}

نادر الحمامي: الحرب بغزة ليست معزولة عن قضية فلسطين

عيسى جابلي 31 مارس 2024
حوارات نادر الحمامي: الحرب بغزة ليست معزولة عن قضية فلسطين
نادر الحمامي

نادر الحمامي هو واحد من أبرز الباحثين التونسيين المعاصرين. وهو أستاذ الحضارة بالجامعة التونسيّة، ومهتمّ بقضايا المتخيّل التاريخيّ والمتخيّل الدينيّ والفكر الإسلامي عمومًا. وهو باحث سابق في معهد الدراسات المتقدّمة في برلين، ومدرّس في جامعتها في معهد الدراسات العربيّة والساميّة. رئيس جمعيّة الدراسات الفكرية والاجتماعية، وجمعية "فواصل". له مؤلفات عديدة، منها: "صورة الصحابيّ في كتب الحديث"، و"إسلام الفقهاء"، و"في المتخيّل التاريخيّ الإسلاميّ: نحو الخروج من مأزق التأصيل". في هذه المقابلة نرصد آراءه بخصوص القضية الفلسطينية، وما يتفرّع عنها من قضايا آنية حارقة:

ترتكب قوّات الاحتلال إبادة في قطاع غزّة منذ أكتوبر الماضي (Getty)


(*) منذ عملية "طوفان الأقصى"، تباينت المواقف بخصوص توصيف هذه العملية، بين من يراها مقاومة، ومن يراها "إرهابًا"، بل إنّ إعلاميًّا معروفًا قال إنها تجمع نصفين: نصفها إرهاب ونصفها مقاومة. ما الحدّ بين الإرهاب والمقاومة من حيث المفهوم في رأيك؟ وما توصيفك للعملية؟
في تقديري، وهذا ما أسير عليه دومًا، كلّ موقف من قضيّة ما يقوم على مبدأ يؤمن به صاحبه. وفي حال غياب ذلك المبدأ، يصبح الموقف إمّا اعتباطيًّا ومزاجيًّا، أو منطلقًا من مصلحة ضيّقة وانتهازيّة، أو هو يكشف عن تلوّن ونفاق. في قضيّة الحال، أي "طوفان الأقصى"، ومن ورائه كلّ القضيّة الفلسطينيّة، المبدأ الثابت عندي، والذي لا يقبل أيّ نوع من أنواع النقاش، أو التنسيب، هو اعتبار أرض فلسطين، كلّ فلسطين من النهر إلى البحر، محتلّةً، وأنّ الكيان الإسرائيليّ هو قوّة احتلال غاصب واستعمار عنصريّ بكلّ المقاييس زرعته القوى الاستعماريّة قبل خروجها من مستعمراتها. ومن هذا المنطلق، وبناء على أنّه لا يوجد في التاريخ البشري برمّته أمر أكثر فظاعة وإرهابًا من الاستعمار والعنصريّة والتعدّي على كلّ القيم الإنسانيّة، يتحدّد موقفي لا من "طوفان الأقصى" فحسب، وإنّما من كلّ أشكال الوقوف في وجه الاحتلال والعنصريّة، وهو موقف يتلخّص ببساطة شديدة في أنّ ذلك الوقوف والتصدّي والمجابهة بكلّ مظاهرها هي أرقى أشكال المقاومة وأكثرها مشروعيّة مهما كان الطرف المقاوم للاستعمار، ومهما كانت درجة اختلافي الفكريّ أو الإيديولوجيّ معه، ومهما تباينت انتماءاتي العرقيّة، أو الدينيّة، أو اللغويّة، أو الجغرافيّة، أو غيرها، مع الطرف المقاوم. لا شيء يعادل شرف الوقوف في وجه الظلم والاستعباد، وهما اللّذان يمثّلان الإرهاب في الواقع، عبر القتل والتشريد والتهجير والتهديم والنفي والحبس والتعذيب والتنكيل والتجويع والتدمير. وحتّى تكتمل إجابتي عن السؤال، فإنّه بعد ما شاهدناه بأعيننا مدّة الأشهر الأخيرة، وقبلها بعقود مريرة، حتّى لا ننسى أيضًا، لم يبق هناك من خيار أمام المتردّدين، أو أصحاب أنصاف المواقف، أو الحذرين، أو غيرهم، فإمّا أن يروا في الشعب الفلسطيني صاحب أرض محتلّة يقاوم لاسترجاع حقوقه المغتصبة كاملة، أو يكونوا في صفّ الإرهاب الحقيقيّ المتجسّد في الكيان الإسرائيلي، شركاء فيه وفي دعمه وصناعته، إذ لم يعد هناك للسذاجة أو "حسن النيّة" أيّ معنى أو مكان، ليصبح الأمر تواطؤًا كاملًا مع الاستعمار العنصريّ.

