}

ملامح من الجنوب

مي عاشور 9 مارس 2020
يوميات ملامح من الجنوب
الملامح التي أكتب عنها تحديداً بجنوب مصر (تصوير:مي عاشور)
الحياة طريق طويلة نمضي فيها، ونمر بأشياء كثيرة ونلتقي بأناس كثيرين، ولكن هل كل ما نمر به يُنسى بسهولة؟ وهل كل من نلقاهم ويمرون بحياتنا، يتساقطون من ذاكرتنا بمجرد أن نخطو بعيداً عنهم، ويصيرون أشبه بضوء طفيف يخترق زجاج نافذة؛ لا يبقون طويلاً ولا يتركون أثراً؟ قد تكون الإجابة متعلقة بالملامح، ليست تلك المرتبطة بتعابير الوجه وتقسيماته، ولكنني أقصد هنا ملامح المكان الذي يحمل قصصاً مختلفة تظل راسخة في العقل والقلب. فمع الزمن تتلاشى ملامح الوجه، ولكن تظل ملامح المكان، وما ارتبطت به من مواقف وذكريات حاضرة بقوة. والملامح التي أكتب عنها هي تحديداً من جنوب مصر.

 

العطار
طقس متباين جداً، وكأنني أقف على خط عازل لفصلين مختلفين؛ حرارة شديدة نهاراً، وبرودة قارصة ليلاً. تلتهب أحبالي الصوتية؛ ويبدأ صوتي في التغير ثم التلاشي، وتشرع نوبات السعال في مباشرة أعمالها. أفكر في التداوي بطريقة طبيعية بل وتقليدية. أتجه إلى دكان العطارة. أمر مفروغ منه، أن المرء يتأقلم مع الظروف، وما تفعله الحداثة وضجيج المدينة به، ما هو إلا وهم كبير، يوسوس له بأنه سيموت حتماً، لو لم يعش بطريقة بعينها، ليكتشف أنه دائماً يميل إلى الاندماج مع الطبيعة، وربما لا يعرف ذلك، إلا عندما لا يكون أمامه بديل، ويظل حبيساً للموقف.
هنا في قرية نوبية، كل شيء مبهج، بما في ذلك دكاكين العطارة: ألوان الأعشاب المتباينة، دخان البخور المتصاعد، تدرج ألوان الزيوت والصابون الطبيعي، ورائحة المسك التي تجذب المارة.
أطلب من العطار القليل من "اللبان المُر"، فيضعه لي في كيس شفاف، ويقترح أن أتناول معه أعشاباً أخرى. أشكره. وأقول له أنني أكتفي به الآن.  يقول من تلقاء نفسه، إن هذا دواء، ولن يتقاضى مقابلاً له. أصر على دفع ثمن ما أخذت، ولكنه يرفض رفضاً قاطعاً أخذ قرش واحد، أستسلم لرغبته على استحياء. أغادر المكان، ويلازمني شعور حسن بالامتنان.
نسمات الليل اللطيفة تملأ الأجواء، وبحركة عشوائية للهواء، يتناثر كل شيء تافه وسخيف.

 

بائع الفخار
نحن في سوق أسوان، أنوار الدكاكين تطرد ظلام الليل الذي يستوطن الأمكنة عنوة، ألوان الشِيلان والملابس التقليدية، ورائحة المقاهي، وأصوات الأغاني الكلاسيكية المنبعثة منها تذيب هموم المارة دون شعور منهم. على اليسار يقف رجل بعربة متنقلة، تلك التي تشبه عربات بيع الفواكه والخضروات في شوارع القاهرة، ولكنه يستبدل البضاعة المعتادة بالمخبوزات والفطائر الطيبة.
عند تقاطع بعينه، تنتهي السوق السياحية، لتبدأ أخرى شعبية، في ممر السوق الممتد، والذي لا أرى نهاية له، تتعاقب خطى المارة، ولكن هناك وتماماً في زاوية بجانب صندوق للكهرباء، يجلس رجل مسن، يفترش بضاعته على الأرض، أقترب أنا وصديقتي منه، أرى قطعاً فنية يدوية من الفخار، يرحب بنا في متجره المتواضع الموجود على الرصيف، يتحدث بلهجة مغايرة تماماً، ولكن يمكن تخمينها، يتوشح بشال صعيدي ضخم، يرتدي جلباباً، يطل جزء من وجهه وشاربه من فراغ الشال الضخم الملفوف على رأسه وجسده.
نحن نتمرد على الأشياء، حتى نرتطم بواقع قابلناه صدفة، وحينها نفهم أن الحياة أكثر تعقيداً من أن نضجر من أشياء تافهة، وأن نحزن على أشياء ثانوية لم تتحقق. في مكان ما، بعيد جداً، قد نذهبه مرة واحدة، ولا نُكرر الذهاب إليه، نرى أشياء تستوقفنا. ربما هي رسائل غير مباشرة تستدعي التأمل، أو قد تكون فلسفة بلا معنى خاصة بي.
قبل مغادرتنا، يردد الرجل كلاماً تثقله اللهجة، ندرك أنه دعاء، أشعر أنه الأكثر إخلاصاً على الإطلاق.

