}

عقدة

بسام جميل 26 أكتوبر 2017
قص عقدة
عمل للفنان السوري خالد تكريتي


فتحت خزانة جدي؛ في أكثر من مناسبة خلال طفولتي كنت ألاحظ اهتمام جدي بخزانته، كنت أراه وهو يُعنى بترتيبها ونفض الغبار عنها وعن الأشياء التي في داخلها وحولها، وكان يثير فضولي المحتوى الذي يحرص جدي على العناية به إلا أنني لم أجرؤ يومًا ما وقتها على اختلاس النظر أكثر إلى تلك الخزانة والصناديق التي تستحوذ على مساحة كبيرة من غرفته. كبرت قليلًا فشغلتني أمور النضج والاكتشاف عن تلك الأسئلة التي كانت تدور في رأسي، حول ما تحتويه تلك الخزانة والصناديق المقفلة، ثم كبرت أكثر وقفزت عن أمور النضج تلك لأعاود الوقوف على حافة الطفولة التي أصبحت خلفي من جهة، وجدار شاهق في الوعي أصبح أمامي من جهة أخرى. كان عليّ تسلق ذلك الجدار أنا الخارج من الطفولة قاصرًا عن فكرة الصعود محملًا بتداعيات الشقاوة والفضول. عدت إلى دمشق مستخدمًا طريقًا غير شرعي لأجل الوصول إلى بيت جدي، حيث أصبحت غرفته جثة محنطة ممتلئة بالغبار والوهم بأنه كان يومًا هنا. لم يك صعبًا عليّ أن أخلع باب تلك الخزانة، ولا أقفال الصناديق التي يبدو أنها لم تثر اهتمام لصوص الحرب، أو لم يكن لديهم الوقت لذلك. الصناديق تحتوي على دمى متشابكة بخيوط كثيرة متشابكة وغبار ملون! اللصوص لم يملكوا الوقت حتمًا لفكّ عقد تلك الخيوط، أما أنا فربما هو الشيء الوحيد الذي أتفوّق فيه على الجميع وأملكه، بدأت بمحاولة فك العقد لتلك الخيوط لأخرج دمية واحدة في كل محاولة. وجوه الدمى الحزينة كانت تحدّق بي وأنا أفعل ذلك، كانت وكأنها تستنجد بي أو تشكرني على تحريرها، وجوه الدمى تلك كانت تزداد فراغًا كلما نجحت في فك الخيوط المتشابكة فيها، لا أعرف إن كانت تبدو حزينة حقًا أم أن وجوهها  تفتقد التعبير فحسب؟ هي لا تدل على عاطفة ما، وما من شكل يفرقها عن بعضها، كأنها حيوانات من ذات الفصيل، أو منتج مكرر لنسخة واحدة. ما كان يجعلني أميز تلك الوجوه عن بعضها هو الغبار الملون المنثور عليها، لكل دمية نصيبها من الألوان بكثافة مختلفة. فتحت الصناديق فوجدت قطعًا خشبية، بعضها عصي وأخرى ألواح صغيرة المقاطع. حاولت ربطها بتلك الخيوط المعلقة بالدمى واكتشاف آلية عملها فلم أفلح بذلك. صففت الدمى بجانب بعضها، كأني أعدّها لمشاهدة فيلم في السينما، رؤوسها المحنية والمثبتة الانحناء بالخياطة من المصنع منعتها من مشاهدة الفيلم المفترض، بدا عليها الانشغال والتعمق بمراقبة أمر غريب، كل الدمى تنتعل أحذية بلاستيكية، وكل الأحذية تملك رباطا لها. لم يك الرباط معقودًا في كل النسخ من الأحذية ولم تحد الدمى بنظرها عن هذا الرباط. خرجت من منزل جدي وفي طريقي إلى لبنان عائدًا من ذات الطريق التي أتيت منها، كنت أنظر حولي وأحدّق في وجوه المارة وأتساءل عن تلك العقدة المفقودة التي شغلتهم طوال سنوات.

 

 *كاتب فلسطيني

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.