(*) هنالك تحدّ آخر دفع كثيرًا من معارضي الإسلام السياسيّ إلى لعن حركة حماس وتجريدها من الوطنية ونعتها بالتبعيّة لإيران وغيرها، حتى صار الإعلام الإسرائيليّ نفسه يستشهد بهؤلاء، ألا تشعر بهذا الحرج والتمزّق بين دعم القضية الفلسطينية ودعم فصيل سياسيّ إسلاميّ؟
شيء من إجابتي مبثوث آنفًا، ولكنّي أضيف بعض التدقيق نظرًا إلى أنّ ما أشرتَ إليه في السؤال يجعل كثيرين محترزين شيئًا ما، ولا أتحدّث مطلقًا عن أولئك الّذين فضحوا مواقفهم المشينة علنًا، أو مواربة، بل عن حرج يجده بعضهم من إمكانيّة ما يرونه وقوعًا في مساندة أحد تيّارات الإسلام السياسيّ ممثّلًا في حماس، وسأعود لاحقًا إلى مسألة الدعم الإيرانيّ وذراعه اللبنانيّ حزب الله.
في البداية، لا أرغب البتّة في الحديث عن موقفي الشخصيّ، أو حتّى التذكير به في ما يرتبط بجماعات الإسلام السياسيّ مهما كان لونها، فهو موقف معروف ونشرتُ فيه كثيرًا، وشاركت في ملتقيات عديدة جدًّا تتعلّق به، وأنا راغب عن ذلك حتّى لا يبدو كلامي ضربًا من تبرير الانحياز من دون قيد أو شرط للقضيّة الفلسطينيّة، أعدل القضايا على وجه الأرض حاليًّا، ولكن، وباختصار شديد جدًّا، أنا من أولئك المعارضين راديكاليًّا لكلّ الحركات المنتمية إلى الإسلام السياسيّ على الصعيد الفكريّ والأيديولوجيّ والسياسيّ والحقوقيّ. ولكن إذا عدتُ إلى المبدأ الّذي انطلقتُ منه، وهو أنّ أكبر الشرور في العالم هو الاحتلال والاستعمار والعنصريّة، فالموازنة لديّ واضحة تمامًا، حماس اليوم هي حركة مقاومة للاستعمار الصهيونيّ، وحين يستردّ الفلسطينيّون حقوقهم كاملة فلكلّ حادث حديث، وأجد من الغريب فعلًا أن يجد بعضهم حرجًا، أو تمزّقًا، في هذا الأمر، فهل باسم معارضة الإسلام السياسيّ يتمّ التغاضي عن الصهيونيّة الدينيّة وشناعاتها اليوميّة؟؟
هنالك أمر آخر مهمّ في نظري، ويرتبط بالجهاز اللغوي الّذي يُستعمل في عدد من وسائل الإعلام، ويأتي على الألسنة عن وعي، أو عن غير وعي، وهو تقديم ما يجري في فلسطين على أنّه صراع بين إسرائيل وحماس، أو ربطه بغزّة من دون باقي فلسطين. صحيح أنّ المقاومة اليوم تقودها حماس على الأرض، وفي غزّة أكثر من أيّ منطقة أخرى، غير أنّ ما ينبغي الإلحاح عليه أنّ من يُباد الآن، أو يتمّ السعي إلى ذلك، هو الشعب الفلسطيني برمّته، وأن الاحتلال هو لكامل فلسطين وليس لجزء منها، وغزّة جزء من فلسطين، وأنّ ما يوجد بين غزّة والضفّة الغربيّة ليس سوى كيان غريب لا حقّ له في ذرّة تراب واحدة من الأراضي الفلسطينيّة.


