن "الطبيعة الميتة" Nature Morte، كانت الإشكالية في دراستي "هل هناك طبيعة حية وطبيعة ميتة؟" وقلت لهم لا يوجد شيء اسمه "طبيعة ميتة"، والسبب أن أي شيء تراه العين قادر على محاورة الناظر إليه، هذا الحوار، صحيح أنه يتم عن طريق المونولوغ، ولكنه أيضًا حوار متبادل بيني وبين الآخر وإلا لم تكن الذكريات. عندما نتذكر البيت، فالبيت يتذكرنا. هو صحيح من أحجار ومن سقف وسطح وأثاث، ولكنه ممتلئ بالذكريات، والدليل عندما ندخل للبيت نرى من كان يجلس فيه، وصوت من يصلنا من هذا الإنسان الذي نتذكره ونسمعه. إذًا لا توجد طبيعة ميتة بل طبيعة حية Nature Vivante فقط. هذه الطبيعة الحية هي التي دفعتني لأن أحرّك الساكن بالمرئي.  

الجوني في مرسمه 


(*) هذه العلاقة الخاصة مع بيروت هي التي دفعتك لرسمها مرارًا...

بيروت التي أحبّها جدي وأبي، شعرت أنها المصدر الغذائي والجسدي والروحي. كانت أمي تصطحبني إلى القرية بأيام الصيف. أنا بعيد كل البعد عن طفولتي في القرى، كان ثمة تعذيب أو تسلّط مناخي، لا توجد إضاءة ولا توجد طرق معبّدة، كان علينا أن نسير عشرات الكيلومترات كي نعود إلى حيث كنا. بينما بيروت كانت إذا أنا نسيت أن أعطيها هي التي تذكّرني فتعطيني. كل الناس الذين تعرّفت عليهم هم في بيروت ومنهم رفاق الطفولة، وبكل مرارة أقول إنني أحزن لرحيل معظمهم. صحيح الذكريات قاسية ولكن فيها شيء يمدّني بالحياة، أنني بقيت حيًا لأتذكر. بيروت علّمتني وسمحت لي أن أسافر، وقدّمت لي منحة لأكمل دراستي في إسبانيا. فبعد أن أنهيت سنتي الأولى هناك لم يكن عندي أي مردود مالي، فعدت إلى بيروت، وكانوا يقدّمون منحة وحيدة للفن التشكيلي ومنحة وحيدة للنحت وهكذا، وكان من نصيبي أن أكون الأول وأحصل على المنحة، وأكملت دراستي وعدت أستاذًا إلى دار المعلمين ثم الجامعة اللبنانية وقضيت عمري فيها. بيروت مدينة فيها غنى قادر أن يجعلنا نختار ما نحب، لا يُفرض علينا شيء. كان بإمكاننا في بيروت أن نشاهد افتتاح معرض كل ليلة، وليس للّبنانيين فقط، بل لفنانين عرب، لأن بيروت كانت حاضرة ثقافية لا منازع لها، مع احترامي لدور بغداد والقاهرة ودمشق في ذلك الوقت، ولكن حتى الدمشقيين والعراقيين والمصريين كانوا يقصدون بيروت للمعارض، تمامًا كما كنا نرى معرضًا حقيقيًا في بيروت لبيكاسو ومعرضًا لسلفادور دالي ومعارض أخرى لفنانين فرنسيين كانوا يأتون إلى لبنان ليعرضوا أعمالهم، بدعوة من سيدة فائقة الكرم والثقافة، زلفا شمعون، زوجة الرئيس الراحل كميل شمعون. كان بإمكاننا أن نشاهد مسرحًا كل ليلة وأمسية شعرية كل ليلة. مكتبات بيروت ما كانت أغناها، ليس بالكتب فقط، بل بكتّابنا الذين يجتمعون فيها، ولا زلت أحفظ التونات الصوتية لمعظمهم. بيروت السينما أيضًا، لم تكن السينما مهترئة، صفّيقة، وضيعة، منبّهة لكل الموبقات الأخلاقية، وهابطة فنيًا كما هي اليوم. كانت السينما الفرنسية في أوجها، وكانت الواقعية الإيطالية في أوجها والبريطانية والأميركية، لا بل والسويدية، وكنا كما نحفظ أسماءنا نحفظ أسماء المخرجين والممثلين. تلك كانت ثقافة بيروت، ثقافة بيروت صنعت هذا المزيج بين الناس، نادرًا ما تقولين رأيت فيلمًا إيطاليًا إلا ويقول الجميع رأيناه. تسمعين أن هناك أمسية