}

عبد المجيد التركي: الكتابة بأجواء الحرب نوع من المقاومة

صدام الزيدي صدام الزيدي 30 مايو 2024
عبد المجيد التركي شاعر يمني من مواليد مدينة شهارة (محافظة عمران/ 1976). يقيم في صنعاء. وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. كان عضوَا في هيئة تحرير مجلة "الثقافة" اليمنية (2004- 2006)، وأشرف على الملحق الثقافي لصحيفة "اليمن اليوم". كما كتب أعمدة في الصحافة اليمنية حيث عمل صحافيًا ومدققًا لغويًا ابتداءً من صحيفة "الثورة" الرسمية الصادرة في صنعاء. صدرت له أربع مجموعات شعرية: "اعترافات مائية"- إصدارات وزارة الثقافة اليمنية، 2004؛ "هكذا أنا"- دار أروقة للنشر- القاهرة، 2016؛ "كتاب الاحتضار"- عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، 2016؛ "كبرت كثيرًا يا أبي"- عن دار الخليج للنشر- عمّان، 2023.

أنجز أعمالًا تلفزيونية بثتها قناة "اللحظة" اليمنية، هي عبارة عن حلقات وثائقية عن اليمن حملت عنوان "بعناية"، وأخرى بعنوان "الرائي" تمحورت حول الشاعر عبد الله البردوني، للقناة ذاتها. شارك في مهرجانات وملتقيات شعرية وثقافية عربية نذكر منها: "ملتقى النص الجديد"- القاهرة، 2010؛ "المهرجان الشعري السادس" بمدينة الرقة السورية، 2010؛ "مهرجان القدس العالمي"- تونس، 2012؛ "مهرجان التصالح"- العراق، 2013؛ "مهرجان الخيام"- بيروت، 2013؛ "الذكرى الخمسون لتأسيس رابطة الأدباء الكويتيين"- الكويت، 2014.

هنا حوار معه:

(*) كيف ترى إلى قصيدة النثر اليمنية التي تكتب اليوم؟

قصيدة النثر في اليمن متوهِّجة ومتجاوزة لما يُكتب في بقية الأقطار العربية. هنالك شعراء عشرينيون يكتبون قصيدة النثر باقتدار، مقارنة بغيرهم خارج اليمن.

المشهد الشعري في اليمن يشبه السيل في تدفقه، ولا شك في أن هذا السيل يحتوي على الغثاء أيضًا، لكنه غثاء.. ولن يبقى سوى ما هو جدير بالبقاء.

ورغم سنوات الحرب الطويلة، والمرتبات المقطوعة، والوضع غير المستقر، إلا أننا لا نزال نكتب، وننشر، ونطبع الكتب، ونقيم الفعاليات، ونسافر إلى دول كثيرة للمشاركة في المهرجانات الشعرية والثقافية، ولا نزال نلتقي في صنعاء مع الأصدقاء الشعراء والأدباء، رغم أن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أغلق أبوابه بسبب اندلاع الحرب. ولديَّ مقيل ثقافي في بيتي، يرتاده الشعراء والأدباء والمهتمون، ونجتمع فيه، ونحتفي فيه بالإصدارات الجديدة، وتدار فيه المثاقفات والنقاشات بشكل يومي.

(*) الحرب يا صديقي، هذا الكابوس الذي أفقنا عليه منذ أكثر من عقد من الزمن... أي انعكاسات ترتبت على المشهد الثقافي اليمني الذي كان مترديًا ويحاول التعافي أصلًا؟

للحرب ضريبتها الباهظة، والشاعر أو المثقف هو واحد من الشعب، وربما أنه أكثر إحساسًا بما حوله وأكثر ألمًا لما يحدث. وقد انعكست الحرب سلبًا على أكثر الشعراء والمثقفين، وعلى ملايين اليمنيين، فمنهم من نزح من مدينته وترك بيته في قبضة الريح، ومنهم من ترك العاصمة وعاد إلى قريته بعد أن انقطع مرتبه وعجز عن تسديد إيجار البيت، ومنهم من غادر إلى خارج اليمن، ومنهم من أصابه الإحباط فتوقف عن الكتابة.