نحن نتمرد على الأشياء، حتى نرتطم بواقع قابلناه صدفة (تصوير: مي عاشور)


















سيدات في قرية شبه خاوية
أمام ضفة النيل، مراكب عابرة، تطوق السماء بموسيقى نوبية، تستدعي إلى الذهن رقصة "الأراجيد".  تُغطى الأرض اليابسة بأوراق نضرة؛ فهذا الجفاف الذي تعلنه الرمال، ليس بنهاية المطاف، ولا الجولة الأخيرة، ولا المرحلة التي ينضب بعدها كل شيء، بل أشبه بتَذكِرة بأن المعاناة لا تنتهي دائماً بمأساة.

ألوان البيوت في القرى النوبية مع صفاء النيل ودرجة زُرقته الفريدة، تبدو كقطعة فنية نادرة، الرسوم على جدران البيوت وتناغم ألوانها رهيب؛ شيء بسيط وفطري، ولكنه أكثر ذوقاً من لوحات قد تراها في أشهر متاحف العالم.
لا علاقة للجمال بالتكلف؛ لأنه إحساس قبل أي شيء، يطغى في النهاية، رغم كل البؤس، والأسى، والظلام، والقبح، والظلم.
الطقس حار جداً، تبدو القرية خاوية وقت الظهيرة، وكأنه هجرها أهلها، المنحدرات في كل مكان، الشمس الحارقة تفترش بصهدها الطريق.  أشعر أنني أسير وسط الصحراء، ورغم كل هذا، أرى سيدات يجلسن على مسافات متباعدة ترتدين جلابيب داكنة، ويبعن مشغولات يدوية نوبية، دون أن يستظللن بأي شيء.
أخجل من شعوري بالتعب المؤقت، والذي أعرف يقيناً أنه سينتهي بمجرد الوصول إلى واجهتي، ويجمدني الخجل عندما أوقن أن هذا الشعور، هو نمط الحياة اليومية لبعض السيدات في سبيل كسب قوت يومهن.
في منتصف الطريق، تكسر حدة الحرارة الحارقة، استراحة بسيطة مبنية من الطوب، بها زير ماء، وبعض ظلال الأشجار المنعكسة عليها.

(تصوير: مي عاشور) المرء يتأقلم مع الظروف، وما تفعله الحداثة وضجيج المدينة به، ما هو إلا وهم كبير


















قبيل الغروب، ربما بساعة أو أقل أذهب للتجول في القرية، الطريق لا زالت خاوية، وفجأة يظهر شيء ما في الأفق، لا تبصره عيني بوضوح، ولكنه يومض من بعيد، إنه انعكاس أشعة شمس المغيب على جلباب أسود لسيدة مسنة، تنزل من المنحدر صوبي، تقف أمامي، وتشرع في الحديث معي بلهجة نوبية. أفهم منها تكرار كلمة "يا بنتي"... "يا بنتي"، تسألني ماذا أفعل هنا، وتتحدث قليلاً مبتسمة، تدعوني لبيتها، ثم تشير إلى مكان بعيد أسفل المنحدر وتقول إنها تسكن هناك.
سارت ببطء، ولكن وقع خطواتها أحدث صدى حادا للصوت بداخلي، ربما لن أراها ثانية، ولن أتذكر ملامحها، ولكن خطواتها تلك، في حد ذاتها ملمح، سيظل محفوراً في ذاكرتي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.