}

عبدالكريم بدرخان: علينا الاقتداء بالحراك الطلّابيّ العالميّ الداعم لفلسطين

أوس يعقوب 13 أكتوبر 2024
حوارات عبدالكريم بدرخان: علينا الاقتداء بالحراك الطلّابيّ العالميّ الداعم لفلسطين
عبد الكريم بدرخان
"شكرًا يا عبد الكريم على هذا البحث المتميّز عن العنصريّة. ينبغي أن يقرأه كلّ المثقّفين العرب الذين لا يرون من الحداثة "الغربيّة" سوى جانبها التحرّريّ، ويتجاهلون جانب السيطرة أو الهيمنة العالميّة، وما تفرزه وتقوم عليه من آليّات العنف الرمزيّ والمادّيّ، كما تعبّر عنه التيّارات العنصريّة والخطّط العسكريّة والحروب الخارجيّة، والتي تشكّل حرب الإبادة في غزّة اليوم أبرز تعبير عنها بعد المذابح النازيّة..."- بهذه الكلمات خاطب المفكّر السوريّ، الدكتور برهان غليون، مواطنه الباحث الأكاديميّ عبد الكريم بدرخان، مؤلّف كتاب "في العنصريّة الثقافيّة: نظريّات ومؤامرات وآداب"، الصادر عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، في شهر مارس/ آذار الماضي.  
في هذه المساحة الحواريّة نتحدّث مع بدرخان عن كتابه الجديد، الذي "يمثّل قيمة علميّة كبيرة، لما كشفه بين دفّتيه من أفكار كانت مغيّبةً عن القرّاء العرب"، بحسب الناشر.
فيما يلي حوارنا معه:

(*) بداية، ماذا تُنبئنا عن نفسك؟ سيرتك؟ وضعك ككاتب وباحث سوريّ؟
بدايةً، أنا من مدينة حمص، ونشأتي فيها مهمّة في تشكيل وعيي وثقافتي ومواقفي. كانت حمص مدينة تعجُّ بالأنشطة الثقافيّة على مدار السنة، وفيها تعرّفتُ على مثقّفين كبار كانوا مثالًا لي في العمل الجادّ والدؤوب. بدأتُ شاعرًا وأصدرتُ ثلاث مجموعات شعريّة، ثمّ اتّجهتُ إلى الترجمة وترجمتُ خمس روايات وثلاث مختارات شعريّة. في السنوات الأخيرة، وبحكم هجرتي إلى أوروبا، راحت اهتماماتي تنصبُّ على قضايا الهجرة والعنصريّة وجماعات اليمين الشعبويّ والمتطرّف. وفي هذا السياق، جاء كتابي "في العنصريّة الثقافيّة" الذي بدأت الاشتغال في مطلع عام 2020. 



(*) في فصول سبعة تناولت في كتابك الجديد الموسوم بـ "في العنصريّة الثقافيّة: نظريّات ومؤامرات وآداب"، معانيَ العنصريّة وأنواعها وفلسفاتها وتطوّرها مع التغيّرات السياسيّة التي تضرب الكوكب الذي بات قرية صغيرة في ظلّ العولمة، والتغييرات التي طرأت في العقود الثلاثة الأخيرة وإفرازاتها الأدبيّة والفكريّة لدى شخصيّات أدبيّة أنتجت نظريّات شهيرة... سؤالي: ما الذي دفع بك لاختيار هذا الموضوع تحديدًا؟ وما هي الدوافع والاهتمامات الشخصيّة بالموضوع؟
هنالك أسباب شخصية بالفعل، إذ صارت كلمة "ثقافتك/ ثقافتكم" (your culture) تتردّد على مسامعي كثيرًا من أصدقاء وغرباء، على سبيل المزاح أو الجِدّ، لكنّها تتضمن في كلّ الأحوال الحُكم على هذه "الثقافة" التي يظنّ المتكلِّم أنّه يعرفها، وهو الحُكم عليها بأنّها "أُخرى" أو "مختلفة" أو "غريبة" أو "أدنى قيمةً"... وفي معظم الأحوال هو حُكم سلبيّ. كما يظنُّ البعض أنّ كلّ شخص قادم من تلك الثقافات المحكوم عليها بصفات سلبيّة مثل العنف والتعصُّب واضطّهاد المرأة والأقلّيّات... هو شخص يحمل في باطنه هذه الصفات.  
وهنالك أسباب موضوعيّة طبعًا، إذ يتكرّر في وسائل الإعلام، وفي خُطَب السياسيّين، وفي كتب ومقالاتٍ أكاديميّة؛ وصفُ الثقافات غير- الأوروبيّة (ثقافة الآخر) بصفاتٍ سلبيّة، وهو في الغالب توصيفٌ اختزاليّ مُجحِف، مبنيّ على أحكام تنميطيّة ومُسبَقة أو على شواهد انتقائيّة معيّنة. وكأنّ صناعة صُورة الآخر العنيف المتخلّف الهمجيّ المتعصّب دينيًّا، والمضطّهِد لحقوق النساء والأقلّيّات... هي حجر الأساس في صناعة صُورة الذات الأوروبيّة المتّصفة بصفاتٍ معاكسة لما سبق، يقف على رأسها التحضُّر والإنسانيّة والتسامح الدينيّ واحترام حقوق المرأة والأقلّيّات. أيّ أنّ الصورة الأولى مرآةٌ ضروريّة لإظهار الصورة الثانية.

