}

مثقفون ومثقفات من تونس: القضية الفلسطينية قضيتنا

عيسى جابلي 26 يناير 2024
هنا/الآن مثقفون ومثقفات من تونس: القضية الفلسطينية قضيتنا
مظاهرة تضامنية في تونس مع المقاومة الفلسطينية (Getty)
كان فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ليلًا حالكًا في تاريخ إسرائيل التي تلقّت ضربة قاصمة لم تعهدها منذ عقود، بعد أن صدّرت للعالم أنها صاحبة الجيش الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، وأوهمت مستوطني الأراضي المحتلة ومغتصبيها أنّهم يعيشون محميين بقبة حديدية لا يأتيها الشر من أي مكان. وكما يرد المصعوق الفعل، كان منتظرًا أن تكشف هذه الآلة العمياء عن أبشع ما فيها للتنكيل بالغزاويين، وبكل الفلسطينيين أصحاب الأرض، فتبجّح وزيرها بأنهم قطعوا عن غزة كل شيء، وشرعوا في الحال في هدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وحرق الأطفال والنساء والشيوخ والشجر والحجر بآلاف الأطنان من المتفجرات انتقامًا للصهيوني الذليل. ووقف العالم هذه المرة على وحشية هذه الآلة النازية، ودوسها كل الأعراف والقوانين الدولية و"أخلاق الحرب" (وإن كانت الحرب بلا أخلاق بطبعها)، وعادت القضية الفلسطينية إلى السطح، وأعاد بنيامين نتنياهو النظر في تلك الخارطة التي رفعها يومًا "لبلاده" خالية من ذكر فلسطين ظنًّا منه أن المسألة قد حسمت، فإذا المظاهرات في كل بلد من العالم تندد بالاحتلال مجددًا، وإذا فلسطين الخبر الأول في نشرات الأخبار والبرامج، بما في ذلك قنوات ما يسمى مجازًا "العالم الحر".
أما تونس، التي احتضنت الفلسطينيين سنوات طويلة، واختلطت فيها الدماء بالدماء، والآمال بالآمال، فكانت ككل مرة في قلب الحدث، مبدية مساندة لا مشروطة للشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في أرضه وعدالة قضيته.
في هذا الاستطلاع السريع محاولة للاقتراب من أصوات مثقفين ومثقفات يمثلون قطاعًا واسعًا من الرأي العام التونسي، ويتكلمون بما يفكر فيه إزاء المأساة الفلسطينية، وما يحدث فيها منذ السابع من أكتوبر الماضي، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أشهر من التدمير والتنكيل.

عمر حفيّظ  (باحث):
عن معاناتهم و... صمتِنَا وحالة الهوان التي يعيشها العرب


ماذا يُريد العالمُ بأسره، وليس المحتلّون الصّهاينة فقط، من الفلسطينيّين؟!
أيّ معنى لقيم الحداثة الغربيّة، وحقوق الإنسان، وفلسفات العقل والوجود والأنوار، والاختلاف والحريّة، أمام وحشيّة الدّبابات والصّواريخ والنّار على مدار الوقت لقتل الأطفال والشّيوخ والنّساء والمدنيّين؟!
حتّى الحرب، بما فيها من دمار وموت، لها قواعدها، بل لها أخلاقها، ولكنّ ما يحدث في فلسطين لا أخلاق له، ولا أخلاق فيه. جيش إسرائيل عصابة من المجرمين والقتلة، وإسرائيل دولة مارقة. هذا الاحتلال، والاحتلال عامّة،  مرفوض، هو أقذر احتلال في التّاريخ. والتّراجيديا الفلسطينيّة هي أعظم تراجيديا، وحالة الهوان التي يعيشها العرب، اليوم، لا مثيل لها، ولم يحدث أن عاشتها شعوب من قبل.
ما يعيشه الفلسطينيّون، اليوم، وضع كلّ المبادئ والقيم التي رفعها الغرب شعارات مدويّة على امتداد سنوات، موضع سؤال وشكّ وريبة!
والإنسانيّة جمعاء أمام اختبار فظيع على قدر فظاعة الجرائم الصّهيونيّة في غزّة وفلسطين عمومًا. يجب أن نتمثّل الحالة التي أصبحنا فيها: لم نعد نقدر على متابعة الأخبار ومشاهدة الصّور، صور أطفال فقدوا آباءهم وأمّهاتهم يسيرون حفاة في مدينة مدمّرة محاصرة بلا ماء بلا طعام؟! صور الأجساد تحت الرّكام؟! أصوات نساء يستغثن تحت الأنقاض؟! صور آباء يحملون أبناءهم الشّهداء وهم يجوبون الطّرقات ولا يجدون مكانًا لدفنهم؟!
أيّ معنى للحياة في حدّها الأدنى؟!




