يعد أندريه كونت ـ سيبونفيل المولود عام 1952 واحدًا من أبرز الفلاسفة الفرنسيين راهنًا. عاش طفولة شقيّة بين أب عنيف، وأمّ تُعاني من اضطرابات نفسية حادة. مع ذلك، انجذب مُبكرًا إلى حبّ الحياة، رغم قسوتها، وشقائها، من دون أن يسعى للبحث عن السعادة. وفي شبابه، حاول أن يكون روائيًا، بعد أن قرأ أعمال لوي فرديناند سيلين، ومارسيل سيلين، وبروست، إلاّ أنه سرعان ما تخلى عن ذلك لينتسب إلى قسم الفلسفة في دار المعلمين العليا.
وخلال السنوات الأربعين الماضية، أصدر كونت ـ سبونفيل عددًا من الكتب التي أثارت اهتمام الأوساط الفلسفية، لا في فرنسا وحدها، بل في مختلف أنحاء العالم. وفي أغلب مؤلفاته، هو لم ينقطع عن البحث في العلاقات بين السعادة وغياب الأوهام. وتقوم فلسفته على المبدأ التالي: لكي نعيش سعداء، علينا أن نتخلى عن كل ما يمتّ للأمل بصلة.
هنا حوار مع أندريه كونت ـ سبونفيل صدر في مجلة "الفلسفة الفرنسية" في عددها رقم 161 (يوليو/ تموز 2022):
(*) في كتابك "مذاق الحياة"، كتبت تقول: "يهبط المساء، وأنا لا أدري أيّ حزن يصعد ويتلبّسُني، ويفيض عليّ مثل بحر قديم يتجدّد دائمًا". الحزن له حضور دائم ومستمر في أعمالك. من أيّ شيء جاء هذا الانجذاب إلى الحزن؟
هذه الفقرة التي وردت في [مقطع] "غروب" تصف حالة نفسية هي في الحقيقة حالة أفول فيها لا أجد نفسي... كونوا واثقين من ذلك. أحيانًا تكون لي صباحات مُضيئة، لكن مع تقدّم النهار، تكون نفسي في حالة هبوط. وماذا في حالة حزن كهذه، يشدّني، ويشدّ إلى طبع شخصي؟ وماذا يأتي من الوضع البشري؟ هناك الاثنان معًا من دون شك. أنا مُنجذب إلى الحزن، وأنا واع بذلك، وليس من المستبعد أن يكون الناس مسؤولين إلى حد ما. والدي الذي أشبهه كثيرًا جسديًا لم يكن مُنجذبًا هو أيضًا إلى السعادة. غير أني لا أعتقد أن ما هو مهم في حزني يعود إلى سنوات طفولتي. وهذا يجعلني أفكر في جملة لجان بول سارتر في البورتريه الذي خصصه لمارلو بونتي عقب وفاة هذا الأخير: "مارلو بونتي لم يفكّ أبدًا ارتباطه مع طفولته السعيدة". هذه الجملة أثّرت فيّ كثيرًا حين قرأتها، لأنه من جانبي شعرت أني لم أفك ارتباطي بطفولتي الشقية. وقد كان والدي قاسيًا، مثيرًا للاحتقار، وباعثًا على النفور. أما والدتي فقد كانت تعاني من أزمات عصبية حادة، وهذا ما قادها إلى الانتحار. وهكذا تعلمت أن أعيش في حزن والدتي، وفي كراهية والدي، وأن أحبذ ذلك. وقد ساعدتني الفلسفة قليلًا على الشفاء من هذه الطفولة، أكثر من العلاج النفسي الذي تابعته على مدى عامين. وعندما يسألونني لماذا أهتم بالفلسفة، يكون جوابي أحيانًا على النحو التالي: لأن مزاجي الذي هو في نفس الوقت حزين ومهموم، وقليل الإقبال على الحياة وعلى السعادة، لكنه أكثر إقبالًا بقليل على الفكر. لنقل أني جعلتُ قوتي في الفكر في خدمة ضعفي في الحياة.
(*) ما هو الفرق بالنسبة لك بين الحزن والهم؟
الحزن يكون مُنصبًّا على الحاضر، أو الماضي. أما الهم فهو مركّز على المستقبل. لكني أحتمل الحزن أكثر مما أتحمل الهم. وأنا مُسلح جيدًا لكي أعيش مختلف أشكال الحداد. لكني لست مُسلحًا بما فيه الكفاية لكي أواجه الهموم والخوف. مع زوجتي السابقة، فقدتّ أول طفل لنا، وهي فتاة. أبناء لي آخرون يعانون من مشاكل صحية خطيرة. وكل هذا جعل مني أبًا مهمومًا يتجاوز في همومه حزنَ الطفل الذي كنته في البداية، والذي ما يزال يسكنني إلى حدّ الآن.