(*) هل يمكن ربط المظاهر الدينيّة بالأبعاد السياسيّة في فهم الصهيونيّة والقضيّة الفلسطينيّة؟ وهل إنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة دينيّة من وجهة نظرك؟
ربّما على عكس ما قد ينتظره البعض منّي، أجيب من دون ترددّ، نعم وبكلّ تأكيد بالنسبة إلى السؤال الأوّل، أمّا الثاني فلا، وبكلّ بتأكيد أيضًا. وسأحاول توضيح ما قصدته خاصّة وأنّ قولي يبدو حمّال تناقض. واسمح لي أن أبدأ بالسؤال الثاني المتعلّق بوجهة نظري. أنا شخصيًّا لا أرى أن القضيّة الفلسطينيّة قضيّة دينيّة، فهي في تقديري قضيّة كلّ إنسان مؤمن بالحريّة والعدالة، مهما كان دينه، أو جنسه، أو لونه، أو انتماؤه الأيديولوجيّ، وكلّ إنسان يعادي القتل والعنف والقمع وأشكال التعدّي على الكرامة البشريّة، وكلّ ذلك من القيم الّتي لا دين لها، فرموزها والمدافعون عنها، كما يُعلّمنا التاريخ، من أديان مختلفة، وليس من الضروريّ، بل من المطلوب الدفاع عن الحقّ بقطع النظر عن الانتماءات الضيّقة.




