}

أحمد دلباني: نعيش زمن فينكلكروت العنصريّ لا فولتير التنويريّ

أوس يعقوب 23 فبراير 2024
أحمد دلباني باحث وكاتب وشاعر جزائريّ يعمل أستاذًا للفلسفة. مهتمّ بقضايا الفكر العربيّ وأسئلة النهوض الحضاريّ والتنوير والحداثة من زاوية نقديّة/ تفكيكيّة. كما يهتمّ بمشكلات الفنّ والإبداع الأدبيّ.
نشر عددًا من الأبحاث والدراسات الفكريّة والنقديّة في الجزائر والبلاد العربيّة.
صدر له عن "دار التكوين" في سورية: "مقامُ التحوّل: هوامش حفرية على المتن الأدونيسي" (2009)؛ "سِفرُ الخروج: اختراقُ السّبات الأيديولوجيّ في الثقافة العربيّة" (2010)؛ "موتُ التاريخ: منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة" (2010)؛ "قدّاسُ السقوط: كتاباتٌ ومراجعات على هامش الربيع العربيّ" 2012؛ "رمل اليقين: المُجتمع العربيّ وأسئلة الثورة والديمقراطيّة" 2015؛ "مفاتيح طروادة / كتابات في أزمنة الهويّات المغلقة" 2016؛ "صندوق باندورا؛ هوامش على خطابات الهويّة والعنف"، 2017؛ "أدونيس: بروميثيوس عربيّ"، الذي صدر باللغة الفرنسيّة ضمن سلسلة "مئة كتاب وكتاب"، منشورات "معهد العالم العربيّ" INSTITUT DU MONDE ARABE، باريس 2019؛ "في الحداثة والهويّة، محاورات"، "دار سؤال"، الجزائر 2020؛ وأخيرًا: "خطيئة الدفاع عن قايين: مأساة غزّة... وتهافت الفلاسفة"، الذي سيصدر قريبًا عن "دار خيال" بالجزائر.
هنا نص الحوار، الذي يتمحور حول كتابه الجديد.



بداية سألنا صاحب "مفاتيح طروادة؛ كتابات في أزمنة الهويّات المغلقة"، كيف تبلورت فكرة كتابه الجديد «خطيئة الدفاع عن قايين: مأساة غزّة... وتهافت الفلاسفة» الذي سيصدر قريبًا؟ فأجابنا: هذا الكتابُ وليدُ الحدث واللحظة الدامية التي تشهدها الأرضُ العربيّة الفلسطينيّة المحتلّة المُحاصَرة منذ أشهر. فقد لاحظتُ، بكلّ أسفٍ، كيف خيّم الصّمتُ المُريبُ على مُعظم المُثقّفين العرب الذين اكتفى بعضُهم بتسجيل أسمائهم ضمن قوائم المُوقّعين على بيانات التنديد المكرورة المُبتذلة. لقد أصبح من الجليّ أنّ الصراعَ لم يعُد على الأرض فحسب، وإنّما أيضًا مع سرديّاتٍ ثقافيّة لها قوّتها وأثرها في صناعة الوعي العامّ أو تكريس "رؤية للعالم" والأشياء تخدمُ الهيمنة وشرعيّة الاحتلال. وبالتالي فزيادة على ما يجري على الأرض الفلسطينيّة من فظاعات غير مسبوقة منذ الحرب العالميّة الثانية، رأيتُ أنّ ما يمنحُ دولة الاحتلال نوعًا من شرعيّة مزاعم "حقّ الدفاع عن النفس" ومجابهة "معاداة الساميّة" هو ذلك الأساسُ الثقافيّ المرتكز إلى تزييف التاريخ وإلى سرديّاتِ الاستعمار لا غير. من هنا رأيتُ أن أكتبَ شيئًا ينتصرُ للمظلومين تاريخيًّا مانحًا صوتي لهابيل في مواجهة قايين (قابيل) القاتل.