(*) ما هي أهمّ أفكار البحث ونتائجه؟
لاحظتُ أثناء بحثي أنّ العنصريّة ظاهرة قديمة لها جذور في النظام القَبَليّ والنظام الطبقيّ، وهي تتغيّر في كلّ مرحلة تاريخيّة وتقدّم نفسها بنسخة جديدة. والعنصريّة – مثل الطائفيّة – هي من صُنع النُخب من سياسيّين ومفكّرين وأدباء ورجال دين، لكن مَن يتبنّاها ويمارسها ويرتكب جرائم باسمها هُم من الفئات المتدنّية في السلّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والتعليميّ، وغالبًا ما يكونون من الطبقة الوسطى الدنيا التي تخشى السقوط إلى القاع. مثلًا في أوروبا اليوم؛ مَن هم المعادون للمهاجرين والمصوّتون لأحزاب اليمين الشعبويّ المتطرّف؟ أغلُبهم ممّن يتشابهون مع المهاجرين في أوضاعهم الاقتصاديّة، ولذلك يرون فيهم منافسًا في سوق العمل، وشريكًا محاصِصًا في المساعدات الاجتماعيّة.
مثال آخر؛ لاحظتُ في روايات ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أنّ الكتّاب قد بنُوا شخصيّة "الإرهابيّ" بالاعتماد على الدعاية السلبيّة الشائعة ضدّ المهاجرين، فتجد أنّ "الإرهابيّ" هو شخص متحرّش ومهووس جنسيّ وسكّير ومتعاطي مخدّرات ومهرّب ونصّاب... لكنّه في الوقت ذاته مؤمن وملتزم بدينه إلى حدّ قتل نفسه "تطبيقًا لتعاليم الدين". هذه هي حال سوق الإسلاموفوبيا التي يساهم في ازدهارها كتّابٌ عربٌ وفرسٌ وأفغان، يخوضون في مسائل معقّدة مثل الإرهاب، والسلفيّة الدينيّة، وعلاقات القوّة في الأُسرة والجماعة والمجتمع... بينما عدُّتهم لا تتجاوز حفنةً من الأفكار السطحيّة والتنميطيّة، وبضعة نصوص دينيّة ينسخونها من متصفّح الإنترنت. 