عانيتُ من هذه الحرب كأي يمني، لكني قمت بتوظيفها في نصوصي، واستغللتها شعريًا، فالكتابة في أجواء الحرب هي نوع من المقاومة، والإعلان أننا لا نزال على قيد الحياة... ولا بد للشاعر أن يستغل كل المراحل التي يمر بها في حياته، ويخرج بخلاصاته وتأملاته في كل ما حوله، وقد خرجت من هذه الحرب بكتاب شعري عنوانه: "كبرتُ كثيرًا يا أبي"، صدر في 2023، إضافة إلى كتابين في السنة الثانية من الحرب 2016، هما: "هكذا أنا"، و"كتاب الاحتضار".

"كبرت كثيرًا يا أبي"...

(*) لنتوقف مع "كبرت كثيرًا يا أبي"، مجموعتك الشعرية الصادرة مؤخرًا عن (دار الخليج للطباعة والنشر– عمَّان، 2023). أحدَثت المجموعة أصداءً واسعةً لدى القراء والنقاد والشعراء اليمنيين. هل توقعت ذلك؟ وما هي أسباب هذا الاحتفاء، برأيك؟

مجموعتي الشعرية "كبرت كثيرًا يا أبي" أحدثت صدًى لدى القراء والشعراء والنقاد اليمنيين والعرب أيضًا، وقد تناولها العديد من النقاد والأكاديميين بالكتابة والبحث والدراسات النقدية، وهناك من يقوم الآن بتحضير بحوث ماجستير عنها في بعض الجامعات اليمنية.

بالتأكيد كنت أتوقع هذه الأصداء الإعلامية على "كبرت كثيرًا يا أبي"، لأنني كتبتها بوعيٍ عالٍ لأتجاوز بقصيدة النثر ورطتها التي وضعها المنظِّرون فيها. أردتُ أن أكتب قصيدة نثر مختلفة ومحلية لا تقفز على واقعها، ولا تحتوي على الغرابة والغموض، ولا تبحث عن الذهب في جبال الأولدرادو، أو تبحث عن ظلٍّ لها تحت شجرة صنوبر مجهولة. لذلك كان لا بد من أن أكتب قصيدة نثر بشروطي أنا، وليس بشروط سوزان برنار.

وسبب هذا الاحتفاء الذي لقيته مجموعة "كبرت كثيرًا يا أبي" أنها احتوت على قصيدة نثر تحتفي بتفاصيل الإنسان اليمني أولًا، وحين يجد القارئ اليمني أو العربي أن هذه القصيدة- الغريبة عنه بمضامينها والمتخاصمة مع القارئ العادي منذ الخمسينيات- تحتفي به وبتفاصيله فلا شك في أنه سيحتفي بها لأنه وجد نفسه فيها.

وقد اعتبر الشاعر والناقد علوان الجيلاني هذه المجموعة بأنها علامة فارقة، بقوله: "بهذا الديوان دخل الشعر العربي منعطفًا جديدًا".

أما الناقد هشام شمسان فقد ختم كتابته النقدية عن المجموعة بقوله: "وتأسيسًا على هذا النسق الشعري، يجوز لنا أن نقول إن هذا جنس جديد من الشعر، يمكن أن يُطلق عليه (القصيدة الروائية)، فيكون الشاعر عبد المجيد التركي هو رائدها الأول".

(*) اشتغلت، ولا تزال، في التدقيق اللغوي في صحيفة "الثورة" اليمنية وغيرها. ما الذي لاحظته على مدى سنوات ممتدة من الخبرة والتفاعل في هذا المجال. بصيغة أوضح، أين هو الاهتمام باللغة في صحافتنا المحلية اليوم وفي ما مضى؟

قد تندهش إن قلت لك إن بعض الصحف لا تضع التدقيق اللغوي في قائمة أولوياتها، وبعض الصحف لا تولي اختيار المدقق اللغوي المقتدر أهمية كبيرة، لذلك نرى تلك الصحف مليئة بالأخطاء، وكأنها لا تعرف أن ما تقوم بنشره لا يعدو كونه تلوثًا بصريًا، فاللغة هي أساس المعرفة، وهي أهم أدوات الكتابة، وهي عمود الشعر، وهي سلاح الشاعر والكاتب.