صدقًا، لم يبق لنا إلاّ العويل في ليل هذا العالم. ولا أظنّ أنّ أيّ إنسان، مهما كان دينه، أو انتماؤه القوميّ، لا يبكي، أو لا يتألّم، وهو يعاين وحشيّة ما يعيشه الفلسطينيّون. والأكثر وحشيّة هو صمتنا نحن. فما يحدث من احتجاجات ومظاهرات من قبل الأحرار في المجتمعات الغربيّة، وفي أميركا اللاّتينيّة، وفي جنوب أفريقيا، وما يُصرّح به كثير من المثقّفين الأحرار في تلك البلدان يقابله عندنا نحن العرب صمتٌ ولا مبالاة، فكأنّنا ألفنا هذا الهولوكوست الجديد، وفقدنا الإحساس بمعنى الإنسان والحياة.
لا أظنّ أنّ اللّغة ستكون قادرة على كتابة تراجيديا الفلسطينيّين هذه الأيّام.

أمينة رزيق (كاتبة وناشرة):
بين المغتصب وصاحب الحقّ


نحن لم نعد نتابع العدوان، نحن نحياه بكل تفاصيله، فمنذ السابع من أكتوبر، تغير كل شيء فينا ومن حولنا.
ربما تابعنا مرارًا الجرائم السابقة على فلسطين، والتي لا تقل دموية ووحشيّة عن هذه المرة، إلا أنّ الأمر قد اختلف لسببين: أولًا، مواقع التواصل الاجتماعي تجعلك تعيش ما يقع هناك لحظة بلحظة، وألمًا بألم. وثانيًا، التهجير والتدمير والقصف والاغتيال، كلها مصطلحات صارت تدخل في حياتنا كي تصير مصطلحات طبيعية وعادية، وهي سياسة تطبيعية أخرى، فالتطبيع ليس تطبيعًا مع العدو فحسب، إنه تطبيع مع كل ما ينشره هذا العدو في العالم.
المعركة في الحقيقة ليست بين فلسطين وإسرائيل، فتلك هي أرض المعركة، أما الصراع في عمقه فهو بين صاحب الحق والمغتصب، هو بين "الإنسان" و"قوى الظلم والجشع". لذلك، فأنا، ككل البشر المتمسكين بإنسانيتهم الخائفين عليها، أذكّر نفسي في كل لحظة أنّ مشهد الأطفال الشهداء، والنساء المهجّرات، ومشهد الرجال العراة، هي مشاهد لا يجب أن تنسى، ولا يجب أن تصير عادية، أو أن نصنع منها لحظات فزع ودهشة سرعان ما ننساها ونتجاوزها.
القضية قضية "الإنسان" قبل كل شيء، وأقسى ما نخشاه هو أن يتحول هذا الانسان إلى مسخ. فصمت العالم عمّا يتحدث أمر مخيف فعلًا.
ولعّل الشعب التونسي محظوظ جدًّا، لكونه تربّى منذ أجيال وأجيال على حبّ القدس. وقد لعب الفن دورًا مهمًا في ذلك، فالصوت الفيروزي الصادح "القدس لنا" قد تغلغل في الوجدان التونسي، وكذلك كل الموروث الفلسطيني من لباس وأكل ورقص شعبي وحكايا، وغيرها، فهي ما فتئت تثري المشهد الثقافي المشترك.
لم تكن قضية عربية ولا دوليّة حاضرة حضور القضية الفلسطينية لدى التونسيين، فالقدس تكتسي صبغة القداسة وما يحيط بها من أرض ممتدة في عمق المواطن التونسي، تحيله إلى أرض الأنبياء والمرسلين. بقي سؤال وحيد غامض بالنسبة إلي، وهو هذا الوفاء التونسي لأرض الأنبياء، وهذا التقديس لما يقوم به الشعب الفلسطيني من تضحيات قد تفوق المخيلة البشرية أحيانًا، لماذا لا نستقي منه درسًا أكبر وأوضح وأنصع، وهو درس "الأرض". فكل أرض هي "قيمة" في حياة الفرد والمجموعة، وكل "أرض" تستحق منّا العطاء والحب والتضحية. ونحن شعب لنا الأرض، لكننا لم نعرف قيمتها بعد، لذا لم نتعهدها بالعمل والعمل الحقيقي.

