}

"أدب الأسرى" في المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ

أوس يعقوب 4 سبتمبر 2024
هنا/الآن "أدب الأسرى" في المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ
فاز الأسير باسم خندقجي بجائزة البوكر العربية للرواية 2024

بدأ الاهتمام بـ"أدب الأسرى"، أو "أدب السجون" في فلسطين المحتلّة، يتزايد في السنوات الأخيرة الماضية، خاصّة بعد أن حقّق عدد من الكاتبات والكتّاب الأسرى حضورًا أدبيًّا بارزًا على الصعيدين المحليّ والعربيّ. استطاع هذا الأدب أن "يختزل إلى حدّ بعيد المأساة الفلسطينيّة ويحوّلها إلى حالة عميقة في الوجدان الفلسطينيّ والعربيّ والإنسانيّ"، كما يقول الكاتب الجزائريّ واسيني الأعرج.
"ضفة ثالثة" تواصلت مع عدد من الكاتبات والكتّاب والنقّاد الفلسطينيّين؛ سائلة إياهم عن نظرتهم إلى "أدب الأسرى" في فلسطين المحتلّة، ومكانة هذا الأدب في المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ والعربيّ، وعن مدى استحقاق الكتّاب الأسرى الجوائز الأدبيّة المحلّيّة والعربيّة التي فازوا بها بالنظر إلى المعايير النقديّة الفنّيّة التي تعتمدها لجان التحكيم بالعادة؟ وذلك بعد أن سجّل عدد منهم حصولهم على تلك الجوائز في العشريّة الأخيرة، والذي كان آخرهم الكاتب والأسير باسم خندقجي، الفائز بـ"الجائزة العالميّة للرواية العربيّة (البوكر)" لعام 2024 عن روايته "قناع بلون السماء". كذلك فوز الكاتب والأسير كميل أبو حنيش بـ"جائزة دولة فلسطين في مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة" لعام 2023 عن كتابه "الكتابة والسجن". وقبل ذلك بعام (2022)، فاز الكاتب الصحافيّ والأسير المحرّر عمر نزال بـ"جائزة فلسطين للدراسات الاجتماعيّة والعلوم الإنسانيّة" عن كتابه "كباسيل: منافذ الاتّصال والتواصل لدى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيليّ". كما فاز الكاتب والأسير الشهيد وليد دقّة عام 2018 بـ "جائزة الاتّصالات عن أدب اليافعين العالم العربيّ" الإماراتيّة عن روايته "حكاية سرّ الزيت"، وتمّ اختياره في شهر حزيران/ يونيو الماضي من قِبل المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة في رام الله "شخصيّة العام الثّقافيّة". وكان أن نالت الكاتبة والأسيرة المحرّرة عائشة عودة في عام 2015 "جائزة مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ" في ألمانيا.
من الأسئلة الأخرى التي طرحناها في هذا التحقيق، ما هي مصادر الإلهام التي يستقي منها الكتّاب الأسرى موضوعات أعمالهم الأدبيّة، سواء كانت رواياتٍ، أو نصوصًا، أو قصائد؟ وفي خضم كلّ ذلك، كان لا بدّ لنا من وقفة عند كتابات الأسيرات، وطرح تساؤل عن أسباب عدم الاهتمام الكافي بأعمالهنّ في معظم كتابات النقّاد؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها، طرحناها على كلّ من الناقد الدكتور حسن عبد الله، والكاتب المحامي حسن عبادي، والناقد رائد محمد الحواري، والشاعر والناقد فراس حج محمد، والروائيّة ديمة السّمّان، والشاعر والكاتب إياد شماسنة. ولتكتمل الصورة ما أمكننا ذلك التقينا بكاتبتين من الأسيرات المحرّرات هنّ عائشة عودة، ومنى قعدان. فكان هذا التحقيق.
هنا الجزء الأوّل:



بداية، سألنا الناقد الدكتور حسن عبد الله، عن نظرته لـ "أدب الأسرى" في فلسطين، فأجاب: في كتابي النقديّ الذي سيصدر قريبًا خصّصتُ دراسة للنقد الخاصّ بتجربة الكتابة الأدبيّة الإبداعيّة في الاعتقال، تحت عنوان "نقد النقد"، أيّ أنّني نقدت الكتابات النقديّة التي كُتبت حول نصوص أدبيّة أنتجت في الاعتقال، حيث صنفت الذين كتبوا نقدًا حول هذه التجربة، على النحو التالي: الأوّل الاتّجاه العاطفيّ الاحتفاليّ الحماسيّ، من منطلق أنّ النجاح في الكتابة في ظروف صعبة مجافية هو إنجاز. الاتّجاه الثاني، خَلص نقّاد هذا الاتّجاه إلى أنّ ما تمّ إنتاجه في الاعتقال لم يرتقِ إلى مستوى المواصفات الفنّيّة، وأرى أنّ رفض ما أُنتج بالمطلق هو ضرب من ضروب العدميّة.
أمّا الاتّجاه الثالث، فهو الأكثر توازنًا وموضوعيّة من الاتّجاهين سالفي الذكر، حيث اكتفى نقّاد هذا الفريق بتبيان مواقع القوّة والضعف، لكنّ المأخذ على هؤلاء النقّاد يتمثّل في إبراز مواقع القوّة، والإشارة إلى مواقع الضعف على استحياء، وفي رأيي أنّ المطلوب اتّجاه نقديّ رابع، ينطلق من الآتي: الأول: النظر للسياق الزمنيّ الذي كُتبت فيه النصوص، فما أنتج في عام 1968 يختلف من حيث المستوى عن الذي أنتج في عام 1988، أيّ بعد أن أخذت التجربة مسارًا ثقافيًّا وإبداعيًّا أكثر نضجًا ووضوحًا. والثاني: من المفروض أن يأخذ الناقد بعين الاعتبار أنّ النصوص أنتجت في ظروف مجافية تمامًا، لكن من دون جعل ذلك يطغى عاطفيًّا على طبيعة النقد.

الدكتور حسن عبد الله 




يتابع صاحب كتاب "خمسون تجربة ثقافيّة وإبداعيّة فلسطينيّة": إنّ ما أوردته في النقطتين السابقتين لا يعني عدم اخضاع النصوص للمعايير النقديّة، بل إنّ النقد المنهجيّ مطلوب لتطوير التجربة، وبالتالي، فإنّ الناقد ينبغي أن يتعامل نقديًّا مع الشكل الفنّيّ، وكذلك المضمون بالمعايير النقديّة، وليس العاطفيّة، من دون إغفال الذاتيّ والموضوعيّ في تجربة شديدة التعقيد، لأنّ العاطفة لا تطوّر أدبًا، ولا ترتقي بالتجربة، بقدر ما تحتاج النصوص التي تمّ إنتاجها إلى أساليب نقدية تدفع التجربة قدمًا على طريق التصويب والتوجيه والتحفيز. وكخلاصة، فإنّ ما تمّ إنتاجه وإصداره في السنوات الأخيرة، خصوصًا في الرواية والشعر، ارتقت بعض نصوصه إلى مكانة أدبيّة مرموقة، ونجحت في التنافس على جوائز أدبيّة فلسطينيّة وعربيّة رفيعة.
من جهته، يقول الكاتب ومحامي الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي حسن عبادي، صاحب مبادرة (لكلّ أسير كتاب): من خلال قراءاتي ومتابعتي لكتابات الأسرى، أفضل أن نُطلق عليها "أدب الحرّيّة" بدلًا من "أدب الأسرى"، ورغم أنّي لست بناقد ومقيّم للأدب، إلى أنّني تابعت الغالبيّة العظمى لما صدر في السنوات الأخيرة، عدا المخطوطات التي وصلتني ولم تُنشَر بعد، وهناك قفزة كبيرة، كمًّا ونوعًا، لما صدر، وما يميّزه التنوّع والتعدّديّة، فلم يعد هذا الأدب يتناول مواضيع الاعتقال والأسر والتعذيب والمعاناة، بل تخطّاها بكثير. وأصبح أسرانا يكتبون الشعر، والرواية (حتّى التاريخيّة والغرائبيّة والفانتازيا)، والقصّة القصيرة، والمسرحيّات، والنصوص، والأبحاث، والمقالات، والنقد الأدبيّ، وغيرها من الأجناس الأدبيّة، إضافة إلى الرسوم، بعيدًا عن الأسطرة وباتّجاه أنسنة قضيّتهم.