وربّما من أهمّ عوامل هزائم أمّة من الأمم، على الرغم من أنّها مضطهدة ومظلومة، وبالتالي صاحبة حقّ، تقديم قضيّتها في لباس دينيّ، أو عرقيّ، أو إثنيّ، أو غير ذلك، ممّا يفقدها حتميًّا جانبًا مهمًّا ممّن يفترض أن يكون نصيرها، فيجعله غير معنيّ بها. هذا الأمر ينطبق في عديد الحالات على العرب والمسلمين، وأنا أتحدّث هنا عن الجهات الرسميّة والدول وقاداتها لا على الشعوب، الّذين يحصرون قضايا شعوبهم العادلة في الأصل في ألوان قوميّة، أو دينيّة، أو طائفيّة، وأكاد أقول إنّ ذلك لا يكون عن عدم وعي بانسداد، مثل هذه الطريق، بل "مع سابق إصرار وترصّد"، لتغدو تلك القضيّة مجرّد ظاهرة خطابيّة خادمة لأيديولوجيّات ضيّقة تؤبّد حكم الحاكمين عبر بثّ أفكار طوباويّة وهلاميّة تصبح ضروبًا من العقيدة فيستبطنها جزء من الشعب اقتناعًا في شيء يشبه الوقوع تحت أثر مخدّر يُستعمل للهروب من واقع مرير، وجزء آخر تزلّفًا وتملّقًا، وترضخ لها الأغلبيّة تحت وطأة الاستبداد والقمع السياسيّ المستعينين بتهم جاهزة من قبيل عداء الوطن، وخيانة الأمّة القوميّة، أو الدينيّة، والعمالة للعدوّ المتربّص.
أعود هنا إلى السؤال الأوّل، والّذي أجبت عنه بالإيجاب، وألحّ على أنّ ذلك يبدو غريبًا للوهلة الأولى، ولكنّها غرابة قد تزول بتوضيح منطلقاتي وأساسها تمييزي الّذي أراه ضروريّا بين دور العامل الدينيّ حين يرتبط بالشعوب والمجتمعات ودوره حين يتعلّق بالحكّام والدولة ومؤسّساتها. ربّما علينا الانتباه، أكثر من أيّ وقت مضى، بأنّ العلمانيّة ترتبط في المقام الأوّل بالفصل بين الدينيّ، وغيره من المستويات السياسيّة والأخلاقيّة والعلميّة، وغيرها في مستوى المؤسّسات وأجهزة الدولة الّتي من واجبها معاملة المواطنين على أساس المساواة بينهم ضمن أطر قانونيّة واضحة قوامها استبعاد كلّ ما من شأنه خلق هرميّة، أو تفاوت، على أساس دينيّ، أو غيره. ولكنّ هذا المطلب الضروريّ والملحّ، والّذي أدعو إليه بكلّ قوّة، لا يجب أن يعني مطلقًا تهميش العامل الدينيّ في ضمائر الناس، وفي شعورهم وعقائدهم الإيمانيّة. لقد باءت كلّ محاولات ذلك بالفشل، وأرى أنّ مثل ذلك الطموح الزائف أدّى في أغلب الحالات إلى فشل ذريع، حتّى وإن حسنت النوايا الّتي لا أريد الحكم عليها. إنّ أكبر خطأٍ وقع فيه العلمانيّون في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة في نظري هو تهميش العامل الدينيّ وأثره في مجتمعاتهم، والخطيئة الأكبر أن يكون من تبعات ذلك التهميش الصدعُ بالسخريّة من معتقدات شعوبهم وإيمانهم البسيط وشعائرهم الدينيّة، وقد ألفها الناس واعتادوا عليها، وأحيانًا يمارسونها من دون خلفيّات دينيّة، ولا تقفز إلى أذهانهم أيّ مرجعيّة سوى العادة والتقليد والإيمان الساذج الّذي ينبغي احترامه، وبالخصوص عدم استفزازه، فذلك سيؤدّي حتمًا إلى ردّة فعل معاكسة. أنثروبولوجيّا، لقد كانت العادات والتقاليد دومًا أكبر أثرًا وأطول عمرًا من السلوك الدينيّ في حدّ ذاته، وكلّ تطاول عليها من فئة ما، حكّامًا أو نخبًا، سيعتبر تعدّيًا على الهويّة، وتلبس العادة وقتها أكثر من أيّ وقت آخر جبّة الدينيّ الّتي تتركها لمثل هذه المناسبات، وتصبح العادة مقدّسًا دينيًّا. لا أحد من عامّة الناس مثلًا يربط ربطًا مباشرًا بين العادات الفولكلوريّة الشعبيّة المندرجة في سياق الاستمطار حين تنحبس الأمطار، ولكن سيصبح الربط وثيقًا إذا سخرت النخب من تلك العادات ورمتها في إطار الشعوذة والخرافة، فتتحوّل السخريّة في الضمير العام إلى جرأة على المقدّس، وتغدو عادة الاستمطار عبر الطواف بالبيوت وسكب شيء من الماء على خرقة قماش استقامت في صورة كائن بشريّ ممزّق ومشوّه على عصا خشبيّة مهملة دعاء دينيًّا يُتوجّه به إلى الإله طلبًا للرحمة، فتصير السخريّة في نهاية المطاف استهزاء من قدرة الإله على الاستجابة لصلاة المؤمنين به. إنّ ما لم تفهمه النخب هو عدم قدرتها على