شعرية ليوسف الخال أو شوقي أبي شقرا وأدونيس أو لفلان ولفلان، إلا وتُقصد من كل مكان، لا بل بعض شعراء الدول العربية وعلى رأسهم الشاعر بدوي الجبل، عندما ينشر في جريدة الحياة، كان يُباع من الجريدة أضعافًا منها. كان للشعر قيمة، للأدب قيمة، للمسرح قيمة، وللعمارة أيضًا، عندما نسمع "طلعت بناية العزارية" كانت آية معمارية، مبنى الكابيتول، الميتروبول، الغراند تياتر، أو أي سينما أو أوبرا، حتى القطار والتراموي، القطار كان يجمع الناس، بين جالس يدفع عشرة قروش وبين واقف لأنه لا يريد أن يدفع إلا فرنكًا. كان لبيروت حيوية المجتمع البشري بكل معانيه. بيروت، وبكل أسف، الآن مثل أي مريض يشكو من اشتراكات مرضية ويُدخلونه إلى غرفة التشريح، وكل طبيب مختص بعضو يدخل ويشقّ ويؤدي دوره بالتخريب، ويخرج. بيروت اليوم أرملة ذات كآبة موصوفة وموصولة. بيروت نُزعت أهم آثارها منها. صحيح جاء الاستعمار إلى لبنان، لكن هذا الاستعمار بنى. من بقايا الاستعمار العثماني، مثلًا، لا تزال كلية الحقوق الموجودة الآن في منطقة الصنائع، وكانت حديقة الصنائع المنتزه لمدرسة الصنائع الحقوقية، شقوا طريقًا وفصلوا العمارة العثمانية عن الحديقة. لا تزال العمارة الفرنسية في الأشرفية. بلدية بيروت هي عمارة فرنسية، ومباني شارع اللنبي وشارع فوش كلها عمارة فرنسية، الجامع العمري الكبير نرى فيه الكاتدرائية البيزنطية وحوّلت لاحقًا إلى الجامع العمري الكبير. مدارس الليسيه أسّستها الجالية الفرنسية في أثناء إقامتها في لبنان. بيروت سُلبت، ونُهب منها أجمل ما تركه الذين مرّوا عليها. صحيح كانوا مستعمرين ولكن بيروت كان تستبهي العمارة الحضارية. جاءت الحرب الأهلية لتنزع هوية بيروت، لتشلّحها وتمزقها وتحوّلها إلى مجموعة هويات، بدل أن يكون هناك هوية واحدة لبيروت، أصبح كل حي فيها يحمل هوية مختلفة عن هوية الحي الآخر. هل هذه هي عاصمة؟ هل هذه مدينة؟ أول معرض لي في عام 1971 بعنوان "الصمت والمنفى"، كان في غاليري تديره السيدة جانين ربيز، أزيل الغاليري بواسطة الحرب الأهلية لتنشأ مكانه بناية تباع شققًا، والمعرض أصبح معرضًا للثياب. بيروت تندب بيروت وما عاد في بيروت شيء يذكّر ببيروت إلا السيدة فيروز عندما تغني.

من أعمال الفنان 


(*) حصلتَ على منحة من الدولة لإكمال دراستك في إسبانيا، هذا الدعم من أجل الفن لم يعد متاحًا من قبل الدولة...

حتى أعود بالزمن إلى الوراء، كانت الدولة عبر الامتحانات تعطي منحًا، للطب، للهندسة للموسيقى، النحت، العمارة، المسرح... الأول فقط يأخذ المنحة، كانت ثمة معجزات للحصول عليها. كانت منحتي آخر منحة تقدّم. كل ذلك اليوم انتهى. وزارة الثقافة كانت تأخذ من كل فنان لوحة كدعم له، ولكن بعض من أمسى وزيرًا فيها، وبعض من كان مستشارًا فيها، قاموا بأنشطة، شخصيًا لم يصلني شيء منها، ويسعدني ذلك، لأن ما رأيته بصراحة بحاجة إلى إعادة تقييم، ولكل عمل قامت به وزارة الثقافة. فإن هي أحسنت حينًا ولكن أحيانًا كثيرة لم تحسن، وأنا أحمّل مسؤولية هذا الأمر لمستشار الثقافة الذي من المفترض منه أن يكون لديه هذا الفكر النيّر التوجيهي، من يجب أن نساعد، وخياراتنا لمن، ويعطي فرصًا للجيل الجديد كي يأخذوا فرصتهم، ولكن للأسف البلاد مهشمة.