رائد محمد الحواري


الناقد رائد محمد الحواري صاحب كتاب "إضاءات على رواية المعتقلين الأدباء في المعتقلات الإسرائيليّة (دراسة نقديّة)"، يرى أنّه إذا عدنا إلى "أدب الأسرى" سنجده ملازمًا للنضال الفلسطينيّ، وأعتقد أنّ قصيدة الشاعر نوح إبراهيم "من سجن عكا طلعت جنازة" التي كتبت في ثورة الـ36، تمثّل أحد نماذج الأدب الفلسطينيّ الذي يتحدّث عن السجون، وقد استمرّ هذا التلازم بين السجن والأدب، وكتب عنه عدد من الأسرى في القرن الماضي، لكنّ ما كتب في القرن الماضي يبقى محدودًا على مستوى الكمّ والنوع، فهناك شح في الروايات التي تحدّثت عن السجن، وكانت أبرز رواية لفاضل يونس "الزنزانة رقم 7"، ويمكن أن تكون أوّل رواية متكاملة تحدّثت عن السجن، وما تبقى كان قصائد، أو خواطر. لكن بعد بداية القرن الواحد والعشرين أخذت الأعمال الأدبيّة المتعلّقة بالسجون تأخذ منحى آخر، منحى يتعلّق بفنّيّة الأدب مع مراعاة المضمون والفكرة، من هنا حصلت نقلة على مستوى الكمّ والنوع، وعلى مستوى التجنيس الأدبيّ، فأصبحنا نجد القصّة، والقصيدة، والسيرة الذاتيّة، والرواية، وهذا يعود في الأساس إلى الإرث الثقافيّ والأدبيّ الذي أسّسه الأسرى القدامى، الذين عملوا على تأسيس مكتبات في عدد من السجون، وهذا ما مهد وهيأ للأسرى لاحقًا الاطّلاع بشكلٍ وافٍ على الأدب، ومن ثمّ تطوير مواهبهم الأدبيّة والمعرفيّة. وللعلم، حاليًّا يوجد أكثر من مائة وأربعين كاتب/ة وأديب/ة في سجون الاحتلال، وكلّهم أصدروا كتابًا أو أكثر، حتّى أنّ بعضهم له أكثر من خمسة عشر كتابًا، وهذا ما يجعلنا نقول إنّ "أدب الأسرى" ارتقى على مستوى الشكل الأدبيّ والفنّيّ، وتجاوز مسألة الفكرة/ المضمون والتعاطف، ليحلّق في فضاء الإبداع الأدبيّ بكلّ أجناسه.

الجوائز الأدبيّة... تجاوز حالة التعاطف
حصل عدد من الكاتبات والكتّاب الأسرى على جوائز أدبيّة مرموقة في السنوات الأخيرة الماضية، كان آخرهم الكاتب الأسير باسم خندقجي، الذي فاز بـ"جائزة البوكر" لعام 2024 عن روايته "قناع بلون السماء"، ولمعرفة "إلى أيّ مدى يستحقّ هؤلاء الكتّاب هذه الجوائز فنّيًّا؟"، د. حسن عبد الله، فأجاب: مرّ منح الجوائز لنتاجات المعتقلين الأدبيّة في مرحلتين: المرحلة الأولى، سادت فيها الاعتبارات العاطفيّة، وأخذت الجوائز طابعًا تضامنيًّا احتفاليًّا، لا سيما أنّ ما أنتج في بدايات التجربة وصولًا إلى منتصف الثمانينيات، أيّ قبل الانتفاضة الأولى، كان مباشرًا، ضعيفًا فنّيًّا، فيما جاءت المواضيع مكرّرة متشابهة.
المرحلة الثانية، بنى الكتّاب المعتقلون على ما تمّ تأسيسه أدبيًّا، وطوّروا كتاباتهم عن طريق التجريب والقراءة والتعلّم من تجارب شعريّة وروائيّة عربيّة وعالميّة، إضافة إلى أنّ التجربة الثقافيّة العامّة في الاعتقال تطوّرت ونضجت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وكان لذلك تجلّياته في النتاجات الأدبيّة. وما صدر في السنوات الأخيرة من أعمال روائيّة وشعرية، وحتّى على مستوى القصّة القصيرة والنصوص المفتوحة، شهد تطوّرًا، حيث تمكّن بعض الكتّاب من إحداث نقلات نوعيّة في تجاربهم الإبداعيّة.
يتابع عبد الله حديثه قائلًا: أعتقد أنّ فوز الروائيّ باسم خندقجي لم يكن مجرّد تعاطف من لجنة تحكيم لديها معاييرها النقديّة لجائزة معروفة ومهمّة، بقدر الاحتكام إلى الاشتراطات النقديّة، ولولا أنّ اللجنة وجدت في هذه الرواية قيمة فنّيّة وعمقًا في المضمون لما مُنحت رواية "قناع بلون السماء" جائزتها، مع الإشارة إلى أنّ هناك عددًا من الإصدارات لكتّاب وأدباء ما زالوا يقبعون في الاعتقال تستحقّ الاحتفاء بها ليس على المستوى العاطفيّ، وإنّما استنادًا إلى النقد بمعاييره الفنّيّة.

