}

المجتمع الفلسطيني في الحروب: انقسامات دينية وفكرية وسياسية

عمر شبانة 13 ديسمبر 2023

 

في كلّ حرب يخوضها الشعب الفلسطينيّ مع عدوّه الصهيونيّ، تشتعل النقاشات داخل بيوت الفلسطينيّين، داخل العائلة الواحدة نفسها، بين من هو "مع" ومن هو "ضدّ". وحتّى في حرب العدوّ على غزّة هذه الأيّام لم تتوقّف النقاشات، وحتّى الخلافات والاختلافات والاتّهامات، بخصوص عملية "طوفان الأقصى"، ما لها وما عليها.
هنا وقفة على أسباب هذه النقاشات ومآلاتها.

أذكر في آذار/ مارس 1968، قبيل معركة "الكرامة"، حمّلنا الأهل في شاحنات لنرحل إلى عمّان، وفي الطريق، وبينما الطائرات الإسرائيليّة، وقيل بريطانيّة، تحلّق فوقنا، كان الخوف من قصف الشاحنة ومن احتراقها، فاختلف الكبار حول ما يمكن التخلّص منه ممّا تحمل الشاحنة، وانتهى الأمر، على مضض، بالاتّفاق على التخلّص من "تنكات" الزّيت، زيت الزّيتون، القابلة للاشتعال، وقد تمّت التضحية بها!

-1-

شهد المجتمع الفلسطيني، منذ عقود على الأقلّ، وما يزال يشهد، ومثل أيّ مجتمع في العالم، الكثير من الانقسامات الدينية والفكرية والسياسية، والحديث هنا عن الفلسطينيّين عمومًا، وليس في فلسطين التاريخية فقط، لكنّ هذه انقسامات لم تكن، طوال الوقت، من تلك القادرة على تمزيق المجتمع، بل كانت من النوع الذي يحيل على التنوّع والغنى في خريطة مكوّنات هذا المجتمع، لكنّ هذه الانقسامات المجتمعية برزت، في بعض المراحل والمحطّات، في صورة خلافات بين العائلات، وأكثر من ذلك فقد دخلت إلى العائلة الواحدة، ما جعل هذا المجتمع يبدو ممزّقًا، غير أنّها ازدادت شدّة وتأثيرًا مع الاستعمار الصهيونيّ لفلسطين منذ قيام الكيان الصهيوني خصوصًا... لكنّها لم تبلغ حدود تمزّق المجتمع حتّى الآن.

تزايدت الخلافات والانقسامات مع انطلاق المقاومة الفلسطينية، مع انطلاقة حركة "فتح"، وعدد من التنظيمات، من تيارات فكرية واتجاهات سياسية متباعدة، بين اليسار واليمين، وما بين القوميّ والماركسيّ، ولم يكن ثمّة حضور واضح للتيار الدينيّ الإسلامي، أو للإخوان المسلمين تحديدًا. وهنا لا بدّ من الانتقال إلى مستوى المعايشة والمشاهدات والقراءات القريبة لمشهد الانقسام، بدءًا من معركة الكرامة وما تلاها من انقسامات في جسد المقاومة الفلسطينية، وهي انقسامات جرَت على صعيد المجتمع والعائلات الفلسطينية حتّى.

-2-

ابتداءً، أتذكّر من طفولتي في مخيّم/ بلدة الكرامة للّاجئين، سيادة طريقة صوفيّة من الدراويش، كانت لها "زاويتها"، وقد كنتُ من روّاد هذه الزاوية منذ طفولتي بحُكم أنّ جدّي كان على رأسها، يؤمّ الدراويش ويخطب فيهم، لذا كثيرًا ما شهدتُ حلقات "الدّروَشة" و"الله حيّ" بعد صلاة الفجر تحديدًا، وما يهمّني هنا هو مواقف هذه الجماعة من المقاومة الفلسطينية التي كان حضورها قويًّا في الكرامة، فقد كان موقف الغالبية معارضًا للمقاومة، إذ كانوا يرون أن الفدائيين "كفّار" أو ملحدون، فهم يسبّون الربّ والدين، لذا كان كثيرون منهم منبوذين من قِبل الدراويش، علمًا بأن الدراويش لا تربطهم بالسياسة أيّ روابط قوية تُذكر، فعلاقتهم هي مع الله. 

لكنّ هذا الموقف الغريب، لم يمنع قلّة قليلة من الدراويش من حمل السّلاح والمشاركة في المعارك والعمليّات المسلّحة الفدائية ضد قوّات الاحتلال الصهيونيّ، وكنتُ شاهدًا على تلك الدعوات التي كانت تطلقها جدّتي (الدرويشة أيضًا، وهي بنت الفالوجة والطريقة الرفاعية المعروفة)، مستنجدةً بـ"سيدنا الرفاعي"، طالبة النصر لهم، كما أنني لا أنسى منظر الشيخ "عطا" وهو يحمل الكلاشينكوف، أو الآر. بي. جي، فوق دشداشة من الدشاديش القصيرة نسبيًّا التي يُعرف بها الدراويش، وكثيرًا ما شاهدناه نازلًا بين الحقول، باتّجاه نهر "الشريعة"، نهر الأردنّ، أو عائدًا من هناك يتصبّب عرقًا.