(*) كيف تعرّف الثقافة من منظورك كمثقّف عربيّ، وما هي مآخذك على طريقة فهمها في الغرب؟ وماذا عن علاقة الثقافة بالديمقراطيّة في المنظار الغربيّ بالنظر إلى أطروحات مفكّريه ومنظّريه؟
الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجيّ هي مجموعة العادات والتقاليد ونمط الحياة والمعتقدات المشتركة التي تتبّعها جماعة بشريّة معيّنة، بما في ذلك الزيّ والطعام والاحتفال بالأعياد الدينيّة والقوميّة، والأعراف المتّبعة في المناسبات الخاصّة والعامّة. وقد نضيفُ إليها المعنى الفنّيّ للثقافة، أيّ هي اللغة والأدب والموروث الشعبيّ والموسيقى المرتبطة بجماعة معيّنة.
وقد برزت في العلوم الاجتماعيّة مقاربتان رئيستان لفهم الثقافة. الأولى هي المقاربة الجوهرانيّة التي تعتبر الثقافات ثابتة، والثانية هي المقاربة الديناميّة التي ترى الثقافاتِ مُنتَجًا مولَّدًا ومتغيّرًا على الدوام، وهي المقاربة المقبولة اليوم.
المشكلة تبدأ عندما يعامل الباحثُ الثقافاتِ بوصفها ثابتة، فيفترض أنّ لها جوهرًا ثابتًا أو مجموعة جواهر عابرة للتاريخ وللجغرافيا. فقد تُوصف ثقافة ما بأنّها جامدة ومستقرّة على حالها، ذات صفاتٍ أزليّة أبديّة لم ولن تتغيّر، رغمَ ما حدث وما قد يحدث من تغيُّـراتٍ كُبرى في النُظُم السياسيّة والأنماط الاقتصاديّة والبُنى الاجتماعيّة. هذه رؤية برنارد لويس وإيلي خيدوري للثقافة العربيّة الإسلاميّة. وهي كذلك أطروحة أدونيس الرئيسة في "الثابت والمتحوّل"، إذ افترض وجود "حالة ثبات" في الأدب والفقه والسياسة تمتدّ من سقيفة بني ساعدة إلى يومنا هذا.  




أمّا حينما يتعلّق الأمر بعلاقة الثقافة بالديمقراطيّة، فإنّنا نتحدّث هنا عن الثقافة السياسيّة. الثقافة السياسيّة - كما عرّفها ألموند وفيربا - هي مجموعة مواقف وآراء تجاه النظام السياسيّ ومكوّناته، وتجاه دور الفرد في هذا النظام. ولذلك فهي تتشكّل لدى الناس من خلال تفاعلهم مع النظام السياسيّ القائم، أيّ هي ليست شيئًا يتمّ العثور عليه من خلال البحث في النصوص الدينيّة وتفاسيرها، أو من خلال انتقاء حوادث تاريخيّة بعينها.
وهكذا نصل إلى المشكلة الثانية، وهي عندما تُختزَل الثقافة إلى صفات محدّدة ومعدودة، ثمّ تستَخدم هذه الصفات لتفسير مختلف الظواهر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، أي ما يُعرف بالثقافويّة. في عام 1960 قام سَيمور ليبسِتْ باستلهام نظريّة ماكس فيبر عن العلاقة ما بين البروتستانتيّة والرأسماليّة، وحوّلها إلى علاقة ما بين البروتستانتيّة والديمقراطيّة. وفي مقابل ذلك، وضعَ الكاثوليكيّة بوصفها الثقافة التي تتعارض مع الديمقراطيّة.
أمّا عند هنتنغتون عام 1996، فلم يعد ممكنًا الادّعاء بأنّ الكاثوليكيّة تتعارض مع الديمقراطيّة، ولذلك أكّد على تعارض كلّ من الكونفوشيّة والإسلام مع الديمقراطيّة، مع أنّه لا يعرف عنهما كثيرًا، وكلّ مراجعه عن الإسلام هي كتب برنارد لويس.
وهكذا فالمآخذ كثيرة، منها أنّ الثقافة صارت تُختزَل بالدين وحدَه، ثمّ النظر إلى الثقافات غير الأوروبيّة بوصفها جامدة وثابتة على حالها منذ قرون، ومن ثمّ استخدام الثقافة كعامل مُفسِّر بعد عزلها عن الظروف السياسيّة والاقتصاديّة التي تتشكّل بالتفاعل معها. أعني أنّه لا يصحّ الحديث عن "ثقافة استبداديّة" بمعزل عن النظام الاستبداديّ الذي تشكّلت فيه، وبمعزل عن الفساد والاستغلال والتوزيع الظالم للثروة. 