لعلك تعرفُ، صديقي، كيف أنّ المُثقّف الغربيّ الذي طالما سحرَ الأنتلجنسيا العربيّة منذ بدايات "عصر النهضة" وكان يمثّل انبلاجَ فجر جديدٍ للذات المُتحرّرة والمُتحدّثة، بكلّ هيبةٍ، عن قِيم الحقّ والعدالة والحرّيّة والكرامة الإنسانيّة – هذا المُثقّفُ صار شاحبَ الوجه ولم يعُد يمتلك القدرة على تمثيل سلالة فولتير أو إميل زولا أو برتراند راسل أو سارتر أو تشومسكي. لقد سقط أخلاقيًّا بعد أن أصبح موظفًا لدى زبانية جماعات الضغط الصهيونيّة ومنابرها الإعلاميّة؛ كما لم يعُد بإمكانه، أيضًا، الحديثُ باسم القِيم "الكونيّة" وقد كشفت عن منابتها الحضاريّة وتحيّزها الثقافيّ للمركز الغربيّ المُهيمن. هذا ما دفع بي إلى تحرير كتابي عن غزّة مُعتبرًا ما أفصح عنه فلاسفة الميديا الغربيّين – والفرنسيّين بخاصّةٍ – شيئًا لا أتحرّجُ في وصفه بـ "تهافت الفلاسفة" الإنسانيّ والأخلاقيّ. هذا الكتابُ، كما تستطيعُ أن تلاحظ، هو كتابٌ سجاليٌّ غاضب Pamphlet ضمّنته ردًّا على هذه النخب التي تُسهمُ في صناعة الرأي العامّ وتوجيهه ممّا يجعلها تُؤدّي، على ما أرى، دور "كلاب الحراسة" إن استعرنا وصف الكاتب بول نيزان لبعض مُثقّفي مرحلته الذين استقالوا من وظائفهم النقديّة وطفقوا يحرسون الوضعَ الجائر القائم. أو قلّ، إن شئت، إنّ كتابي هو بمثابة طبعةٌ عربيّة من بيان إميل زولا الشهير الذي كتبه سنة 1898 وحمل عنوان "إني أتّهم".




فأنا أتّهمُ فيه معظم مُثقّفي الغرب وفرنسا بالانحياز إلى السرديّة الصهيونيّة في النظر إلى الصراع الدّائر، كما أدينُ فيه مواقفَهم المناصرة لدولة الاحتلال وعماوتهم الأيديولوجيّة التي جعلتهم كالأعشى أمام معاناة الشعب العربيّ الفلسطينيّ. ولكنّني أستدركُ لأقول هنا، خشية السقوط في التعميم، إنّني أقصدُ بانتقادي جُلّ الفلاسفة الذين مالوا ذات اليمين وانكمش لديهم الحسّ الإنسانيّ إلى الدرجة التي باتوا فيها مُتحدّثين باسم القبيلة العرقيّة - الدينيّة لا الإنسان باعتباره القيمة العليا. 

زمن فينكلكروت العنصريّ لا فولتير التنويريّ
عن الأفكار والأطروحاتُ الرئيسية التي يتضمّنها الكتاب؟ وهل هناك مواقف، أو نصوص، أو مراجع، كان لها تأثير خاصّ، أو قرأها أثناء إنجاز العمل؟ يقول صاحب "سِفرُ الخروج: اختراقُ السّبات الأيديولوجيّ في الثقافة العربيّة": هذا الكتابُ، بصورةٍ عامّة، هو مراجعة نقديّة خاطفة للحضارة الغربيّة من خلال بعض أوجهها الثقافيّة والفكريّة التي ابتلعتها رمال اليمين الهويّاتي العنصريّ المُتحرّكة. وقد أشرتُ - من خلال تناولي لظاهرة الانكماش الهويّاتي - إلى أنّ حسّ النهايات الذي غمر، مؤخرًا، الخطابَ الفلسفيّ الغربيّ مثل وعيًا فجائعيًا جعله يعتصمُ بالذات التاريخيّة مُشيحًا بوجهه عن كلّ ما ميّز تاريخ الحداثة الغربيّة الانقلابيّ معرفيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا. فهذا هو زمن الفيلسوف الفرنسيّ آلان فينكلكروت العنصريّ لا فولتير التنويريّ كما هو واضح. هذا ما جعل، بمعنى ما، المُثقّفَ الغربيّ الراهن يحتمي بالقبيلة الثقافيّة وقلعة الهويّة في شكلها العرقيّ والدينيّ ردًّا على تفكّك مركزيّته وتراجعه الحضاريّ. فلم تعُد الأنتلجنسيا الغربيّة اليمينيّة اليوم تتحدّثُ عن الانتماء للحضارة ذات الجذور "الإغريقيّة – الرومانيّة" وإنّما للقبيلة "اليهوديّة – المسيحيّة". وقد انعكس هذا الأمرُ، كما هو واضحٌ، على الموقف من الآخر المختلف بعد تراجع خطاب الكونيّة الذي مثله اليسارُ التاريخيّ والثقافيّ. إنّ القضيّة الفلسطينيّة تظلّ المؤشّر الأبرز على هذا التحوّل الذي جسّد "بؤس الفلسفة" الغربيّة فكريًّا وأخلاقيًّا معًا. فقد انحاز هؤلاء الذين أسميتهم "فلاسفة البؤس" إلى السرديّة الصهيونيّة الغربيّة مُدافعين عن الذئب التاريخيّ وعن شرعيّة الاحتلال وأدبيّات "الأرض الموعودة" وأكاذيب "الأرض التي بلا شعب". لقد غابت العدالة ليحلّ محلّها الانتماءُ الطائفيّ، وغاب الإنسانُ لتحلّ محلّه القبيلة. وهذا الأمرُ واضحٌ وجليٌّ؛ فالغربُ لا يُخفي أنه يدافعُ عن آخر حصونه في الشرق الأوسط. ولكنّني أستثني بعض الأسماء الكبيرة التي حافظ خطابها الفكريّ على استقلاليّته عن مراكز الجذب اليمينيّة المُهَيْمِنة نظيرَ ما رأينا مع إدغار موران.
لقد وجدتُني، كما قلتُ آنفًا، مدفوعًا إلى أن أدبّجَ "إنّي أتّهم" (J’accuse) على غرار إميل زولا في طبعةٍ عربيّة للردّ على فلاسفة البؤس الذين آثروا الدفاعَ عن ظلم تاريخيٍّ لحق بالفلسطينيّين ولم يجدوا حرجًا في قبول سرديّات الاحتلال وحلفائه الغربيّين والأميركيّين التي برّرت المأساة والنكبة. فالصهيونيّة، بمعنى ما، امتدادٌ لأيديولوجيّات الرجل الأبيض الأوروبيّة القوميّة التي مهّدت لاحتلال أرض الآخرين متذرّعة بأساطير "الأرض الموعودة" وقوّة الإرهاب والسلاح من أجل تشريد شعب كامل ومَحو وجُودِه من التاريخ والجغرافيا وكأنّه "هنديٌّ أحمر" آخر وبإخراج هوليوديّ أميركيّ أيضًا. لقد لاحظ الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز ذلك وهو يكتبُ عن انتفاضة أطفال غزّة الأولى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. فالصهيونيّة – مع شبكة تحالفاتها - هي "داءُ العصر" بامتياز كما كانت توصفُ كآبة الرومانسيّين الأُوَل في بداية القرن التاسع عشر.
لقد كتبتُ هذا الأثر – الموقف في مناخ الحرب الوحشيّة وعلى وقع المذابح اليوميّة في غزّة الشهيدة. كان هذا الأمرُ مؤلمًا جدًّا وقاصمًا للكيان وفاضحًا لما تبقى من الكرامة العربيّة والإنسانيّة في عالم عاجز مُتواطئ مع المُجرم التاريخيّ الذي هندسَ، منذ عشريّاتٍ، هذه المأساة وفق تعاليم ميكيافيلي وفي أفق مَعنى قطع مع تطلّعات الإنسان العميقة إلى العدالة مُنحدرًا، بذلك، إلى وحل البراغماتية الضيقة. كتبتهُ، بمعنى آخر، في سَورةٍ من الغضب والشعور المُؤلم بالعجز عن فعل أيّ شيءٍ. انتابني إحساسٌ فاجع بأنّني طائرٌ عجوز مُتهالك الخطى. وبدا العالمُ كلّه حكاية سُقوطٍ لا ينتهي. هذا ما منح كتابي – من الغلاف إلى الغلاف - تلك النبرة الغاضبة الفاضحة للعبة ارتهان جارية الثقافة في فراش السياسة.    
لقد قال ألبير كامو يومًا ما، بحقٍّ، إنّ الكاتب الحقيقيّ لا يمكنه أن يضع نفسَهُ وفنّهُ في خدمة من يصنعون التاريخ وإنّما في خدمة ضحاياه. ولكنّنا – بكلّ أسفٍ – نعيشُ اليوم عهدًا غير سعيدٍ بالنسبة للقضايا الإنسانيّة الكبرى. فالكثيرُ من المثقّفين، كما رأينا، ينحازون صراحة إلى بعض صانعي تراجيديا العالم مُشيحين بوجوههم عن ضحاياه الذين تحمّلوا أوزارَ حماقاتِ إرادة القوة وفائض رغبة الهيمنة في منطقتنا العربيّة. إنّه، فعلًا، زمنُ "تهافت الفلاسفة".   