 حسن عبادي



ويقول حسن عبادي: شخصيًا لا أؤمن بالجوائز الأدبيّة، مهما كانت، وقلتها سابقًا بصريح العبارة: باسم خندقجي وغيره من الأسرى الكتّاب أكبر من كلّ الجوائز، وحتمًا سيكون لديهم ما يقولونه حول فوز روايته بـ"جائزة البوكر"، وغيره ممّن "حازوا" على الجوائز في السنوات الأخيرة، وهم كثُر، والنقاشات المتداولة، الفنّيّة وغير الفنّيّة، وقلتها بصريح العبارة بأنّ الجوائز ومن يمنحها يتكرّمون بأسرانا الكتّاب وكتبهم.
يضيف عبادي: خندقجي وغيره من الأسرى الكتّاب لا يرغبون بتسهيلات من النقّاد بالتعامل مع كتاباتهم، فهم على ثقة بما يكتبون، ولديهم المناعة لتقبّل أيّ نقد، وممّن كان، وكتاباتهم تستحقّ. من تجربتي، قمت بالتشبيك بين الأسرى الكتّاب ونقّاد من العالم العربيّ الذين تناولوها وأدلوا بدلوهم، ممّا أثلج صدورهم، أكثر بكثير من كلّ الجوائز، مهما كانت.
بكلّ تواضع، أقول بأنّ بعض الكتابات على مستوى فنّيّ عالٍ جدًا، ومن أفضل ما كُتب بالعربيّة بالسنوات الأخيرة، وهذه ليست فقط شهادتي، بل ما أسمعه من أصدقائي الكتّاب والنقّاد في العالم العربيّ.
ويرى رائد محمد الحواري أنّه قبل الحديث عن باسم خندقجي، ننوه إلى حصول الكاتبة الأسيرة المحرّرة عائشة عودة على "جائزة مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ" لعام 2015، والتي تنظمها الجالية العربيّة في ألمانيا، عن رواية "أحلام بالحرّيّة"، كما حصل الكاتب الأسير كميل أبو حنيش على "جائزة دولة فلسطين في مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة" لعام 2023 عن كتابه "الكتابة والسجن"، وهذا ما يؤكّد أنّ "أدب الأسرى" تجاوز حالة التعاطف ليصل إلى الإبداع.
وأضاف الحواري: بالنسبة لرواية خندقجي "قناع بلون السماء" فهي رواية مثيرة، تطرح أسئلة وجوديّة متعلّقة بطبيعة الكيان الصهيونيّ وتركيبته الفكريّة والاجتماعيّة، كما تطرح طريقة تعامله مع الفلسطينيّ، واللافت في الفكرة أنّها لم تأتِ بصورة مباشرة، بل من خلال الأحداث والأسئلة التي يطرحها بطل الرواية "نور/ أور"، وبما أنّنا نجد هنا تلاقيًا في معنى الاسم العربيّ والعبريّ، فهذا ما يجعل الرواية توصل فكرة عنصريّة هذا الكيان، الذي ينحاز لليهوديّ على حساب الفلسطينيّ، كما توصل الرواية طبيعة الكيان القائمة على الكذب (وتضخيم ديمقراطيّته)، لهذا هو كيان هش، وغير أصيل، ويمكن أن يهزه أيّ فعل، أو حدث، أو قول.