(*) نود أن نتعرف على علاقتك بهذا المكان، مرسمك الذي يعدّ من مباني بيروت التراثية، ويطل على المنارة والبحر. هل هذا الانكشاف على الطبيعة هو ما جعلك تختار مكان المرسم؟

صاحب هذا المكان كان شاعرًا ومدير بوليس سابقًا في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، وكان هذا المرسم منزله. طلب مني أن أعلّمه الرسم، جئتُ إليه فإذا به في الـ83 من العمر، وقال لي "أحب أن أتعلم الرسم، وأحب أن أراك وأنت ترسم... كنت آخذ معي مصطفى فروخ وعمر أنسي بسيارتي إلى خارج بيروت كي يرسما وأنا أتفرّج عليهما". قلت له "أين سأرسم أنا؟" قال لي "هنا في منزلي، في هذا المكان". سألته "لمن المكان؟"، فأجاب أن آخر من سكن البيت هي الفنانة جورجيت جبارة، وكانت تعلّم الباليه. نظرت إلى الغرفة التي أرسم فيها الآن، وهي مطلة على البحر، قلت له "سأرسم هنا"، فقال لي "إذا كنت تقبل ضيافتي فهذا المكان لك، وأنا لا أزال ضيفًا في المكان". مع الوقت وهبني هذا المكان هوية ثانية، الهوية الأولى هي هوية بيروت، الهوية الثانية هي هوية الإقامة في مكان واحد، لا يصل إليه إلا الذي يقصدني. عندما أدخل إلى المرسم أنقطع كليًا عن الناس وأشعر أن عمري هو زمن اللوحة، أنا مؤتمن على عمري من أجل اللوحة، وأعتبر جسدي أمانة عندي، ممنوع أن أسخّره لما لا يلزم أو أن أُقوم بما يُرهق هذا الجسد. اللوحة تحتاج إلى صفاء عضوي وعمق وجداني. أدخل يوميًا صباحًا وأخرج عصرًا إلى هذا المكان الذي كان شاهدًا حقيقيًا على حضور كبواتي وأحزاني، وما أكثرها، وعلى سعادتي عندما أوقّع اللوحة وأُخرجها للصالون وأكون أول من يراها. هذا المكان ممتلئ بابتساماتي ودموعي، ممتلئ بأصوات الذين أتوا لزيارتي، والذين زاروني مجموعة أعلام أدبية ثقافية مسرحية فنية سياسية فلسفية تاريخية. هذا المكان جزيرة ليست لها علاقة بكل ما يدور حولها. وعندما يأتي أحد ليقتني لوحة وتمر لوحتي عبر هذه البوابة لبيوت الآخرين، أغلق الباب وأستعيد حسن الجوني، وغالبًا ما يتصلون بي ويقولون لي "نطرق الباب وأنت لا تسمع". أكون غارقًا في عوالم اللوحة، وأنا سعيد جدًا عندما أنظر إلى يميني فلا أرى من الشباك إلا الله والبحر. ولما أقفل الباب عصرًا، لا أكتم لفحة الحزن السريعة التي تنتابني وأنا أخرج، وأقول "اليوم دخلت صحيحًا وخرجت صحيحًا، هل سأعود إلى هذا المكان غدًا صحيحًا؟"، وأقدّر العاطي الذي منحني كل ذلك، وهو الله.