أنا أعمل في التدقيق اللغوي رغم أن هذا العمل مرهق، لكنه يمنحني شعورًا بالراحة، كأنني أحاصر بقعة القبح من التمدد والانتشار. العمل في التدقيق اللغوي أعتبره محاولة لتجميل وجه العالم.


(*) في أصبوحات وفعاليات شعرية يمنية دُعيت إليها، تتعمد إلقاء قصائد موزونة فيها نبرة غنائية رومانسية. ما الذي يدفعك لذلك وأنت واحد من أهمّ كتاب قصيدة النثر اليمنية، التي، بطبيعة الحال، ليست تطريبية؟

للفعاليات الشعرية طبيعتها، ولها جمهورها المختلف، الذي يكون عادةً من الشباب، فأن تقرأ قصيدة نثر وأنت تعرف أنها لا تتناسب مع طبيعة الجمهور فستكون كمن يذهب لجلب السُّكر من "الصليف" التي لا تنتج سوى الملح، أو كمن يؤذن في الفاتيكان. أنا أكتب قصيدة النثر، وأعمل على توطينها، ومنحها وجهًا جديدًا وملامح يعرفها النخبة، ويألفها القارئ العادي، وأظنني نجحت في هذا الأمر في كتابي "كبرتُ كثيرًا يا أبي". كما أنني أكتب الشعر العمودي، والتفعيلة، وأكتب أيضًا النص الشعبي، والغنائي. فما دمت مقتدرًا على كتابة كل الأشكال الشعرية فلماذا لا أكتب؟

لا فرق عندي أن تكون القصيدة منظومة أو منثورة، أو فصيحة أو عامية... وليست لديَّ مشكلة مع الأشكال، أنا مع الشعر الذي يدهشني في أي شكلٍ كان.

أعرف الكثير من شعراء قصيدة النثر الذين توقفوا عن كتابة الأشكال الأخرى، وبالذات العمودي، لأنهم يرون أن القطيعة مع التراث هي من شروط كتابة قصيدة النثر، ولا شك في أن رؤيتهم قاصرة، لأنهم يتعاملون مع الأشكال وليس مع جوهر الشعر، فالشعر ليس شكلًا بقدر ما هو روح، وجوهر، ومعنى.

الشعر أكبر من كلِّ تصوراتهم الشكلية، وأكثر من تنظيراتهم الجوفاء... قصيدة النثر ليست سهلة كما يتوهَّمون. قصيدة النثر لها أجنحة خرافية، لكنهم يخشون الطيران، لذلك سيظلون في النفق المظلم من دون أن يجدوا الضوء الذي في آخره.

(*) "شهارة"... المدينة المعلَّقة على رؤوس الجبال، ليست فقط شاهدة على مراتع الصبا وأحلام الطفولة وأمنياتها، وإنما هي قصيدة تكتبها وتقدمها للعالم. إلى أي مدى أنت مرتبط وجدانيًا بشهارة؟ وما الذي استطعت فعله الآن - بعد أن كبر الفتى وتخطفته السكنى منذ عقود في صنعاء- حيال الانهيار الملحوظ لملامح المدينة التي كانت يومًا منارةً وورشة ضاجة بالحياة؟

أنا ابن هذه الجبال، وابن هذه الحقيقة... ارتباطي بها لا أستطيع تشبيهه بشيء.

سرَّتي مدفونة في شهارة. أشعر أن هنالك حبلًا سريًا طوله 155 كيلومترًا، هي المسافة بين شهارة وصنعاء، لا شيء يستطيع أن يفصلني عن هذا الحبل السري. 

شهارة... المدينة التي ملأت أجنحتي بالريش، وعلمتني معنى التحليق.

شهارة... هي دهشتي التي لم تخفت، رغم المدن الكثيرة التي مررت بها وفشِلَت في إدهاشي.

تلك الجبال نحتتها أصابع أجدادي، وتحدَّوا تضاريسها بزراعتها، وطوَّعوا الصخور، وليَّنوا الجبال بعرق جباههم، فاخضرَّت كقلوبهم.