(*) لنترك قصتك جانبًا، أنت تقول بأن بعض عمق الحزن يعود إلى الوضع البشري. لماذا؟
لست أنا الذي قلت بأن هناك شيئًا من اليأس في الوضع البشري، نحن نشيخ، ثم نموت، وجميعنا مَنْذور للوحدة، وللحاجة للحب، وهما في الوقت نفسه مُتَعَذّر إخمادهما، ودائمًا غير راضيتين. نحن نحلمُ باللانهائي وبالنجاح، لكنه محكوم علينا بالنهاية وبالفشل. وأنا أحبّ هذه الجملة لسارتر: "أي قصة حياة هي قصة فشل". وصديقي لوك فيري اختار العنوان التالي لكتابه: "ما هي الحياة الناجحة؟"، فكرة مُسلية للغاية... وأنا لا أزعم أني نجحتُ في حياتي، لأن ذلك يبدو لي شكلًا من أشكال الحمْق والبلاهة. والتراجيديون الإغريق كانوا قد بيّنوا جيدًا أن الإنسان ليس مأهولًا لا للسعادة ولا للنجاح. وهذا أيضًا أحد دروس باسكال حين كتب: "نحن لا نعيش، بل نحن نأمل أن نعيش. وإذا ما نحن رغبنا في أن نكون سعداء دائمًا، فإنه من المحتوم أن لا نكون كذلك أبدًا". كلمة "محتوم" لها ثقل هنا. هل كان باسكال حزينًا؟ لا شك في ذلك. إلاّ أنه كان يتميز بالوضوح والصفاء تجاه الوضع الإنساني: نحن عاجزون عن أن نكون سعداء ـ وهو ما يُسمّيه ببؤس الإنسان ـ ونحن نفعل كل شيء من أجل أن ننسى ذلك ـ وهذا ما نُسميه بالتسلية. وهذا يمنعني من أن أحب الحياة. ولكن لم يحدث لي أن شعرت بأي انجذاب، أو نزعة إلى الانتحار. وأنا سعيد أن أعيش، وأن أنعم بطول العمر. وليس علينا أن نخلط بين الحزن والاكتئاب النفسي. وقد كتب فيكتور هوغو يقول: "السوداوية هي السعادة بأن نكون حزانى". مع هذه الجملة أتجاوب كثيرًا. هناك نوع من الحزن نتقاسمه جميعا، وهو ليس مَرَضيًّا، لكنه مرتبط بالوضع التراجيدي لوضعنا.
(*) عندما نكون حزانى فإن أول شيء يتبادر إلى الذّهن هو الخروج، ومُهاتفة صديق، وشرب كأس، أو ممارسة رياضة مّا، أو مُشاهدة مسلسل تلفزيوني... إلاّ أن باسكال يُدين كل هذا الذي يسمّى بـ"التسلية"... هل هو على حق؟ لماذا يتوجّب علينا أن نمضي إلى أقصى حالات الحزن؟ وأن نُلحّ على ذلك؟
أنت على حق. ليس لي أيّ اعتراض على التسلية. أو أنا بالأحرى أقوم بتمييز مّا. في "قاموسي الفلسفي"، هنالك مدخلان مختلفان، "اللهو"، و"التسلية". واللهو بمفهوم مونتاني، حيلة ذكية لتجاوز الحزن، والخوف. وهو عكس ما يسميه علماء النفس بـ"الاجترار". عندما تكون أمام همّ، أو غمّ، فإنك تجد نفسك مُجْبَرًا على أن تفكر فقط في كل هذا: أنت تجترّ إذًا. وهذا الاجترار يزيد وضعك سوءًا، ويجعلك سجين حزنك وهمّك. وفي مثل هذه الحالة، ينصح مونتاني بأن نلجأ إلى اللهو، وأن نقوم بفعل ما لكي نفكر في شيء آخر. وعائدًا إلى الأمثلة التي أنت قدمتها: أي شيء أكثر حقيقيّة من أن نرى صديقًا؟ وأن نقوم برياضة ما، أو أن نتجول؟ وأي شيء أكثر حقيقية من شرب كأس؟ أنا لست ضد اللهو، وأقل من ذلك لست ضد المتعة... أنا نصير المتعة. وما لا أحبه هو اللهو في معنى مونتاني، والذي يُصبح تسلية بحسب مفهوم باسكال، أي نسيان ما هو جوهري وأساسي، وهروب منهجيّ أمام الحقيقة. إذا ما أنت شعرت بأول بوادر للحزن وللاكتئاب، أنت تسارعُ بمهاتفة صديق، أو أنت تشغّلُ التلفزيون، أو أنت تشرب كأسًا، أو تأخذ دواء، فإن هذا يعني أنك ترفض أن تواجه المصير التراجيدي للوضع البشري. وأنت تَشْغلُ نفسك بأشياء كثيرة ومختلفة لكي تنسى القليل مما أنت، واللاشيء الذي ينتظرك. وهذا نوع من الهروب، ومن السهولة، بل قد يكون ذلك كذبًا. وأنا أرى أن هذا هو انتقاص من الكرامة، ومن العمق، ومن بُعْد النظر.