شفيق طارقي (كاتب وشاعر وباحث):
نعيش العري الأكبر للبشريّة


ليس العدوان جديدًا، فنحن معتدى علينا من قديم الزمان، في قضايانا الكبرى والصغرى، نحن حدود منتهكة، وهوية مخترقة، وحالة عربية تدعو إلى البكاء... لا غير. ما حدث في السابع من أكتوبر كانت له السلطة التنبيهية، وكان له الدافع على تذكيرنا بأن القضية لم تمت، أو أننا قد نسيناها. إذًا، فأنا أتابع ما يحدث كوني مواطنًا عربيًا شاهد ما حدث بشكل مباشر، فتنبّه وتذكّر. لم تكن فلسطين غائبة، ولكن حضورها في السنوات الأخيرة أصبح صامتًا وخافتًا، وجاء الفعل المقاوم ليجعلها على رأس الاهتمامات، شعبيًا وإعلاميًا ودوليًا.




أتابع ما يحدث منذ أكثر من ثلاثة أشهر متألمًا ومندهشًا أمام ما وصله الإنسان من قدرة على أن يكون لا إنسانيًا بشكل تجاوز ما صنعه الخيال في متون الكتب وفي الأفلام. إننا نعيش صفحة الرعب الأبشع على مر التاريخ، تنقلها الكاميرا متفننة، ويعقب عليها المحللون الاستراتيجيون والمفكرون والجهابذة متوسلين ما أمكنهم من أدوات ومن مصطلحات... إننا نعيش العري الأكبر للبشرية، حيث فقدت كل المؤسسات قيمتها، لتتحول دروس التربية المدنية إلى فزاعات... حيث لا أمم متحدة، ولا مجلس للأمن، ولا جامعة للعرب... نحن في ما بعد السيريالية... صرت لا أتابع ما يجري لأنه تجاوزنا كل ميكانيزمات التلقي... ويبدو أن ما يحدث هو الذي صار يتابعنا في صحونا ومنامنا ليقول لنا... اللعنة عليكم... لا يتعلق الأمر بالمتابعة، فالكل يتابع ما يجري في غزة مثلما يتابع مباريات الدربي، وأخبار التفه من وحوش الشاشة ووحشاتها، ومن كرونيكيرات البرامج المهزلة... الكل يتابع، وتلك هي المشكلة، فالمتابعة تحول العادي إلى لا عادي، واللا عادي إلى عادي، وهذا ما يحدث في تقديري... بدأ الناس يتعودون ويتقبلون ما يجري، لأنه يجري بعيدًا عنهم... تعاطفوا خرجوا صرخوا رفعوا الأعلام قاطعوا... نظموا أمسيات لشعر المقاومة عقدوا الندوات... ولكنهم بدأوا يعتادون، والاعتياد أكبر جريمة ضد ما يحدث بعد ما يحدث... حزني على ما يحدث في غزة ليس أقل من حزني على ركوب بعضهم على ما يحدث لقضاء أمورهم... ولكني رغم ما تقدم أتابع ما يجري بأمل في شيء ما...
بديهي أن يتعاطف كل إنسان مع ما يحدث ما دام إنسانًا، وغير الطبيعي هو ألا يتعاطف، فذلك ينفي عنه إنسانيته. وأما تخصيص السؤال للتونسي فلا أرى ما يبرره، لأن التونسي إنسان، وجزء من هذا العالم، ومن حقه أن يتعاطف بحكم إنسانيته أولًا، وبحكم الانتماء، سواء إلى العروبة، أو الإسلام. وإذا كان لتعاطف التونسي ما يميزه، مظهرًا ومخبرًا، فذلك يعود إلى طبيعته الثقافية، فالتونسي متفاعل بطبعه، وهو ذات كونية تنصهر بعفوية مع كل الحوادث في العالم، فما بالك بقضيتنا الأم والمركزية بكل المعايير، وما بالك إذا ارتبط الأمر بما يحدث اليوم، خاصة من إبادة موصوفة لا يقبلها العقل... وعليه، فلا وجود لأسرار، لأن ما يحدث هو ما يجب أن يحدث، أي التعاطف، وذلك أضعف الإيمان. رغم أنه قد يختلف من شخص إلى آخر، فهنالك المؤمن بالقضية انطلاقًا من تموقع معين، عروبي، أو ديني، وهنالك المتحمس، وابن الشعب الذي نشأ على حب فلسطين، أيًّا كانت ثقافته، أو فهمه لعمق القضية وتفاصيلها، فنصرة القضية أمر يولد به التونسي وكل عربي يتربى عليه ويكبر معه... وهنالك شق آخر هم الراكبون على كل موجة، وأقصد الذين يسخّرون ما يحدث لحساباتهم الشخصية. وصرنا نرى الأمر في ما يعقد من أمسيات وتظاهرات الحماسة فيها للقضية لا تخلو أحيانًا من بعض الانتهازية، وهؤلاء، والحمد لله، قلة. أعتقد أن انتصارنا لفلسطين، ولغزة، يجب أن يتجلى فضلًا عما نشهده من تعاطف في مراجعتنا لأنفسنا، وفي نقدنا لذواتنا... من يحب فلسطين عليه أن يحب الآخرين، وألا يؤذيهم، فنصرة الحق لا تتجزأ...