تحويل كلّ المجتمع إلى نخبة تفكّر على طريقتها، لا أحد أكثر من النخبة استبدادًا في هذا المستوى. ثمّ إنّ تلك النخبة لم تستطع التمييز بين ما ينبغي أن تكون عليه هي وكذلك مؤسّسات الدولة من جهة، وبين ما عليه المجتمع والشعور العام من جهة أخرى. إنّ استبعاد الدينيّ يجب أن يكون متعلّقًا بالدولة ومؤسّساتها لا بالمجتمع وحياته وأحاسيسه وإيمانه. وحتّى نبني على المثال السابق، فيمكنني مثلًا أن أنقد الساسة وما يديرونه من مؤسّسات إذا ما أقاموا بشكل رسميّ صلاة الاستسقاء، لأنّ في ذلك خلطًا بين الديني والسياسي، إضافة إلى الإخلال بوظيفة إدارة الشأن العام بين مواطنين ليسوا بالضرورة من الديانة نفسها، ثمّ إنّ مؤسّسات الدولة لا تستند أثناء أداء واجباتها الإداريّة إلى ما يفارق العقل الوضعي، ولكنّ هذا لا يمنحني الحقّ في الاستهزاء من اعتقاد مجموعة من الناس قرّروا بشكل عفويّ إقامة صلاة الاستسقاء جلبًا للأمطار. إنّه من المؤسف حقًّا أن ترتبط العلمنة لدى أغلب النخب في المجتمعات العربيّة والإسلامية بالمظاهر الشكليّة، وبما تعارف عليه الناس من عادات وتقاليد، ظانّين وهمًا أنّهم بمقدورهم تحويل مجتمعهم إلى كتلة من الروبوتات البشريّة الّتي لا رموز لها ولا فولكلور ولا عالم سحريًّا متخيّلًا يخفّف الألم ويلطّف الحياة القاسية ويخرج من بؤس اليوميّ وضراوته ويمنح الأمل ويمدّ حبل الرجاء، وأنّهم في استطاعتهم أن يصلوا بمجتمعهم إلى مرحلة العقل المحض البارد. إن كان هنالك من وهم فإنّ هذا التصوّر يمثّله على أكمل وجه.
وبالقياس إلى هذا المثال البسيط، أتساءل هل من الضروريّ والمجدي أن أقوم خطيبًا مفوّهًا في أحد الأحياء الشعبيّة ومحمّلًا بنظريّاتي الفلسفيّة الّتي التقطتها من هنا وهناك مستعينًا بشيء صادفته في طريقي عن العلمانيّة وتاريخ الأفكار السياسيّة وغيرها لأقول للناس، وقد اعتقدوا إيمانًا واحتسابًا أنّ بيت المقدس هي أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى النبيّ، ومنطلق معراجه إلى سدرة المنتهى: إنّ القضيّة الفلسطينيّة ليست قضيّة دينيّة، بل هي قضيّة إنسانيّة، وهي قصّة الإنسان المقموع في كلّ زمان ومكان، وأسرد عليهم تاريخ فكرة الديمقراطيّة ونشأتها وتحوّلاتها، وأستغلّ الفرصة لبسط حقوق الإنسان وتاريخ الأفكار السياسيّة ونظريات العقد الاجتماعي، ثمّ أنبّههم إلى أنّ جعلها قضيّة إسلاميّة يُضعفها أمام الرأي العالم الدوليّ والهيئات الأمميّة، وأنّ اعتقاداتهم حول مسرى النبيّ تندرج ضمن المتخيّل الدينيّ والتاريخيّ، وأعرض عليهم بالمناسبة بعض أفكار كاستورياديس، وجيلبير دوران، وبول فاين، ونقد بول ريكور له، ولميشيل فوكو؟ إنّ مثل هذا التصرّف النخبوي مدعاة إلى السخريّة، هذا على افتراض أنّ النخب الّتي نراها عندنا خصوصًا عارفة بالأصول النظريّة والفلسفيّة لما يقولون أمام الرأي العام، وهو افتراض قد تصل نسبة صحّته عندي إلى العدم. أنا لا أقول ذلك من باب عدم الإيمان بضرورة تغيير المجتمع، ولا بالخصوص، من باب التمييز بين عامّة وخاصّة، وتبنّي مقولة "المضنون به على غير أهله"، بل من باب إيلاء الشعور الدينيّ العام المنزلة الّتي هو جدير منها بحكم فاعليّته في الواقع. ومن هذه الزاوية قلت نعم، يمكن أن تكون القضيّة الفلسطينيّة قضيّة دينيّة، وفي المقابل أيضًا ينبغي الانتباه إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الإسرائيلييّن يرون في حربهم على الفلسطينيّين قضيّة دينيّة، وتمّ الترويج لها لدى حكّامهم ومنظّريهم على هذا الأساس ليكسبوها شرعيّة ووقعًا في نفوس النّاس. وانطلاقًا من هذا التصوّر الّذي حاولت بسطه في نوع من الاختزال قلت إنّ الأبعاد السياسيّة مرتبطة بفهم الصهيونيّة والقضيّة الفلسطينيّة. وعلى هذا الأساس، أيضًا، فإنّي لا أفهم محاولة بعض النخب التوجّه إلى عموم النّاس بخطاب يحاول إقناعهم بأنّ القضيّة الفلسطينيّة ليست قضيّة دينيّة.