(*) وإذًا، علينا أحيانا أن نذهب إلى أقصى درجات الألم لكي نكون قريبين من الوضع البشري، ومما هو أساسي وجوهري؟
ذلك هو الموقف الذي تدعو إليه الفلسفة. الفيلسوف يبحث عن السعادة مثل كل الناس. لكن ما يجعله فيلسوفًا بالمعنى العميق للكلمة هو أنه يمضي بعيدًا في البحث عن الحقيقة. وهو هنا يُخيّرُ حزنًا حقيقيًّا على سعادة مُزيفة. وأضيف بأن سعادة حقيقية تكون أفضل من حزن مزيف. إلاّ أن حتمية الصفاء الذهني تتفوّقُ على الرغبة في السعادة. والصفاء الذهني ليس سوى حب الحقيقة حتى ولو كانت بشعة وسيئة. بل أقول، خصوصًا عندما تكون بشعة وسيئة لأنه من السهل أن نحبّ الحقيقة وبها نتعلق حين تكون مُريحة، وباعثة على الأمل. بالنسبة للفيلسوف حتى ولو كان نصيرًا للمتعة، يكون الصفاء الذهني أكثر أهمية من البحث عن السعادة، أو مُتعة الصفاء الذهني تتفوق ثقافيًا على كل المتع الأخرى. الحقيقة غالبًا ما تكون مرة، كما يقول لوكريتوس.
(*) رهان الفيلسوف، إذًا، هو أن الخوف يقود إلى الصفاء الذهني الذي يسمح بدوره بلوغ السعادة الحقيقية. هل يعني أنه علينا ان نَغُوصَ في حالة الحزن كما نغوص في المسبح، ثم بضربة قدم نصعد إلى السطح؟
ضربة القدم هذه غالبًا ما تحضرني. لكن لا يعني هذا أننا نظلّ في حالة سكون، جالسين في الكرسي المريح، مُنتظرين ببهجة أن نمر من الحزن إلى السعادة، من دون أن نفعل شيئًا. ضربة القدم هذه هي الفعل. وكان مونتاني قد كتب: "نحن ولدنا لنفعل". وهذا يعني أن الفلسفة ليست نشاطًا يكتفي بذاته. ولا يجب علينا أن نكتفي بتأمل السرّة، أو الروح، أو العقل، على مدى النهار بطوله. وفرويد يرى أن الصحة النفسية تتوفر في القدرة على الحب وعلى العمل ـ أي في الفعل. وسيكون مونتاني موافقًا على ذلك.
(*) أنت هنا تنتصر لمونتاني على حساب أرسطو الذي يُعرّف الفلسفة على أنها نشاط تأملي...
لست مُجبرًا على أن أخيّر بين هذا وذاك. التأمل هو أيضًا جزء من السعادة. وهنالك مقولة لبول فاليري أجدها رائعة جدًا: "الجميل هو ذاك الذي يوحي باليأس". ليس بالمعنى الذي يجعل الجمال مُوحيًا بالحزن. لكن أمام موسيقى بديعة مثل موسيقى موتزارت، أو أمام مشهد طبيعي خلاب، ليس لنا أي شيء نأمل فيه. وعندما يجعل فلاسفة مثل أرسطو من التأمل حالة من الزهد، فإنهم يقومون بمدح شكل من أشكال الفرح والسعادة، والامتلاء الذي لا يبقي أيّ نُقْصان، أو أيّ أمل. والجيد هو أيضًا ذاك الذي يَبْعَثُ على اليأس. بهذا المعنى، أي شيء أكثر إشعارًا باليأس من نشوة الجماع، ولذّتها؟ والحقيقي هو أيضًا: كيف يمكننا أن نأمل بأن اثنين مع اثنين يساوي أربعة، وأنه تمّ احتلال سجن "الباستيل" في الرابع عشر من شهر يوليو/ تموز 1789. وفي النهاية، ها أن الجمال، وما هو جيّد، والخير، والحقيقة لهم جميعًا شيء ما يبعث على اليأس.