فضح بطانة الغرب الرسميّ الثقافيّة والأيديولوجيّة
يشير صاحب «قدّاسُ السقوط: كتاباتٌ ومراجعات على هامش الربيع العربيّ» في هذا الكتاب «خطيئة الدفاع عن قايين: مأساة غزّة... وتهافت الفلاسفة»، إلى أنّه قام بالردّ "على بعض فلاسفة الميديا الغربيّين – والفرنسيّين بخاصّة – من الذين مالوا ذات اليمين انتصارًا للسرديّة الصهيونيّة والأطروحة الثقافويّة التي يرى أصحابها في الصراع الدائر في الشرق الأوسط "حربًا حضاريّة" و "حربًا دينيّة" أو كما يذهب البعض منهم – بكلّ صلافةٍ – إلى اعتبارها حرب "الحضارة" ضدّ "البربريّة" لا مقاومة مشروعة لاحتلال تمادى في وحشيّته منذ عشريّات خلت". وفي هذا السّياق يرى المفكّر العربيّ الدكتور عزمي بشارة أنّ العالم شهد "كمية هائلة من الأكاذيب والدعاية المكثّفة بهدف جعل الحرب على الفلسطينيّين كما لو أنّها حربٌ مُقدّسة". وهو ما يدعونا لسؤال محدّثنا: كيف يرى طبيعة الصراع الدائر في الشرق الأوسط؟ ولماذا يُصرّ الغرب على اعتبارها "حربًا حضاريّة" أو "حربًا دينيّة مُقدّسة"؟ فأفادنا: بداية أتّفقُ كلّيًّا مع تحليل وقراءة المفكّر العربيّ البارز الدكتور عزمي بشارة. وهذا، تحديدًا، ما حاولتُ التركيز عليه أيضًا في كتابي ولكن من زاوية النظر التي اخترتها لفضح بطانة الغرب الرسميّ الثقافيّة والأيديولوجيّة المُسوّقة من خلال فلاسفته وقد تخلّوا عن مهامّهم النقديّة ليُصبحوا موظفين. "عودة الصعلوك الضال إلى حضن القبيلة": هذا ما يُمكن أن يكون عنوانًا لمواقف مُثقّفي اليمين الثقافيّ والسياسيّ في الغرب اليوم. ولعلّ أحداث هذه الحرب الوحشيّة على غزّة الصامدة قد كشفت المستور في مواقف الكثير منهم وهم يصطفّون لتقديم الولاء غير المشروط لانتماءاتهم الثقافيّة والحضاريّة على حساب الانتصار للإنسان المُضطّهَد وحقّه في الحياة والحرّيّة والكرامة، وعلى حساب العدالة التي تقتضي - أوّل ما تقتضي - زوال الاحتلال وحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره. فقد سمعنا بعضهم يتحدّثُ، نظير ميشال أونفري، عن "حرب حضاريّة" بين الغرب والعالم الإسلاميّ. وسمعنا لوك فيري يتحدّثُ عن أورشليم (القدس) بوصفها ركنًا من أركان الحضارة الغربيّة كأثينا وروما لا يُمكن تصوّر الغرب الحضاريّ بدونها. هكذا يتمّ حجبُ البُعد السياسيّ عن القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة شعب تحت الاحتلال يُعاني، منذ عقودٍ طويلةٍ، ممارسات القمع والاضطّهاد والتهجير القسريّ وسرقة الأرض والإذلال اليوميّ والاعتقال التعسّفيّ. فهذه الحربُ ليست حربًا حضاريّة إسلاميّة ضدّ الغرب وإنّما هي مقاومة فلسطينيّة من أجل تحرير الأرض المحتلّة. هي مشكلة سياسيّة بالأساس ولا علاقة لها بأوهام فلاسفة البؤس الذين يسكنهم رهابُ الإسلام بصورةٍ مَرَضيّة.