(*) خلال العدوان الإسرائيليّ على غزة، والضفة الغربيّة، أيضًا، لاحظنا انحيازًا مطلقًا لإسرائيل تحت يافطة "الحق في الدفاع عن النفس" من قبل "العالم الحر"، أو "الديمقراطيات العريقة"، كما يسمّيها نتنياهو، وتسمّي نفسها. ألا ترى أنّ قيام "دولة إسرائيل" قد زعزع ثقتنا في حقيقة تلك المفاهيم الكبرى والقيم الكونيّة، من قبيل الحريّة والعدل والمساواة والديمقراطيّة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟
ربّما لا شيء يعادل خطورة الفكر القائم على الثنائيّات الضدّيّة على الإنسان بخلقه الدائم لعدوّ هو في حاجة إليه لضمان شرعيّته وتنفيذ سياساته. ولكن للأسف الشديد، كلّ التاريخ البشري يبرهن على أنّنا لم نتخلّص من صراع الأضداد، ويبدو ذلك جليًّا اليوم في العلاقات الدوليّة والسياسات الممارسة هنا وهناك، وفي النهاية ماذا سيفعل الساسة إذا انتفى الأعداء؟ وما الّذي سيبقى لهم من شرعيّتهم؟ وما هي الأدوات المتاحة لديهم للسيطرة والمراقبة والعقاب؟ ولا أعتقد أنّ مقولات "العالم الحرّ"، و"الديمقراطيّة العريقة"، الّتي صاغها الخطاب السياسيّ الغربي، وانهمكت العديد من المنظّمات ووسائل الإعلام عندنا في استهلاكها وترويجها، تخرج عن إطار ذلك الصراع بين مقولات ثنائيّة ضاربة في القدم وذات لبوس أخلاقيّ أو دينيّ من قبيل الحقّ والباطل والخير والشرّ. فعبارة "العالم الحرّ" لا تشير واقعيًّا إلى مدلولها بقدر ما تشير إلى نقيضه، أي ذلك العالم الّذي يُستعبد فيه الإنسان ويُقمع، وعبارة "الديمقراطيّة العريقة" لا يُقصد منها وصف ممارسة سياسيّة واجتماعيّة في بلدان بعينها، هي نفسها الدول الصناعيّة المهيمنة، بقدر إحالتها إلى ما يمكن تسميته بـ"الدكتاتوريّة العريقة"، وبؤرة المعنى في تقديري لا تكمن في الديمقراطيّة والدكتاتوريّة، بل في الوصف بالعراقة، حتّى لكأنّ الديمقراطيّة لدى بعض الدول الغربيّة تجد أصولها وما وصلت إليه من مؤسّسات واستقرار في تاريخها وأسلافها، والدكتاتوريّة أيضًا هي متجذّرة لدى من خالف الدول الموسومة بالديمقراطيّة، وما هي إلاّ استمرار تاريخيّ لاستبداد قديم. والحقيقة لا أفهم تلك العراقة، وكأنّ الأمر ضارب في التاريخ حين نعلم أنّ المرأة السويسريّة لم تحصل على حقّ الانتخاب إلاّ بعد استفتاء سنة 1971، وأنّ النساء في فرنسا لم يحصلن عليه إلاّ سنة 1950، والحقّ في الترشّح سنة 1961. وأين هي عراقة ديمقراطيّة كان فيها مثل مارتن لوثر كينغ يقود المظاهرات إلى أواخر ستّينيات القرن العشرين، أي إلى زمن اغتياله سنة 1968، ضدّ التمييز العنصريّ في أميركا؟ والأمثلة تستعصي على الحصر.
إنّ ما أشرت إليه من زعزعة قيم الحريّة والمساواة والعدالة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها ليس وليد مواقف الدول الغربيّة عمومًا من الإبادة الجماعيّة الّتي ترتكبها إسرائيل اليوم، ولا وليد المواقف المخزية الّتي صدع بها في رقاعةٍ الكثيرُ من المفكّرين والفنّانين والأدباء والرياضيّين وغيرهم، إذ على عكس ما يُشاع إعلاميًّا بالخصوص فإنّ تلك القيم لم تكن في أيّ وقت من الأوقات محلّ إجماع أو حتّى متبّناة من الأغلبيّة، فإشاعة مثل ذلك ما هو إلاّ نتيجة لامتلاك القوى الغربيّة لأدوات نشر ما تريد، ونحن عمومًا لا نعرف ما يروج من أفكار في مناطق كثيرة من العالم من قبيل ما يجري في روسيا أو الهند أو الصين وبلدان أميركا اللاتينيّة واليابان، وكثير من البلدان الآسيويّة الأخرى، فهل فعلًا مثل تلك البلدان ومجتمعاتها ترى تلك القيم قيَمًا كونيّة وجامعة للبشريّة ومتّفقًا عليها؟ علينا مراجعة ذلك بجدّية بعيدًا عمّا يصل إلينا عن طريق أصحاب أدوات الهيمنة.