مرسم الفنان


(*) كم يحتاج الفنان إلى هذه العزلة ليعبّر عمّا يشعر به؟

أنا ربيب العزلة، وإذا سألتيني عن برجي الذي ولدت فيه، فأنا من برج القلق. إذا مررت على الأبراج أنزلق من برج لبرج، كلمة تنطبق والباقي لا. أعتزّ بوعيي المبكر، وليس أنانية ذكره، أعي حركة الوجود بعمق، لا يدانيني شك فيه، وإذا كان هناك من شك يدانيني فكي أفكر فيه وأستمتع بفهمي له. هذا الوعي أحيانًا يتحول لعدو، وعينا يهددنا، يقول لنا إذا مررنا من هنا سنصطدم بفلان، ولكن لا بد من المرور. أنت واعية لمرورك في هذا المكان وماذا ينتظرك. هنا الوعي ليس صديقًا، لذلك كتبت على باب مرسمي "الوعي العظيم يؤدي إلى قلق عظيم"، لماذا وجود هذا العقل إذا لم يكن قادرًا على التغلب على كل هذا القلق، لأنه مملوك من قبل الوعي. الفنان بتعريف حقيقي هو بحالة مداورة بين امتلاكه للوعي وامتلاك الوعي له، أي الوعي المتبادل. عندما يملك الوعي يدرك ما سيرسمه، وعندما يمتلكه الوعي يعرف ماذا يفعل في هذه الحياة. العزلة مطلوبة لكل فنان كي يدخل إلى مملكة السكون الممتلئ بوجدانه وكي يعرف ماذا يختار. الوجدان إما أن يكون فردوسًا وإما أن يكون جحيمًا. وبالحالتين، الفنان يجب أن يصوّر إذا دخل إلى فردوس وعيه وإذا دخل إلى جحيم وعيه ماذا رسم، لأن الفن هو مرآة ما كان ينتابه عندما دخل المكانين المختلفين.

(*) من يتأمل في لوحاتك ويقرأ العبارات على بابك، يشعر بتملكك لروح الشعر، إضافة إلى تجربتك مع الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين حين رسمتَ شعره وكتب لوحتك في قصيدة، كم يقترب الشعر من فنّك ومنك؟

منذ طفولتي، قُدّر لي أن ألتقي بالشعراء محمد علي الحوماني، والأخطل الصغير، ونزار قباني الذي التقيته في مدريد حين كان قائمًا بالأعمال السوري، وعبد الوهاب البياتي، وبدوي الجبل، وتعرّفت على يوسف الخال، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، ومعظم شعراء مجلة شعر. علاقتي مع الشعر علاقة عضوية، إذا أردت ترجمة نفسي وتصويرها أنا الطائر الذي يطير بجناحين، واحد موسيقى وواحد شعر، وهذا الجسد الطائر هو الفنان. كانت عندي تجربة مع الصديق شمس الدين، الذي كان يصرّ على أن أقرأ قصائده قبل نشرها. وفي هذا المكان الذي تجلسين عليه الآن كان يجلس وينشدني من قصائده ونتداول بها. تعرفت لاحقًا على محمود درويش، وسميح القاسم، وعز الدين المناصرة وعلى شعراء لم يبرزوا كشعراء منهم الصديق الذي يغمرني أسى دامٍ حين أتذكره، عبد الحميد البعلبكي، كان شاعرًا ورسامًا ونحاتًا وكان مقلًا في كل ذلك. من الشاعرات، كانت لي صداقات مع نازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وسلمى الخضراء الجيوسي، وعزيزة هارون، وفدوى طوقان، وإميلي نصرالله التي تشرّفت بحضورها لمرسمي أكثر من مرة. أحب شعراء الزجل، وشعراء المحكية، رشيد نخلة وسعيد عقل وطلال حيدر وميشال طراد، وهنا أقف بتقدير لشعراء آل العبدالله الثلاثة محمد وعصام وحسن العبدالله، وكذلك سكنة العبدالله. لا تتسع الذاكرة لذكر تأثر فني بشعر كل هؤلاء الذين رحل معظمهم.

من أعمال الفنان


(*) يقول بورخيس في سيرته الذاتية التي كتبها أواخر حياته: "الفشل والشهرة لا أهمية لهما، ما أبحث عنه هو الطمأنينة والصداقة"، ويقول دو مونتين "الصداقة هي أعلى درجات الكمال في المجتمع"، كيف تنظر إلى صداقاتك وأغلبهم رحلوا، هل نحتاج إلى الصداقة الحقيقية مع تقدّم العمر؟  

لا تستغربي إذا قلت لك أني صديق للآخرين، ولكني لم أرفع أحدًا منهم لرتبة صديق لي، ليس لأني لا أحسن الصداقة ولكن ينبغي أن أكون صديقًا لنفسي قبل أن يكون الآخر صديقي، وبما أن الصديق ربما لإحساس ما، أصبح أنا مادة حديثه، مثل خردة، لذلك فأنا صديق الآخرين فقط، وأعتز بأني حافظت على هذا النوع من الصداقة مع كل هؤلاء إلى أن رحل معظمهم. وهكذا أكون قد حافظت على صداقتي لنفسي. أكون سعيدًا أن ألتقي بالإنسان الذي أقول له "يا صديقي"، لأنه يكون قد بلغ الكمال الإنساني بالنسبة لي. 