كما أنّ الصراعَ الدائر اليوم في الأرض المحتلّة ليس حربًا مبعثها "معاداة الساميّة" وإنّما مقاومة الاحتلال وممارساته الإجراميّة وانتهاكاته التي لا تتوقّف ضدّ الشعب الفلسطينيّ في الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة المحتلّة. وهل من الضروريّ أن نذكر، هنا، أنّ حركة المقاومة العربيّة - الفلسطينيّة ظهرت بوصفها حركة تحرّريّة من أجل استعادة الأرض والكرامة السليبة ولم تكن أبدًا حركة عنصريّة ضدّ اليهود. أقول هذا، هنا، كي لا يتمّ تعمّدُ الخلط بين المقاومة المشروعة للاحتلال وما يُسمّيه الغربُ المريض بتأنيب الضمير "معاداة الساميّة" في مُعجمه المُثقَل بأصناف الندامة. لقد ظلّت مشكلة العرب والفلسطينيّين قائمة دومًا مع الأيديولوجيّة الصهيونيّة الاستعماريّة التي رأت النور في الغرب الحديث إبّان ظهور الحركات والنزعات القوميّة المعروفة ولم تكن مع اليهود بوصفهم عرقًا أو جنسًا. ونحنُ نفهمُ، جيدًا، الأسبابَ والدّواعي التي جعلت الغربَ الغارق في أزمة الضمير - بعد الحرب العالميّة الثانية - يفكّر في وطن قوميٍّ يجمعُ شتات الناجين من المحرقة بعد فشل حداثةِ العقل والدولة القوميّة والمواطنة الحديثة في استيعابهم والإبقاء على خصوصيّتهم الثقافيّة والدينيّة ضمن الجسم الاجتماعيّ – الثقافيّ – السياسيّ الغربيّ. لقد أردتُ التنبيه إلى أنّ "معاداة الساميّة" لم تكن نتاجًا عربيًّا ولم تحبل بها حياتنا بالشكل الرّهيب المُرعب الذي رأيناه في الغرب الحديث وهو يزيحُ الآلهة من المشهد التاريخيّ ويستعيضُ عن العلو التقليديّ المُضمحل بالقبائل القوميّة الحديثة وعبادة الذات الجماعيّة حدّ الهوس الفاشيّ المعروف. ولا داعي للتذكير، هنا، أنّ "شايلوك" لم يكن شخصيّة دراميّة عربيّة؛ كما لم تكن قضيّة الضابط "درايفوس" فضيحة عربيّة أيضًا. والأهمّ من ذلك كلّه لم يفكّر عربيٌّ واحدٌ في ذلك "الحلّ النهائيّ" على شاكلة النازيّين إبّان الحرب العالميّة الثانية. إنّ العربيّ هو ذلك الشيخ الذي يحتفظ، إلى اليوم، بمفتاح بيته القديم في المُخيّم بعد تهجيره قسرًا وإرهابًا سنة 1948. العربيّ هو مُحمّد الدّرة الذي لم يجد حماية، وهو الطفل الأعزل، من رصاص جنود الاحتلال الذين أنجزوا ويُنجزون، جيّدًا، مهمّة تطهير التاريخ من حضور الأرض والإنسان العربيّ الفلسطينيّ. ولكنّ فلاسفة البؤس فضلوا التواطؤ المُعلنَ مع قوى الظلم التاريخيّ وهي تُعلنُ الحربَ على أصحاب الحقّ التاريخيّ في الأرض. لقد ارتدّوا، كما أسلفت، إلى موظفين بائسين يحاولون بخطابهم حجبَ تراجيديا الواقع الفلسطينيّ الأليم وتقديم عرائض الدفاع عن قايين القاتل باسم "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" تارة، أو "الحرب على الإرهاب" وضرورة مقاومة "معاداة الساميّة" تارة أخرى كما جاء، مؤخرًا، في رسالة تأييدٍ لإسرائيل حملت توقيعَ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وثلةٍ من المثقّفين. لقد لاحظنا، في ذلك، الانحياز الأعمى للسرديّة الغربيّة التي جعلت من نقد الكيان الصهيونيّ تابو أو جريرة أخلاقيّة تهوي بصاحبها إلى دركات الخطيئة.