اختراق جدران السجن إلى عالم أرحب

سألنا الكتّاب والنقّاد ممّن تواصلنا معهم عن المصادر التي يستقي منها الأسرى موضوعات أعمالهم الأدبيّة، فأفادنا د. حسن عبد الله قائلًا: أوّلًا، الأديب، وأيّ أديب، ينطلق في تجاربه الكتابية الإبداعيّة من الذات، فهو يكتب لتفريغ شحنات انفعاليّة، ويكتب ليتوازن داخليًّا، فالكتابة في البداية هي فعل ذاتيّ، ثمّ يكتب الأديب لينقل رسالة للآخرين تشكّلت ذاتيًّا، وأراد تعميمها لتحقيق فائدة أوسع، فللكاتب معاناته الخاصّة التي هي محفّزه الرئيس للكتابة.
أمّا مصادره ومواضيعه فيستقيها من: تجربته الخاصّة بثقافته وتكوينه النفسيّ، ومن تجارب شركائه في التجربة والمعاناة، وهم كثر، ومن معاناة وطموح شعبه، ومن التجارب الإنسانيّة الكونيّة.
عبد الله يرى أنّ الإنسان المعتقل نتيجة حصيلة ما قرأ من كتب عربيّة ومترجمة، وما استمع إليه من برامج وأخبار عبر الراديو، وما شاهد في التلفاز، خصوصًا أنّه في النصف الثاني من الثمانينيات أصبح في مقدوره الاستماع إلى الراديو، ومشاهدة التلفاز، ولم يعد عالمه محصورًا في مواضيع وأحداث معينة، بل إنّ قلمه قد خرج أديبًا من دائرة الاعتقال، وتحرّر من القيود وضيق المكان وضغطه إلى عالم أرحب، وبذلك كسرت الكتابات طوق الحصار، وانطلقت مجسّدة الحرّيّة المعبّر عنها في المقولة الفلسفيّة التالية "الحرّيّة هي معرفة الضرورة".
من جهته، أفاد حسن عبادي أنّ غالبية الأسرى الكتّاب قرّاء ومثقّفون، ومن خلال مبادرتي "لكلّ أسير كتاب" التي من خلالها بادرتُ بمشروع إيصال إصدارات كتّابنا لأسرانا القابعين خلف القضبان، اخترقت آلاف الكتب جدران السجن لتصل أسرانا، وكذلك كتب أخرى تصلهم من أهاليهم، وهناك حلقات قراءة وحلقات تثقيفيّة داخل السجون، ويستقون أحداث أعمالهم الأدبيّة من تجربتهم الحياتيّة، قبل وخلال الأسر، وممّا يقرؤونه.
أمّا رائد محمد الحواري، فيرى أنّ الأدباء بصرف النظر عن مكان تواجدهم وطبيعتهم، يعتمدون في كتاباتهم على ما يخزنونه في العقل الواعي، أو الباطن، كما أنّ للمعرفة والثقافة التي يعتمدون عليها دورًا في تحديد الأفكار التي يطرحونها، فعلى سبيل المثل كتب باسم خندقجي الرواية التاريخيّة "مسك الكفاية، خسوف بدر الدين"، وكتب عن معاناته كأسير في سجون الاحتلال من خلال رواية "نرجس العزلة"، وكتب عن تعلّقه وعشقه للحرّيّة من خلال ديوانه "طقوس المرّة الأولى"، كما تناول حالة الصراع بين الفلسطينيّ والصهيونيّ في رواية "قناع بلون السماء"، وهذا التنوّع يؤكّد اتّساع المعارف/ المراجع، الثقافات التي تؤثّر على الكاتب الأسير، لهذا نجد تنوّعًا في مواضيع الأعمال التي يكتبها، وكذلك تنوّعًا في الأجناس الأدبيّة.