شهدت الجامعات الغربية، وخصوصًا الأميركيّة، تضامنًا غير مسبوقًا مع القضية الفلسطينيّة

(*) استنادًا إلى بحثك هذا، ما هي أبرز الأفكار التي كانت مغيّبةً عن القرّاء العرب وسعيت إلى الكشف عنها سيما في جانب قلما أهتمّ به البحاثة العرب ألا وهو "العنصريّة الثقافيّة"، التي ترى أنّها "تقسّم الشعوب ثقافيًّا، وتجعل لكلّ منها صفات ثقافيّة متوارثة من الأسمى إلى الأحطّ كذلك..."؟
ممّا هو غير معروف كثيرًا في العالم العربيّ؛ نظريّات المؤامرة التي تؤمن بها جماعات اليمين المتطرّف واليمن البديل والنازيّة الجديدة، ومن أسمائها الشائعة "الاستبدال العظيم" و"الإبادة الجماعيّة للبيض" و"أورابيا". وبالعموم هي نظريّات مؤامرة تعتقد بوجود مؤامرة سِرّيّة بين المسلمين هدُفها احتلال أوروبا عن طريق الهجرة والإنجاب، ثمّ أسلمتُـها وتعريبُـها، ومن ثمّ إبادة الأوروبيّين أو إخضاعهم لأحكام أهل الذمّة. كما تُضفي هذه النظريّات على الجامعة العربيّة صفاتٍ خارقة، وتعتقد أنّها تتحكّم بالاتّحاد الأوروبيّ وترسم سياساته، وأنّ العرب يركّعُون الغربَ باستخدام "سلاح النفط".
هي نظريّات مؤامرة لأنّها تقوم على تفسير الوقائع تفسيرًا مدهشًا وتآمريًّا وخُرافيًّا. وهي عنصريّة لأنّها تعتقد أنّ للمسلمين جميعًا بنيةً فكريّة عقائديّة واحدة وموحَّدة، شريرة وخبيثة وإرهابيّة، ومعادية دائمًا وأبدًا للمسيحيّة واليهوديّة وأوروبا والغرب والحداثة.  
وبالرغم من غرابة نظريّات المؤامرة هذه، إلّا أنّ سياسيّين وقادة دولٍ يؤمنون بها أو يستخدمونها على الأقلّ. منهم رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، الذي استغلّ هجرة عام 2015 لتعزيز خطابه الشعبويّ القوميّ الشوفينيّ، وتبرير حكمه التسلّطيّ الذي قضى تدريجيًا على الديمقراطيّة المجريّة. ومنهم رئيس جمهوريّة التشيك السابق، فاتسلاف كلاوس، الذي خاطب شعبه قائلًا "بلادكم تتعرّض للغزو من قبل أبناء دين القتل". كما أنّ معظم مستشاري ترامب كانوا من المؤمنين والمروِّجين لهذه النظريّات.

(*) ما علاقة هذا الكتاب بأحداث الراهن العربيّ سياسيًّا وثقافيّا؟
مع أن البحث مخصّص لدراسة نماذج من "الغرب" إلّا أنّه مرتبط جوهريًّا بأحداث العالم العربيّ. نبدأ من سؤال الديمقراطيّة الذي طُرح مع ثورات الربيع العربيّ، واختار رهطٌ من المثقّفين العرب الإجابة عليه بأنّ "شعوبنا غير مؤهّلة للديمقراطيّة"، أو بقولهم "الإسلام يتعارض مع الديمقراطيّة" وعلينا أن ننسى الأمر.
من نتائج البحث أنّه لا توجد صفات ثابتة للثقافة سواءً كانت إسلاميّة أو غير ذلك. كما أنّ نظريّات التحديث التي رأت أنّ بعض الثقافات تشكّل عائقًا في طريق الانتقال الديمقراطيّ، هي نظريّات صُنعتْ في مرحلة زمنيّة معيّنة هي الحرب الباردة، واستُخدمتْ لتبرير تحالفات الولايات المتّحدة مع أنظمة مَلَكيّة وفاشيّة في مناطق مختلفة من العالم. ومثلما قيلَ عن تعارُض الثقافتين اليابانيّة والألمانيّة مع الديمقراطيّة إبانَ الحرب العالميّة الثانية، ثمّ تعارُض الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة مع الديمقراطيّة في الستينيات، يُقال اليوم عن تعارض الإسلام مع الديمقراطيّة، وسوف يُثبت الزمن خطأ ذلك.
مسألة أخرى تتعلّق باستسهال الربط بين الإرهاب والإسلام، وهو ما يُترجَم في الواقع على شكل سياسات تمييزيّة ضدّ من يُعتقَد أنّهم مسلمون. وقد استخدمت الولايات المتّحدة هذه النظريّات والخطابات في تبرير غزوها لأفغانستان والعراق. وبما يشبه الكوميديا السوداء، راحت الأنظمة العربيّة تستخدم الخطاب الاستعماريّ العنصريّ ذاته ضدّ شعوبها، إذ صار من السهل واليسير والمقبول اتّهامُ أيّ حركة احتجاجيّة بأنّها حركة إرهابيّة، طالما أنّ غالبيّة المنخرطين فيها من المسلمين.  
واليوم، تستخدم "إسرائيل" العنصريّة الثقافيّة لتبرير الإبادة الجماعيّة المتواصلة في حقّ الشعب الفلسطينيّ. الفلسطينيّون في الخطاب الصهيونيّ هم مجرّد "إرهابيّين" و"برابرة"، بينما تنتمي "إسرائيل" حسب زعمهم إلى العالم الغربيّ المتحضّر، وهي السدُّ المنيع الذي يحمي الحضارة الغربيّة من هؤلاء "الآسيويّين المسلمين البرابرة". هذا خطاب نتنياهو المكرور بسماجته ووقاحته، والمستلهَم من فكْر هرتزل وزمنه.




