}

أبناء الأنابيب

عبد الله جنّوف 8 فبراير 2020
سير أبناء الأنابيب
لوحة للرسام الهولندي هيرونيموس بوس (1450- 1516) (Getty)
تفتتح يومك باللعب والقفز في طبيعةٍ تشعر بشدّة ضآلتك فيها. فتزداد بها ولعا.. للمطر أغنيةٌ، وللشمس أغنيةٌ ودعاءٌ تردّده كلّما سقطتْ سنّ من أسنان اللبن. والليلُ رهبةٌ وسكونٌ وقِصصٌ يُعاد فيها الخلق والتكوين بأمانيّ الإنسان وأوهامه. والسماءُ عروشُ آلهةٍ ومنازلُ ملائكة ومُستجَاب أدعية. الكونُ عالَمٌ مفتوح، وأفقٌ يؤدّي إلى أفق، وخلْقٌ عظيم لا يكترث لمن فيه. والغيبُ ميدانٌ فسيحٌ شاسعٌ، وسراديبُ موحشةٌ يمزّق ظلمتَها صفاءُ القلب. وكلّما ازداد القلب صفاء ازداد نوره في الغيب سطوعا.. الصفاء سرُّ كلّ شيء ومفتاحُ كلّ شيء.. النيّةُ الصافية والقلب الصافي والحُبّ الصافي والعِشرة الصافية.. في هذه المعاني الفسيحة نشأت، وبها تعاملت وصاحبت وعاشرت، وشيّدت عوالم من الخير والصفاء والحبّ والسذاجة. ثمّ شببت، وعرفت الأيديولوجيا، وانهمكت فيها - وهي اختيارُ غيرك لك- وتوهّمت أنّك عرفت الحقّ كلّه، وتخيّلت أنّ قولَك عينُ الحقيقة، وعقلَك ميزانُها، واختيارَك معيارُها. وأعجبتك نفسك الضيّقة. وحواك عقلك المحدود. وظننت أنّك طويْت دروب الكون كلَّها، واخترت أحسنها وأقومها، ومشيت فيه حرّا مقتنعا واثقا.. وكم عدَدْتَ وثوقَك نشأةَ وجودك، وساعةَ استبصارك، ولحظةَ وعيك، ومولدَ ذاتك، وموعدَ تكوّن هويّتك، وتاريخَ استقلال كيانك، وبدايةَ آمالك وفعلك وتأثيرك... يومئذ سدَدْت جميع الأبواب، ودخلتَ في الأنبوبِ، وشكّلْتَ طينتَك بصورته، وقيّدت بصرَك بجداره، وخنقت أنفاسَك بريحه، وكتمت صوتَك في جوفه، وعطّلت حسَّك ببرودته، وحبست عقلَك في ظلمته، وعصرت روحَك في ضيقه، وعقَمْتَ خيالَك في انغلاقه. وأنت الآن بلا جهة، مكتومٌ معدومٌ، ملْمومٌ على وهمك، محرومٌ من نفسك، يدْفعك الضغط ويقْبضك، وتحيط بك الظلمة، وينقطع عنك الهواء، ولا يصل إليك ضياء.

هل ألفْت عيش الأنابيب؟ هل تطلب فيها دينَ الله؟ أم تقتفي أثرَ عظيمٍ؟ أم تطمع في شهوة ولذّة؟ تفرّ من التعدّد، وتهرب من الاختلاف، وتزاحم نفسَك في ألفة الوحدة وضيقها، وأُنس المماثلة وكرْبها، وسكينة الموالاة وفقرها.. ولو خرجت من وثوقك، لعلمت أنّ اعتقادك تمثّلٌ لا حقيقة، وحقيقتك تأويل لا واقع. ولو فكّرتَ في تجربتك، لرأيتَ أنّه ليس في الأنبوب ربٌّ معبود ولا عظيمٌ مقصود ولا لذّةٌ ساحرة، وليس فيه سواك، مكرَّراً وجهُك في الأمثال، مردَّداً صوتُك في النظائر، متمثِّلةً صورتك في الظلال. فأنت وصُوَرك في أنبوب الأيديولوجيا أشباحٌ بلا أرواح، ونظائرُ بلا وجوه، ووهْم يصطدم بوهم، ومحروم يرتطم في محروم.
فاحتجبْ يوما عن آلهة الموالاة وسدَنة الطاعة ودراويش الثقة. واجمعْ ما بقي من صوتك، وادعُ ما خفق من نفسك، شوّقْ روحَك إلى الحرّية، حبّبْ إليها الخروج من ضيق المماثلة وظُلمة المشاكلة وعبوديّة المتابعة. لا تصادر الحقيقة، فعقلك أصغر من أن يحيط بها، وقبْضتُك أضعف من أن تحبسها. اقرعْ باب الشكّ تسمعْ دندنة عقلك، حدّثْه عن دروبٍ لم تسلكها، وآفاقٍ لم تَرَها، وحياةٍ ممكنة لا تعرفها. اربط جأشك، وانتزع وجهك من ظلّك، وفارقْ أشباهك، واطلبْ أضدادك ومخالفيك، فبعضُ حقائق نفسك لا يجلّيها إلّا ضدُّك، وبعضُ طرق وجودك لا يفتحها إلّا مخالفك. ذكّرْ قلبَك حياتَهُ قبل جمود الأنابيب، أيقظْه بأغنية السنّ الجديدة ودعاءِ الهلال الوليد، أحْيِه بأنشودة المطر.. انظرْ إلى الماء مطرا منسكبا وسيلا متدّفقا وجدولا مترقرقا وقطراتٍ راقصةً وبحرا هائجا وشاطئا وادِعا وبرَدا ناصعا وبخارا سابحا وثلجا حالما وندًى رطْبا وفراتا عذبا، فإذا أُدخِل في الأنبوب مُحيت صوَره، ومُسحت وجوهُه، وخُنقت ألحانه، وقُطّعت أعضاؤه، وسُدّت جهاته. فإذا شقّ الأنبوبَ، انبجس واندفع بقوّة التحرّر، وانفسح في الجهات، وتنفّس الصعداء، واستقبل الضياء...
"ترجو انفساحا، وكم للماء من جهة   إذا تخلّص من ضيق الأنابيب"

*كاتب من تونس

مقالات اخرى للكاتب

قص
2 يونيو 2020
سير
10 أبريل 2020
سير
8 فبراير 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.