نسرين المسعودي (شاعرة):
الألم وفخر المقاومة


نحن نتابع الشأن الفلسطيني بوصفه جزءًا من كل شعوب العالم العربي، ونحن لسنا مجرد متعاطفين مع الفلسطينيين... بل القضية الفلسطينية قضيتنا، ونحن والفلسطينيون كيان واحد، عقيدة وعرضًا وأرضًا. بصراحة، لا ننكر حجم الألم في هذه الفترة، غير أن شعورنا بفخر المقاومة يجعل الأمر في نفوسنا أقل خسارة، وأكثر أملًا. هذه المقاومة التي أربكت الكيان الصهيوني، ودمرت صورة الغول الوهمي الذي أوهمت به العالم. وغزة هذه الرقعة الصغيرة اجتمعت عليها قوى الغرب الرسمية بزعامة شرطي العالم أميركا... ومع ذلك، لم تحسم المعركة، ولم يحققوا أهدافهم المعلنة بعد. وهذا في حد ذاته نصر عظيم. فلسطين ليست معركة الوقت الراهن، إنما هي انتماء موصول لا ينقطع.

صالح السويسي (صحافي):
عن الوجه الحقيقي للاحتلال


لم ينتظر التونسيون يوم 7 أكتوبر 2023 كي يؤكدوا محبتهم التاريخية للشعب الفلسطيني، ودعمهم اللا مشروط لنضالات الفلسطينيين من أجل استرجاع أرضهم المسلوبة، وحقهم التاريخي في تقرير مصيره. ولكن اللافت هذه المرة أن تلك المحبّة ظهرت بأشكال مختلفة، ولم تكتفِ بالدعم المعنوي والدعاء فحسب. ومرة أخرى يلتقي الحاكم والشعب في تونس على درجة المسافة نفسها في دعم حق أبناء الأرض المحتلة في ممارسة حقهم في ضرب المحتل الصهيوني، ودك مضاجعه، وجعله يتكبّد الخسارات تلو الخسارات، ليكتشف العالم أن ما كان يعد القوة التي لا تُقهر أوهن من بيت العنكبوت.
وليس غريبًا أن يتعاطف التونسيون مع الفلسطينيين وهم الذين استقبلوهم قديمًا، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم، وما زالوا في تأكيد متواصل على علاقة أصيلة لا تشوبها مصلحة، أو حيّز زمني. ومع انطلاقة طوفان الأقصى، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًا في نقل ما يحدث، وحتى مع تدخل يد الغرب القذرة وسيطرتها على تلك المواقع وتوظيفها لخدمة الكيان الصهيوني، وتوجيه الرأي العام العالمي نحو ما يخدم مصالحه، إلاّ أن الإصرار والصبر والتحدي جعل الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال يبرز للعلن، ويكتشف العالم القبح والقذارة والنذالة التي تكسو هذا الكيان اللقيط.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.