لكنّهم لا يتحدّثون اليومَ عن أعراق ساميّة وأخرى منحطّة على طريقة النازيّة الألمانيّة، بل يتحدّثون عن ثقافات (تُختـزَل إلى أديان) ساميّة وأُخرى منحطة. وهكذا فقد حدثَ التغيير في المفردات المستخدمة، لكن من دون تغيير في المرجعيّة الفكريّة التي حافظت على بنيتها العنصريّة.  

(*) توسّعت بالكتاب راصدًا تحوّلات العنصريّة في القرن العشرين بداية من الاجماع على رفضها وتجريمها في الضفّة الأخرى حتّى عام 1994، ومن ثمّ ولادة "حركة مضادّة" قسّمت العالم حضاريًّا واقتصاديًّا ودينيًّا، بوصوله إلى "منتجات الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول"؛ ليكتمل المشهد مع الهجرة الواسعة إلى أوروبا في عامي 2014 و2015. فهل لك أن تخبرنا عن تأثير هذا المسار التاريخيّ على علاقتنا كعرب ومسلمين بالغرب؟ وكيف تنظر إلى كمّ هذه النظريّات والطروحات والخطابات التي عزّزت تلك "الحركة المضادّة"؟
بعد جرائم النازيّة في أوروبا، لم يعد بالإمكان التسامح مع النظريّة العِرقيّة أو ادّعاءات التفوّق العِرقيّ، وهكذا صار "العِرق" تابوهًا. ثمّ أثبت العلم الحديث - في أربع مؤتمرات لليونيسكو - عدمَ وجود "أعراق" أصلًا، فـ "العِرق" مفهوم ثقافيّ تمّت صناعتُه في الحقبة الاستعماريّة من أجل تبرير الإبادة والنهب وتجارة الرقيق. ومع ذلك ما زالت مفردة "عِرق" مستخدمة في اللغة السياسيّة والبيروقراطيّة الأميركيّة، وهذا يكفي لوصفها بأنّها دولة عنصريّة.
كانت نهاية الحرب الباردة من أهمّ التحوّلات التاريخيّة في هذا السياق، لكن قبل ذلك بعَقد، جاءت موجة التحوّل النيوليبراليّ التي قادها ريغان وتاتشر. في هذه الموجة استخدم اليمينُ المُحافظ الخطابَ الشعبويّ والهُويّاتيّ من أجل قَسمِ الطبقة العاملة إلى "بيض" و"ملوّنين"، زاعمًا أنّ تصويت العمّال لا ينبغي أن يكون حسب الطبقة بل حسب "العِرق" و"الهويّة". كما شهدَ عقد الثمانينيات ذاته، صعود الأصوليّات الدينيّة في العالم العربيّ وإيران وتركيا و"إسرائيل" وبريطانيا والولايات المتّحدة. كانت موجة عالميّة، حتّى أنّ الصين الشيوعيّة تصالحت مع تراثها الكونفوشيّ.
في الحرب الباردة كان الانقسام الرئيس في الدول الصناعيّة هو بين طبقة العمال وطبقة أرباب العمل، وكانت معظمُ دول العالم موزعة بين معسكرين متنازعين من حيث الأيديولوجيا الاقتصاديّة والسياسيّة. أما بعد الحرب الباردة، فصارت الانقسامات السياسيّة والاقتصاديّة أقلّ قيمة، أو جرى تهميشُها، في مقابل صعود وتصعيد الانقسامات الهُويّاتيّة المبنيّة على الفوارق الدينيّة والإثنيّة.
ومع النزاعات الإثنيّة التي شهدها عقد التسعينيات، ثمّ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، صار العالم جاهزًا للانقسام على أساس ثقافيّ- دينيّ- هويّاتيّ على صعيد البلد الواحد وعلى الصعيد الدوليّ أيضًا. وهكذا صارت نظريّات وخطابات العنصريّة الثقافيّة مقبولةً ومستساغة ومرغوبة، من دون ملاحظة أنّها ليست سوى العنصريّة (العِرقيّة) البيولوجيّة بعد وضع كلمة "ثقافة" في محلّ كلمة "عِرق".