فهل نتساءل عن وضعيّة المرأة اجتماعيًّا وسياسيًّا في اليابان، حتّى يكون مثالنا غير موجّه باختيار بلد بعيد عن الصراع المباشر مع البلدان الّتي تجمعها بالغرب علاقة عدائيّة واضحة؟ أليست قضايا النساء وحقوقهنّ من صلب شعارات الديمقراطيّة الحديثة، أم إنّ تلك الشعارات تختفي حين تنسجم المصالح الاقتصاديّة النيوليبراليّة؟
ولكن هل يعني ذلك التخلّي عن مثل هذه القيم؟ قطعًا لا؟ فانتشار الرشوة، أو السرقة، في مجتمع ما مثلًا، لا يجعلنا نكفر بالفضيلة، بل ببذل كلّ شيء في سبيل قطع الطريق أمام الرشوة والسرقة. كذا أمر العالم اليوم، يسيطر عليه الظلم والاستعباد والقهر والقمع، ولكن لا يجب أن يجعلنا هذا الواقع نضرب صفحًا عن العدالة والحريّة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين البشر جميعًا.

الجديد في الإبادة في غزة أنها
على مرأى العالم ومسمعه!

(*) خلال العدوان الإسرائيليّ على فلسطين في الضفة والقطاع، رأينا اهتمامًا متزايدًا بالقضيّة الفلسطينيّة، واتّساعًا ملحوظًا في دائرة نصرتها في الغرب. ما الذي تغيّر في رأيك؟

إنّ الفظاعات تكشف أسوأ ما في الإنسان، ولكنّها في الآن نفسه تكشف أفضل ما فيه. لقد حصلت في التاريخ إبادات جماعيّة كثيرة، وجرائم حرب قد لا يقدر الخيال على تصوّرها، ولكنّنا لا نعلم عنها إلاّ القليل، من خلال الروايات التاريخيّة، والكتابات، وبعض شهادات الناجين، أو ممّن أنّبتهم ضمائرهم، وبعض من أراد الإصرار على فعله الشنيع. الجديد في هذه الإبادة الّتي يراد لها التحقّق الآن في فلسطين أنّها أمام مرأى العالم ومسمعه، وموثّقة بالصوت وبالصورة، في شتّى وسائل الاتّصال والإعلام، وعبثًا حاولت وسائل الإعلام الغربيّة الموالية لإسرائيل خلال ما يزيد على شهرين بعد 7 أكتوبر قلب الصورة وتزييف الواقع، لقد كان من الحتميّ أن تصل الصورة كما وقعت. إنّ ضمير الشعوب لا يخطئ، وهو ميّال دومًا لمقاومة الظلم والقهر والوقوف في صفّ المضطهدين، لأنّ تلك الشعوب في كلّ الأحوال من أولئك المضطهدين، وإن تعدّدت الأشكال واختلفت المنطلقات وغرّت المظاهر، إنّ الشعوب ترى نفسها في صورة المظلوم باستمرار إزاء ظلم من بيده السلطة. تلك السلطة الّتي سارعت بقمع المظاهرات المناصرة لفلسطين في بلدانها "الديمقراطيّة" الضامنة مبدئيًّا لحريّة التعبير وحريّة التظاهر، وخطّطت لقوانين جديدة متشدّدة إزاء كلّ من يهاجم إسرائيل، أو حتّى ينقدها. ولكن علينا في الآن نفسه الحذر من تضخيم اتّساع دائرة نصرة فلسطين في الغرب، إذ هي نصرة لم تبلغ مرحلة الاتّساع الشعبيّ كما يُصوّر أحيانًا في الإعلام العربيّ والإسلاميّ، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ الّتي يبحث فيها أصحابها عن مستند في الغرب للدفاع عن قضيّة فلسطين، أو ربّما هو بحث عن متنفّس ومنفذ إلى الخلاص.
ليس كلامي من باب الإحباط، أو الوقوف في وجه الأمل والتفاؤل، ولكن ينطلق من الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، فالمجتمعات الغربيّة لها همومها اليوميّة التي قد تكون أقلّ حدّة ممّا لدينا في مجتمعاتنا، ولكنّها ما فتئت تتعاظم بحكم عوامل عديدة، سياسيّة واقتصاديّة، وغيرها، وقد تزايد الحديث في الغرب عن صعوبة الحياة، والتضخّم، وكثرة الضرائب، وكلّ ذلك يجعل من نصرة القضايا الإنسانيّة العادلة في العالم يفتر شيئًا فشيئًا، ويكون ظرفيًّا. هذا بالإضافة إلى ما نشهده من سنة إلى أخرى، وفي المناسبات الانتخابيّة، من صعود اليمين المتطرّف في البلدان الغربيّة، فما الّذي يجعل مجتمعًا ديمقراطيًّا ينتخب اليمين المعادي لكلّ القيم الديمقراطيّة الحديثة والجانح إلى المحافظة؟