(*) تكتب على بابك "الموت... نهاية المحدود وبداية المطلق"، كيف تفكر بالموت، وهل يقترب من لوحاتك؟

الموت بالنسبة لي هو إغفاءة طويلة، لا أخاف منه ولكن أخاف من الوصول إليه موجوعًا متألمًا. طالما أنني قلت ما أريد قوله من الحياة، ورسمت آرائي بالحياة التي أردت للآخرين أن يرونها ويسمعونها، فإنني أنهيت مهمتي وأنا راضٍ تمام الرضى عن كل ما فعلت بالحياة. ما عدا حالتين مرتا معي من الندم، أعترف، كان يمكن أن يتغير مسار ما عملاني بحياتي، ولكن مع الزمن تجاوزتهما. إذًا الموت يعني لي راحة هذا الكائن المعذّب في الحياة، ولكن مهما كنت راضيًا هناك شيء ما يؤلم، لأنني لست بأعمى ولست بأبكم ولست بأصم. عندما أسمع، الكثير منه لا أحب سماعه، والكثير منه لا أحب رؤيته، والكثير منه لا أحب لمسه، هؤلاء في الموت يريحونني، كأني خرجت من غرفة الكهرباء. ولكن صدّقي بعكس أي كائن، أنا لا أخشى الموت، إذا أراد أن يدعوني، لأن الوجع يكاد يدني من الكفر.

(*) لو عاد بك الزمن، هل تكون رسامًا؟

نعم أكون رسامًا، ولو أني كنت سأحاول أن يكون عندي دراسة أخرى ومهنة أخرى غير الفن، وهي الطب. بحكم دراستي للتشريح الفني، كنت أقف أمام هذا الميكانيزم الموجود داخل الإنسان، أنظر إلى القلب كيف يشتغل، وأقول "أنت بطل بأن تدق طوال الحياة ولا تتعب"، وأقول للعيون، "كم رأيتم في هذه الحياة!"، وكل الأعضاء الأخرى كنت أقول لها "شكرًا لأنك حافظتِ على من كُوّنتِ بداخله". أما ما يقدّم لنا السعادة من هذا الجسد فهي من أسباب الترف السعيد الزائل السريع الذوبان، لأنه لا توجد سعادة عضوية تدوم، ربما الشقاء يدوم عبر المرض، كما أن هذه السعادة السريعة تشكّل علامة استفهام بالنسبة لي. أبو العلاء المعرّي والمتنبي، لا بل حتى بعض شعراء الجاهلية، وقفوا أمام سعادة الجسد السريعة الزوال وتساءلوا "لماذا تكون هذه السعادة موجودة؟". السعادة الحقيقية هي السعادة الموصولة وليست المنقطعة، أي الحب، على الإنسان أن يقدّره ويقدّسه ويعيشه ويتملّاه بالحياة، وإلا الصدامية التي تتحقق لاحقًا والحتمية والنمطية وهي تؤذي.

(*) آخر معرض لك في عام 2012 لماذا هذا التأخير؟

مرسمي هنا تحوّل إلى غاليري، وأنا موجود هنا. يرن هاتفي لثلاثة أشخاص، أحدهم يريد حديثًا، وآخر يريد أن يقتني لوحة، والثالث إنسان مهتم بالفن ويعرف أنه قادم إلى مكان دائم العرض. في الغاليري يتم عرض الأعمال لعدد محدد من الأيام، 10-12 يومًا، وينتهي وقت عرض اللوحات. فمثلًا إذا لم تأت وقت العرض لن تتمكني من رؤية اللوحات. هنا يدخل الإنسان فيمتلئ بالأعمال، لأن هذه الأعمال معروضة لمن يريد، وهنا لا يأتي إلا المهتم، ربما يأتي المهتم إلى المعارض، ولكن معظمهم يأتون لرفع العتب.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.