بسؤاله عن موقف الفلاسفة الفرنسيّين؟ ولماذا تبنّى بعضهم الرواية الصهيونيّة، وانضموا إلى جوقة التحريض مُتنازلين عن أبسط قواعد الحياد؟ أجابنا دلباني: إنّ فرنسا ليست بدعًا في الكتلة الحضاريّة الغربيّة. فهي إمبراطوريّة استعماريّة لها مصالح دائمة في أفريقيا والعالم العربيّ. كما أنّها بلدٌ يملك ذاكرة طويلة تتخطّى عصر "الثورة الفرنسيّة" بقِيمها العلمانيّة التنويريّة إلى الانتماء التاريخيّ للمسيحيّة الكاثوليكيّة والعرق الأبيض. هذا الانتماءُ العرقيّ والدينيّ أصبح، كما يُمكننا أن نلاحظ، عُنصرَ تنشيط راهن للهويّة الغربيّة في مواجهة الإسلام والتحدّيات الديمغرافيّة التي يطرحها من خلال الجاليّات العربيّة المُقيمة في هذا البلد. انطلاقًا من ذلك يتصوّرُ "فلاسفة البؤس" الذين ابتلعهم اليمين السياسيّ في فرنسا أنّ مقاومة الاحتلال، في حقيقتها، هي مشروعُ حرب حضاريّةٍ ضدّ الغرب الليبراليّ برمّته. وما دامت إسرائيل دولة ليبراليّة "ديمقراطيّة" فهي، بهذا المعنى، تُعتَبرُ امتدادًا للغرب الحضاريّ ومُمثّلًا للقِيم الغربيّة في تلك المنطقة من الشرق الأوسط. ولا ننسى هنا أيضًا، بطبيعة الحال، الخلفية الثقافيّة والحساسيّة الدينيّة لمن يصفُ حضارة الغرب بأنّها "حضارة يهوديّة – مسيحيّة". إنّ الانكماش الذي أشرنا إليه آنفًا أصبح يُملي على اليمين الثقافيّ مواقف منسجمة مع سرديّة الاحتلال تغيبُ عن مجالها المرئيّ قضايا العدالة والحرّيّة لكي لا يحضر إلّا الأمن وضرورة الدفاع عن آخر حصون "الحضارة الغربيّة". ويُمكننا، هنا، أن نرى في هذه المواقف تمويهًا لجوهر الصراع في الشرق الأوسط بغية تبريره ومنحه طابعًا حضاريًّا (أو دينيًّا) مُقدّسًا في الوعي الغربيّ. فمن شأن الكشف عن مظالم التاريخ وهمجيّة الاحتلال ومعاناة الشعب الفلسطينيّ الطويلة في المخيّمات والمنافي أن تكون متراسًا ينتصبُ أمام مشروعيّة الهيمنة الأطلسيّة في الشرق الأوسط أو ادّعاء الدفاع عن "ديمقراطيّة ليبراليّة" تمثّل حصنًا للغرب الحضاريّ في منطقة ملتهبة تحمل إرثَ مجابهةٍ تنافسيّةٍ وعدائيّةٍ للحضارة "اليهوديّة – المسيحيّة" منذ عهد الحروب الصليبيّة. هذا الأمرُ أصبح لازمة عند القوم إلى الدرجة التي خشيَ فيها أونفري مثلًا على مصير تسعة ملايين يهوديٍّ من أكثر من مليار مسلم! بهذه البساطة وبهذا العمَه الأيديولوجيّ العنصريّ يفهمُ الفيلسوفُ الثرثارُ المنحاز المشكلة. كأنّ المقاومة الفلسطينيّة، في حقيقتها، حربٌ إسلاميّة أعلنها جميعُ المسلمين على اليهود لا مقاومة يخوضها أصحاب الأرض ضدّ احتلال صهيونيٍّ مكّنت له صفقة إجراميّة بين كبار العالم من أجل إيجاد حلّ لما أطلقوا عليه سابقًا اسمَ "المسألة اليهوديّة" بعد فظاعات الحرب العالميّة الثانية والهولوكوست. ولكنّ للتمويه وتزييف الحقائق شأنًا آخر خصوصًا مع كلّ ما يتعلّقُ بالإسلام والمسلمين في هذا الظرف الذي يحتاج فيه الغربُ إلى خصم أيديولوجيٍّ كبير يجعلهُ يتحسّسُ حدودَهُ ويجابه تفكّكه وانهياره الوشيك. ربّما احتاج هؤلاء إلى التذكير الدائم بأنّ "معاداة الساميّة" ليست شأنًا إسلاميًّا أو عربيًّا وإنّما هي نتاجٌ غربيّ خالص، والتاريخ يشهدُ على ذلك كما نعلمُ جميعًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.