(*) ثمة بعض أشخاص يرون أنّ إسرائيل "دولة وحشية ومجرمة حرب وعدوانية ومحتلّة"، ولكنّها "دولة ديمقراطيّة". هل يمكن لدولة بهذه المواصفات أن تكون ديمقراطيّة حقًّا؟
هذا يذكّرني بطرفة مفادها أنّ عاهرة تعرّفت على أحد اللصوص، فقدّم نفسه على أنّه لصّ شريف، وعرّفت نفسها بأنّها عاهرة عذراء. إنّ هذه الرؤية، وهي عمياء تمامًا، تحصر الديمقراطيّة في المسائل القانونيّة والشكليّات الانتخابيّة، وما يرتبط بالدساتير والمؤسّسات. والحقيقة أنّنا نسمع مثل هذا الهراء عن إسرائيل، وخصوصًا من طرف بعض المختصّين في القانون، الّذين لا يرون في العالم والحياة برمّتها إلاّ الفصول القانونيّة والبنود، من دون أيّ خلفيّة فكريّة، هذا مع افتراض حسن النيّة، وبعض السذاجة الّتي تصل حدود الغباء. ماذا تعني الديمقراطيّة الشكليّة إذا لم تؤدّ إلى احترام الإنسان وكرامته، وحرمة حياته وجسده، وحقّه في أرضه وعرضه؟ لا شيء.

(*) كيف تقيّم عملية "طوفان الأقصى" من حيث ما حقّقته سلبًا أم إيجابًا؟
يستحيل عليّ اليوم تقديم تقييم نهائيّ، التقييم لا يكون في منتصف الطريق، مع رجائي أن نكون في آخر تلك الطريق المريرة. كلّ ما أعرفه أنّها لا يمكن أن تكون إلاّ حلقة جديدة من حلقات تاريخ شعب يبذل حياته من أجل حقّه في أرضه ومن أجل حياة كريمة، وبالتالي مهما كانت النتائج فإنّ تلك العمليّة تندرج في إطار كفاح مستمرّ لم ينطلق منذ 7 أكتوبر. أنظر إلى تاريخ المجازر الإسرائيليّة، وإلى قائمة المغتالين، وإلى عدد السنوات الّتي يقضيها إلى اليوم بعض الأسرى في السجون الإسرائيليّة، وإلى عدد البيوت الّتي هُدّمت على أهلها، وإلى عدد أشجار الزيتون الّتي قُطعت، سترى أنّ الأمر ليس سوى حلقة متجدّدة من حلقات تاريخ مقاومة الاستعمار. في كلّ الأحوال، وحسب علمي، لم يبق استعمار واحد جاثمًا على صدور أهل الأرض إلى الأبد، وسيأتي اليوم الّذي تُقيّم فيه عمليّة "طوفان الأقصى"، ولكن من المؤكّد أنّها لحظة فارقة جدًّا.

(*) هنالك أصوات تعلو اليوم بضرورة إحياء عملية السلام، إشارة إلى اتفاقيّات أوسلو، والشرعيّة الدوليّة، ومبادرة السلام العربيّة. هل يمكن أن تمثّل تلك المبادرات أرضيّة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة؟
أجيب باقتضاب شديد حين لا تحتاج المسألة إلى كبير شرح، أو هي عندي محسومة. وهي كذلك في إجابتي عن مثل هذا السؤال، ولكنّي أستحضر أغنية ساخرة لوديع الصافي حول أضحوكة السلام هذه، وعنوان الأغنية "أبواب السلام". يقول فيها: "احتلّوا أراضينا وذلّوا أهالينا وحطّوا العلّة فينا وبيحكوا بالسلام؟ يا سلام على هيك سلام". ما يسمّى إحياء عمليّة السلام بناء على اتّفاقيّة أوسلو، أو مبادرة السلام العربيّة، ألخّصها في الاعتراف بالاستعمار في إطار ما يُسمّى "حلّ الدولتين"، وتمكين المستعمر الّذي قتّل شعبًا بأكمله ممّا يراه "حقّه". إنّ تلك الأصوات الّتي أشرت إليها، وما نسمعه من أحاديث في الهيئات الأمميّة، والمؤسّسات الدوليّة، لا تُوصل إلاّ إلى إنقاذ الكيان الإسرائيليّ من تبعات جرائمه طيلة عقود، بل مكافأته أيضًا بالاعتراف به وكأنّ شيئًا لم يكن.

(*) كيف ترى الحل الأمثل للقضية الفلسطينية من وجهة نظرك؟
المقاومة إلى آخر رمق، وإلى أن ينقطع النفس، وإلى آخر دمعة طفل فلسطينيّ على أرضه المغتصبة المسلوبة، وإلى آخر حجر ربطه فلسطينيّ لإسكات الجوع في أمعائه الخاوية تحت الحصار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.