(*) نحن نصل هنا إلى الفكرة المركزية التي عليها يقوم كتابك: "دراسة حول اليأس والغبطة"، لكي نكون سعداء حقًا، علينا أن نتخلى عن كل أمل. أليست هذه فكرة حاملة للمفارقة والتناقض؟
هي كذلك بالتأكيد إذا ما نحن أخذنا كلمة "يأس" في معناها المُتداول. لكن ما أنا أعنيه بكلمة "يأس" هو الدرجة الصفر في الأمل، والذي أنا أسمّيه أحيانًا بـ"اليأس المرح" على منوال نيتشه في "المعرفة المرحة". الفكرة تجريدية. مع ذلك يتعلق الأمر بتجارب موضوعية جدًا. ما هي اللحظة التي عرفت فيها الأمل الكبير؟ حدث ذلك عندما تمّ إعلامي بأن ابنتي البالغة من العمر ستة أسابيع أصيبت بالتهاب السحايا بشكل صاعق. وكنت آمل لها الشفاء من ذلك، بل أني لم أشعر من قبل بأمل في مستوى ذلك الأمل. وفي الوقت ذاته كنت مهمومًا ومغمومًا كما لم أكنْه من قبل أبدًا. "لا أمل من دون خوف"، كان سبينوزا يقول. ويعني ذلك أن آمالنا تكون أكثر قوة حين نكون على وشك الموت من الخوف. والحكيم، مُتحررًا من الخوف، يكون قد تحرر من الأمل أيضًا. والحقيقة أن الأوقات التي كنت فيها سعيدًا حقًا، وُهبَتْ لي كما لو أنها امتلاء. وهذا يمكن أن يحدث في ظروف بسيطة جدًا، أثناء جولة، أو في لحظة تأمل، أو أمام تجربة جمالية أو جنسية. ويعني ذلك أني لا أكون في حاجة إلى أيّ شيء آخر، أي أني بلا أمل. هذا هو مفتاح الغبطة بحسب وجهة نظري. وعندما أصدرت كتابي: "أسطورة إيكاروس"، واحدة من الرسائل التي وصلتني من القراء، كانت رسالة طبيب نفساني، وفيها كتب يقول: "كطبيب نفساني أمارسُ عملي في المصحة، أزداد اقتناعًا كل يوم بأن الأمل هو السبب في حالات الانتحار العديدة: نحن لا نموت بسبب خيبة ما". وعندما انتحرت والدتي، فكرت في تلك الرسالة بعد مرور أشهر على انتحارها، وقلت لنفسي: "لكن ها هي والدتي تنتحر بسبب الخيبة". وقد انتحرت لأنه على مدى سنوات وسنوات، لم تكن حياتها مُتطابقة مع آمالها. غير أن الحياة لا تتطابق مع آمالنا، ويعني ذلك أن الحياة ـ ويكاد يكون ذلك دائمًا ـ ليست هي التي على خطأ، وإنما لأن آمالنا غير مُجدية، وواهمة، وكاذبة. باختصار، علينا أن نحبّ الحياة كما هي، أي أن نُحبّها. وإذا ما أنت أصبت بسرطان، فإنه لا يكون لك أمل من الشفاء منه إلاّ إذا ما قبلت به، وإذا ما أنت واجهت الحقيقة المؤلمة كما هي. وما دمت في النفي، فإنه لن يكون باستطاعتك ان تُعالج نفسك بطريقة ناجعة. وأنا هنا لا أمجّد الجبرية والقدرية وإنما أنا أدعو إلى التحلي بالصفاء الذهني. الصفاء الذهني الذي وحده يكون الفعل المجدي والناجع.