أنا في صنعاء منذ أربعين عامًا، لكن شهارة لم تغب عن عيني ولا عن حديثي يومًا واحدًا، وكلما وضعت رأسي على المخدة أرى نفسي أتجوَّل في شوارعها وأستنشق روائح أحجارها المبلولة بعد المطر.

أما بخصوص انهيار ملامح المدينة بعد أن هجرها الكثير من سكانها وانتقلوا للعيش في العاصمة وغيرها، فلم أستطع فعل شيء سوى كتابة مقالات صحافية كمناشدة للجهات المختصة بالحفاظ على هذه المدينة وحماية آثارها والمحافظة على جمالها ودهشتها... ولأن بيتنا هو واحد من هذه البيوت المهجورة، فأنا أسافر كل صيف لأتفقده وأحرص على إصلاح أي خلل بسبب الأمطار كي يبقى البيت واقفًا يحتفظ بكل الذكريات، ويبقى ملاذًا للعودة إليه بين فترة وأخرى كلما اشتد بي الحنين.

عن منصات التواصل

(*) لا يمكن الحديث عن السوشيال ميديا بعيدًا عن تأثيرها الملحوظ على الإبداع والتثاقف والتواصل. وإن كان ثمة سلبيات. على الصعيد الشخصي، ما الذي أضافته لك المنصات؟

السوشيال ميديا بقدر ما تأخذ الكثير من الوقت، لكنها أضافت لي الكثير. صفحتي على الفيسبوك عرَّفتني على الكثير من الشعر والشعراء، والكثير من الكتب. السوشيال ميديا طارت بي إلى المشاركة في مهرجانات عربية ودولية عديدة، وأوصلت اسمي إلى دور النشر التي طبعت كتبي، واختصرت المسافة بيني وبين الصحف والمجلات.

هي إضافة تكنولوجية مهمة، وهي واحدة من أدوات العصر التي يجب على الشاعر توظيفها بما يخدم القصيدة وتطوُّرها.

(*) حدثنا عن البدايات... كيف تشكَّلت قراءاتك؟ محاولات أول قصيدة؟ أول صحيفة أو مجلة تصل يدك؟ إلخ...

لا يمكن تلخيص البدايات في عُجالة كهذه، لأن البدايات تعني تشكُّل التجربة الشعرية، والحديث عن هذه التجربة سيحتاج إلى حيّز كبير لا تتسع له هذه المساحة. الوعي بالبدايات يبدأ من الطفولة، منذ بدء الشعور بالاختلاف عن الآخرين، والتأمل في كل شيء حولنا، حينها تبدأ رحلة البحث عن الذات، والسعي لتحقيق هذه الذات يكون بإنجاز ما نوقن أننا قد وُجدنا لإنجازه.

أما القراءات فقد بدأت بالتشكُّل من كتاب القراءة والمحفوظات الذي كان مقررًا على الصف الرابع الابتدائي، ومن حكايات جدتي التي كانت ترويها لي قبل النوم. كنت أنام وأنا أفكر في وضع خاتمة أخرى لهذه الحكايات، وصرت أخترع حكايات، وأشعر أن بداخلي شيئًا أريد أن أقوله، فبدأت بمحاولة كتابة أول قصيدة، وكانت هذه القصيدة هي الخطوة الأولى في هذه الرحلة التي أشعر أنني أقطعها على ظهر طائر الرخ.

أول مجلة وصلت إلى يدي كانت مجلة "العربي" الكويتية. وقد كانت الصحف بالنسبة لي عالمًا مفتوحًا، كل صفحة لا تشبه سابقتها في المحتوى، وفي الإخراج. وكنت أرى أن الصحف هي النافذة الأفضل التي أستطيع فيها إيصال صوتي، ولأن صحيفة "الثورة" هي الصحيفة الرسمية الأولى في اليمن، وضعت في رأسي فكرة أن أشتغل في هذه الصحيفة لأدخل من خلالها إلى كل بيت وكل مكتبة، وتحقق هذا الطموح، ولا أزال أشتغل فيها حتى اللحظة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.