أسيرات محرّرات يكتبنّ "ترانيم اليمامة"
"أين كتابات الأسيرات؟ ولماذا لا يتمّ الإشارة إلى أعمالهنّ في معظم كتابات النقّاد؟" كان هذا سؤالنا الأخير الذي توجهنا به لد. حسن عبد الله، فقال: بموضوعيّة وأمانة بحثيّة وعلميّة، فإنّ ما أنتجه المعتقلون هو أضعاف ما أنتجته المعتقلات للأسباب التالية: أوّلًا، لا تناسب في عدد الذين زُج بهم في الاعتقال بين ذكور وإناث، فالذكور كانوا عدديًا أضعاف عدد المعتقلات، لذلك واستنادًا إلى الكمّ العددي، فإنّه من الطبيعيّ أن ينتج التعداد الكلّيّ الأكبر للمعتقلين عددًا أكبر من الأدباء. ثانيًا، خاض التجربة في ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثمّ في الانتفاضة الأولى وما بعدها، عدد من الكتّاب والأدباء من ذوي التجارب الوازنة، واستطاعوا في الاعتقال أن ينتجوا أعمالًا أدبيّة نوعيّة بعد أن أمدّتهم معاناة الاعتقال بتجارب وطنيّة وإنسانيّة عميقة.
ثالثًا، بعض الكاتبات المعتقلات حفرن تجاربهنّ الإبداعيّة عميقًا، وخرجن بكتب حظيت بالاحترام والتقدير، كالكاتبة عائشة عودة، فيما عبّرت كاتبات أخريات عن تجاربهنّ خلال الاعتقال في إصدارات خاصّة، كما فعلت نادية الخياط، على سبيل المثال لا الحصر.
حسن عبادي يرى أنّ للأسيرات الكاتبات حضورًا على الساحة الأدبيّة في "أدب الحرّيّة"، وبدأ يظهر أكثر وأكثر في السنوات الأخيرة، ومنهنّ عائشة عودة، ومي الغصين، وأماني حشيم، ونادية الخياط، وإسراء جعابيص، ومنى قعدان، ووداد البرغوثي، وقد صدر في عام 2022 كتاب جماعيّ بعنوان "ترانيم اليمامة... مذكرات أسيرات محرّرات"، شاركت في كتابته إحدى عشرة أسيرة. وبدأ النقّاد في تناوله بعد أن سلّطنا الضوء عليه من خلال مبادرة "أسرى يكتبون" مع رابطة الكتّاب الأردنيّين، ومبادرة "لكلّ أسير كتاب".
فيما قال رائد محمد الحواري: أعتقد أنّ عدد الأسيرات قليل جدًا، إذا ما قورن بعدد الأسرى، فعددهنّ لا يتجاوز 5%، وهذا انعكس على حجم الأعمال الأدبيّة التي أنتجتها الكاتبات الأسيرات، لكن كما قلنا هناك تجربة عائشة عودة التي كتبت روايتها من خلال ثنائيّة "أحلام بالحرّيّة"، و"ثمنًا للشمس"، ومجموعة قصصيّة بعنوان "يوم مختلف"، كما كتبت الأسيرة المحرّرة نادية الخياط رواية "احترقت لتضيء"، وكتبت مي الغصين رواية "حجر الفسيفساء". كلّ هذه الروايات تمثّل سيرة اعتقاليّة، وتعكس تجربة الأسيرات في الأسر، وهنالك كتاب "موجوعة" للأسيرة المحرّرة إسراء جعابيص، وكتاب "العزيمة تربي الأمل" للأسيرة المحرّرة أماني حشيم. كما أنّ كتاب "ترانيم اليمامة" الذي يضمّ مجموعة من الأديبات الأسيرات يعطي صورة عن الاهتمام بكتابات الأسيرات.
أمّا بالنسبة للنقّاد، وتناول أعمال الأسيرات، فقد قامت رابطة الكتّاب الأردنيّين بإقامة أكثر من ندوة تحت عنوان "أسرى يكتبون"، تناولوا فيها كتابات الأسيرات، ومنهنّ نادية الخياط، ومي الغصين، كما تمّ إشهار كتاب "ترانيم اليمامة" في نابلس وفي إربد، وقد تناول عدد من النقّاد أعمال الأسيرات.