(*) خلف نقدك للأمل، هل لك هدف آخر: ألست بصدد نقد المسيحية كدين، والأمل كبعث الحياة من جديد، أو الحياة بعد الموت؟
بالتأكيد... كان لذلك دور كبير في مسيرتي، وفي منهجي. فقد كنت كاثوليكيًا ورعًا حتى سنّ السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة. ثم فقدت العقيدة، لكن ليس لأنتسب إلى شكل ثان من الأمل. وكنت قد تبنّيْت اليوتوبيا الشيوعية، آملًا مثل الملايين أن تخرجنا من نفق الهموم والآلام. لكن حين فقدت هذين الأملين، الديني والسياسي، وجدت نفسي في مواجهة ما عاينه كلّ من باسكال، وكانط، وكيركغارد، وهو أن الملحد الصافي الذهن لا يمكنه أن يَفْلت من اليأس. غير أن خطأهم هو أنهم لم يفرقوا بين اليأس وبين الهم. وقد ساعدني كلّ من أبيقور، وسبينوزا، وكامو، على التفكير بعكس ذلك: الحكمة المتحررة من الخوف ومن اليأس، وهو ما أنا أسميه بـ"السعادة اليائسة". وهذا ما يعبر عنه كامو على النحو التالي: "نحن لا نكتشف السعادة من دون أن نسعى إلى الكتابة عن السعادة". السعادة واليأس يمكن أن يكون كل واحد منهما إلى جانب الآخر، لأنهما "ابنان لنفس الأرض" كما يقول كامو. وإذا ما كانت هذه الحياة هي الوحيدة التي وُهبتْ لنا فلأنه لا أمل لنا بعد الحياة، في حين أننا نحاولُ أن نعيش بأفضل صورة ممكنة. وهذا يُذكرني بشعار على الجدران في شهر مايو/ أيار 68: "هناك حياة قبل الموت". وهذا ما يُفسّر بالنسبة لي قطيعتي مع المسيحية.
(*) بين الصفاء الذهني والسعادة، هنالك كلمة لم نتطرق إليها: الرغبة. هل الرغبة بالنسبة لك انتشاء، أو نوع من التسلية، أو هي مجرد وهم؟ هل علينا أن ننظر إلى العالم كما ليس على صورته الحقيقية؟ وهل علينا أن نرسمه بألوان زاهية؟ أم بالعكس، هل يمكن أن نتحلى بالصفاء الذهني، وأن نرغب في الوقت نفسه؟
من دون رغبة، نحن أموات: "فالرغبة في جوهر الإنسان ذاته"، كما يؤكد على ذلك سبينوزا. التخلي عن الرغبة ـ وهو ما نُلصقُه خطأ بالبوذية ـ فإن ذلك يعني القضاء على الإنسانية. "كونش" الذي كان مُعلمي وصديقي، يعتقد أن الرغبة ليست جوهر الإنسان، لأن الحيوانات ترغب أيضًا. أما جوهر الإنسان الحقيقي بالنسبة له فهو العقل. وهذا معنى معكوس. إن الرغبة بالنسبة لسبينوزا ليست جوهر الإنسان ككائن وراثي، وإنما عكس ذلك، ككائن فردي. والرغبة ليست تلك التي تُميزنا عن الحيوانات، وإنما هي ما يُميّزك عني، وعن جارك، وعن زوجتي. لهذا لا يمكن أن يكون العقل جوهرنا الفردي. أنت وأنا لنا نفس العقل. والعقل واحد وكونيّ. وإذا ما كان العقل هو جوهرنا الفردي، تكون أنت وأنا الشخص نفسه. لكن ليست هذه هي الحالة، لأن جوهرنا الفردي هو الرغبة، ورغباتنا ليست فقط مُختلفة، وإنما يمكن أن تدخل في نزاع مع بعضها بعضًا. وإذا ما كانت الرغبة هي جوهر الإنسان، فإن المجتمع بكامله يمكن أن يكون في نزاع. وما ورد في هذه الفقرة العميقة لسبينوزا يمكن أن يكون عسيرًا على الفهم: "ليس لأن هذا الشيء جيد، لذا يمكن أن يحوز على إعجابنا، وإنما عكس ذلك، أي أننا نرغب فيه لكي نحكم عليه بالجودة". بمعنى آخر، لست القيمة هي التي تتحكم في الرغبة، وإنما عكس ذلك تمامًا، أي أن الرغبة هي التي تُولد القيمة التي تُحوّلُ كل الأشياء التي تمّ تقييمها إلى "كنوز وجواهر"، كما يقول نيتشه. وبالتالي، قياسًا على هذا، أطفالي أكثر قيمة من أطفالك، ليس لأنهم أفضل، وإنما لأنني أحبهم أكثر من أبناء الآخرين. وإذًا، من لا يرغب في أيّ شيء، لا يمنحُ شيئًا للقيمة. عندئذ يكون الانتصار للعدمية.