(*) برأيك، أيّ دور للمثقّف العربيّ بشكل عامّ في زمن الطوفان الذي نعيشه جميعًا منذ أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، في صياغة خطاب يُقرب المسافات بين مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة والمجتمعات الغربيّة؟ وماذا على النخب الفكريّة والثقافيّة أن تقول وتفعل في ظلّ العدوان "الإسرائيليّ" الهمجيّ، وما يسفر عنه من تقلّبات متصاعدة في المنطقة العربيّة على كافة الأصعدة؟ ولماذا لم يعُد لهذه النخب ذلك الأثر الواضح بين الجماهير؟ 
إنّ جماليّة الثقافات واللغات والآداب تكمنُ في اختلافها وتنوّعها، وينبغي احترام ذلك. لكن يجب رفض أطروحة الثقافات الثابتة ذات الصفات الثابتة، ورفض نقل هذه الصفات المزعومة من الثقافة إلى البشر المنتمين إليها بحكم الولادة.
وكذلك يجب نقد التفسير الثقافويّ الاستسهاليّ للظواهر الاجتماعيّة، من ظواهر الفقر والتخلّف والاستبداد إلى ظواهر العنف والجريمة والإرهاب. وذلك لأنّها تفسيرات غير علميّة، وتنجم عنها مخاطر عدّة.
في رأيي، ينبغي للنخب الثقافيّة العربيّة الاقتداء بالحراك الطلّابيّ العالميّ الداعم للقضيّة الفلسطينيّة، وهو حراك ليس إسلاميًّا ولا يساريًّا كما يحاول البعضُ نسبته إليه. هو حراك صبايا وشباب يؤمنون بمبادئ العدالة والمساواة وبقيم الحرّيّة وحقوق الإنسان. قضيّة فلسطين في نظرهم عادلة، وينبغي الوقوف معها بغض النظر عن أيّ فوارق ثقافيّة أو أيديولوجيّة. يتظاهرون من أجل فلسطين مثلما يتظاهرون من أجل حماية البيئة، ومن أجل حماية النساء من الاضطّهاد والبنات من التزويج المبكّر، ومن أجل معتقلي الرأي في كلّ مكان.
رغم وقوف معظم الحكومات الغربيّة إلى جانب "إسرائيل"، وعجز المؤسّسات الدوليّة عن إيقاف المجزرة، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى نكران مبادئ الحرّيّة والعدالة وتقرير المصير وحقوق الإنسان. فهذه القيم هي لنا، لكلّ إنسان، والتخلّي عنها يعني التخلّي عن حقوقنا الأساسيّة.
***

بطاقة:
عبد الكريم بدرخان: كاتب وباحث وشاعر ومترجم سوريّ من مواليد عام 1986، مقيم حاليًّا في النرويج. يحمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، وبكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة جنوب شرق النرويج، وماجستير في العلوم السياسيّة من جامعة أوسلو. مهتمّ بقضايا الهجرة والعنصريّة وبجماعات اليمين المتطرّف والنازيّة الجديدة. نشر ثلاث مجموعات شعريّة، هي: "جنازة العروس"، التي نال عنها "جائزة الشارقة للإبداع العربيّ" عام 2014؛ و"كما أشتهيكِ وأكثر"؛ و"لون الماء".  وترجم عددًا من الأعمال الأدبيّة من اللغة الإنكليزيّة إلى العربيّة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.