عائشة عودة:
تجربتي جزء من النضال الفلسطينيّ الكلّيّ

عائشة عودة


للوقوف على مدى أثّر تجربة الأسر في السجون الإسرائيليّة على توجّهات وأفكار ورؤية الكاتبات الأسيرات للحياة بعد الأسر، تحدّثنا مع الكاتبة والأسيرة المحرّرة عائشة عودة، صاحبة روايتي "أحلام بالحرّيّة" (2001)، و"ثمنًا للشمس" (2012)، والحائزة على "جائزة مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ" لعام 2015، فقالت: أعتقد جازمة أنّ أسوأ نظام اختلقه البشر على وجه الأرض هو نظام السجون، فتأثيره تدميري يطاول كلًّا من المسجون والسجّان، وامتداداتهما في المجالات المختلفة، وباتّجاهات غير متماثلة.
تابعت "قبل الحديث عن تجربتي الخاصّة، وأثرها عليّ بالذات، أنوه أنّ تجربتي مجرّد جزء من النضال الفلسطينيّ الكلّيّ خلال قرن من صراعه الوجوديّ، ولا يمكن أن تكون إلّا في هذا الإطار... توجد في السجن إرادتان متصارعتان بشكلٍ متواصل من نقطة الصفر. وتأثير السجن بالضرورة كلّيّ؛ جسديّ وانفعاليّ وعاطفيّ واجتماعيّ وفكريّ. لم أدرك أنا وغيري أنّ حدّتي في التعامل تكوّنت كإجراء وقائي لمواجهة سياسة السجّان! لم أدرك صعوبة بلورة أفكاري، وأنّها أتت نتيجة الضرب على الرأس. ومن المؤكّد أنّ الآخرين لم يدركوا ذلك، وصار الأسر صبغة ملازمة للإشارة لي؛ ’الأسيرة المحرّرة’"!
أمّا على المستوى الفكريّ؛ تتابع عودة: فقد أصبحت أفهم طرق تفكير العدو، ونقاط قوّته وضعفه بشكلٍ جيد. لكنّ الغريب أنّ لا أحد سألني، أو ناقشني في إيماني بحقّنا في وطننا ونضالنا. إيماني هذا هو جذور وجودي، وفي كلّ ما أفعل؛ في سجني وحرّيّتي إلى يوم الدين. وتعمّقت معادلة هم معتدون ونحن أصحاب الحقّ.
وبسؤالها: هل نالت كتابات الأسيرات اهتمام النقّاد كما هو الشأن لنتاج الأسرى الأدبيّ؟ وكيف تنظر إلى حصولها إلى جانب عدد من الكتّاب الأسرى على جوائز أدبيّة محلّيّة وعربيّة؟ أجابتنا: أوّلًا، لديّ مشكلة جدّيّة مع مصطلح "أدب السجون"، فالسجون لا تنتج أدبًا، لأنّها نظامٌ لقمع الإنسان وإبداعاته (كم من شاعر، أو كاتب، أو مفكّر، تمّ أسره!). الإنسان هو الذي ينتج الأدب والفنّ، فكيف سُلب الأدب من مُنتجه وأعطي للسجن؟ ثنائيّة المقارنة هذه، لا أحب الدخول فيها.
كتابي "أحلام بالحرّيّة" وفور صدوره، حظي بما لم يحظَ به أيّ كتاب آخر كتبه أسرى، أو غيرهم، حيث تناوله كثير من النقاد الفلسطينيين والعرب.
وكتب الناقد عادل الأسطة: "ها نحن ننجح أخيرًا في كتابة نصّ ناضج فنّيًّا وأدبيًّا ولغويًّا... عن تجربة الفلسطينيّ في السجون الإسرائيليّة... يمكن أن يوضع بجدارة إلى جانب رواية "شرق المتوسط"...". وكان أن أعيدت طباعته مرّتين خلال السنة الأولى من صدوره. كما كان موضع رسائل ماجستير ودكتوراة في معظم البلدان العربيّة، وحتّى في الهند، ونال مع الكتاب الثاني "ثمنًا للشمس"، "جائزة مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ" لعام 2015.
تتابع عودة: شعبنا يحتفي بالأدب والكتابة الجيدة، سواء كان لكاتبة، أو كاتب. الأدب هو الأدب. وكم سعدت حين فازت رواية "قناع بلون السماء" للكاتب الأسير باسم خندقجي بـ"جائزة البوكر". إنه انتصار لإرادة المناضل الفلسطينيّ واستحقاق لأسرانا المناضلين الصامدين والمبدعين.
وعن الكتابة خلف القضبان، والتضييق الكبير والمنع الذي يواجه الكتّاب الأسرى من قِبل سلطات السجون، تقول: سلطات السجون صادرت كلّ ورقة كُتبتْ. فكَتبتُ بعد عشرات السنوات من تحرّري. ومن كَتبت من النساء، كان بعد التحرّر.
وما كتبته داخل السجن كان لأهداف فكريّة، ولتعزيز صمودنا. لم أفكر قط بأن أكون كاتبة، لكنّي رغبت بالتعبير عن نفسي بالألوان.

[يتبع جزء ثان وأخير]

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.