(*) أن لا نعطي قيمة لأي شيء، وأن نكون لا مبالين أو موضوعيين، ألا يعني ذلك الصفاء الذهني؟
غريب هو الصفاء الذهني حين يكون حاضرًا في كل شيء إلاّ في الرغبة. هناك نص للإمبراطور مارك أوريل الذي أثَمّنه كثيرًا، وفيه يطلب من المرء عندما يكون عاشقًا لامرأة أن يتذكر أن في جسدها كتلة من الأشياء المُنفّرة. ومن المؤكد أن تكون هناك أشياء مُنفّرة لدى المرأة التي ترغب فيها، وهذه حقيقة. ويعني ذلك أن رؤية عمياء للعالم عن الرغبة لا يمكن أن تكون ناتجة عن صفاء ذهني لأنها لا ترى إلاّ نصف الأشياء، أو الأشياء في سوادها وفي بشاعتها. وهي، إذًا، رؤية خاطئة ومُزيفة. وذات يوم سمعت القس الأب بيار في برنامج تلفزيوني يُجيب على السؤال التالي: بماذا تنصح شابًا في سن العشرين؟ قائلًا: "أقول له شيئين: الأول هو أنه لا شيء سهلًا. أما الشيء الثاني فهو أن كل شيء يستحق منّا جهدًا". يا له من جواب بديع لأنه يجمعُ بين الصفاء الذهني والرغبة. ليس هناك شيء سهل: هنا يحضر الصّفاء الذهني، وما هو تراجيدي أيضًا، لأن كل المشاريع الإنسانية غالبًا ما تفشل، ونحن ذاهبون إلى الموت حتمًا. أمّا النصيحة الثانية، أي أن كل شيء يستحق منا جهدًا، فهي انطلاقة الرغبة من أجل منح الحياة قيمة.
(*) أنت الذي قرأت ماركس بعمق، أحب أن أطرح عليك السؤال الأخير: أليس الحزن والكآبة والهم، وكل ما تحدثنا عنه منذ بداية حوارنا، نماذج من التسليات البرجوازية. أليس هم الفلاسفة والكتاب من يتحدثون عن الحزن كما لو أن ذلك مؤثر على البطون المُتْخَمَة؟
سؤالك يُذكرني بقولة لبريمو ليفي الذي عاش عذابات ومحن المعسكرات النازية: "أوشفيتز هو المكان الذي يقلّ فيه الانتحار". وأنت تفهم أن ذلك يعني أنه يتوجّب على كل من يكون في "أوشفيتز" أن يُجاهد يوميًا، وفي كل ساعة، وبكل ما أوتي من جهد وقوة لكي يبقى على قيد الحياة. لذلك هو لا يشعر بأيّ رغبة في الانتحار. لكن ليس هذا سببًا في أن نجعل من "أوشفيتز" مثالًا للمجتمع. أنت تقول لي بأنه لكي نتفلسف، فإنه يتوجب علينا أن نستسلم للحزن، أو أن نتساءل عن معنى الوجود، وأن تكون بطوننا ممتلئة. جيد... لكن هذا دليل آخر على أنه لا بد من توفير ما يكفي من الغذاء للجميع. والشيوعية كما تخيلها ماركس، تعني مجتمعًا لا يكون فيه بؤس، ولن تكون فيه سوى بطون ممتلئة، وإذًا، يحقّ لكل إنسان أن يتفلسف. وهناك ألف سبب وأكثر من ذلك لمقاومة الجوع في العالم. ولكي ننقذ حياة كثيرين، هنالك أولًا ثلاثة ملايين طفل يموتون من الجوع، وهذه فضيحة كبيرة. لكنْ هنالك سبب آخر لمقاومة الجوع الذي يعاني منه ملايين الأطفال في كل سنة، وهو أن نسمح لهم بالدراسة، وأن نفتح لهم أبواب العلوم، والآداب، والفلسفة، وإذًا أن نتيح لهم بلوغ حياة إنسانية ممتلئة عوض أن يعيشوا حياة بائسة وشقية. هل الفلسفة ترف؟ ليكن ذلك. وهذه حجة أخرى لتكون مُتوفّرة للجميع.