عدا موقف الدراويش هذا، يستوقفنا موقف جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يجدر الوقوف عليه، ليس نظريًّا ولا كما نقرأ في الكتب، بل من واقع التجربة والمشاهدة، لذا أعود الآن إلى بدايات السبعينيات، حين كنت في الثانية عشرة من عمري، وكنّا أشبالًا في معسكرات المقاومة. وأتوقّف عند عام 1970، وتحديدًا عند أيلول/ سبتمبر من ذلك العام، حيث برزت بشدّة الخلافات السياسيّة والفكريّة بين "القوى" والتنظيمات الفلسطينية نفسها، وبينها وبين الجماعة الإسلامية المعروفة بانتشارها وقوّتها.

هنا، ربّما عليّ أن أبوح هنا بشيء من التجربة الشخصية في هذا الإطار، تجربة تبدأ من عام 1970، ومن انتشار معسكرات المقاومة، فقد كنت عايشتُها وخبِرتُ تفاصيل منها. ولا بأس أن أبدأ بأقرب الأشبال مني، وكنّا في معسكر من معسكرات "فتح"، وكان قائد المعسكر يدعى "الفاتح"، وكان الشبل المقرّب جدًّا، محمّد، ينتمي إلى عائلة متديّنة، بل من فئة الدراويش، وكان معنا في المعسكر "رفيق" شبل نشأ في عائلة متديّنة ولكنّها من جماعة الإخوان المسلمين. وللحديث عن هذه الجماعة، منتسبيها ومؤيّديها، ثمة اتجاه آخر مختلف.

في معسكرات "فتح" للأشبال التي كنّا نتدرّب فيها، كان يبدو ثمّة ميول إسلاميّة، على العكس من معسكرات فصائل ذات توجّهات يساريّة، والميول الإسلاميّة كانت تتجسّد في شعارات وهتافات واضحة الاتّجاه، ولا داعي للتفصيل هنا.  

ولأنّ حركة "فتح"، كما هو معروف، كانت تضمّ تيّارات الشعب الفلسطينيّ بيمينها ويسارها، فقد كان للإخوان المسلمين حضور بارز فيها. ولا زلت أذكر جارًا لنا من "الجماعة" كان يمتلك سلاحًا (كلاشينكوف بالأخمص الخشبيّ)، من دون أن يكون عضوًا في "فتح"، وأتذكّر أنّه قام بإشهار سلاحه هذا في غير مناسبة، بما فيها خلاف عائليّ مرّة، وخلاف مع عنصر في تنظيم يساريّ مرّة أخرى. 

سوى ذلك، وبصورة أشدّ وضوحًا، فقد كان أحد أبرز أعلام جماعة الإخوان (د. أحمد نوفل) قائدًا من قادة حركة "فتح" في شمااليّ الأردن (إربد). ولهذا فقد كان واضحًا هذا اللقاء بين الحركتين ("فتح" والإخوان). ولهذا لا أستهجن ما أخبرني به رفيقي الشبل بأنّ والده "الإخونجيّ" ألزمه بمعسكر "فتح"، وهدّده إذا فكّر بالذهاب إلى معسكر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهدّده بإطلاق النار على قدميه ليمنعه من ذلك، وهكذا يمكن التوقّف عند هذا النمط من الاختلاف الذي كان يبلغ حدود التمزّق في نسيج المقاومة، وينعكس على المجتمع كلّه. وقد شهد عقد السبعينيات تزايد الصراع بين اليمين واليسار، وحتى مطلع الثمانينيات. لكنّ هذا التمزّق لم يدُم طويلًا في الأردن، وسرعان ما انتقل إلى بيروت التي غدت ساحة لصراعات الفصائل، بما في ذلك الصراع المسلّح المعروف. وما يزال صراع القوى مستمرًّا، الذي بلغ ذروته مع اتفاقيّات أوسلو، وانتهاء بالصراع بين سلطة "أوسلو" وبين سلطة حماس في "دولة" غزّة... بين مبدأ شاع منذ أوسلو يتمثّل في شعار صائب عريقات "الحياة مفاوضات"، وبين "حماس" التي يذكّر أداؤها العسكري بما كان عليه النشاط العسكري لـ"فتح" وفصائل فلسطينية منذ البدايات، مع فارق الحجم ربّما. فهل ثمّة أيّ احتمال لأن يكرّر التاريخ نفسه؟!

-3-

ما سبق هو صور قليلة من كثير يمكن رصده والبحث فيه، لكنّ هذا كله وغيره لا يعني أنّ المقاومة تشكّل- بالضرورة- عاملًا دائمًا وأساسيًّا في تمزيق المجتمع، لكنّها لعبت، وما تزال تلعب، دورًا في تكريس الخلافات القائمة أصلًا، خلافات أو حتى اختلافات ليست قليلة، حتّى لنكاد نجزم بأنّنا لسنا حيال مجتمعات كاملة الأهليّة كمجتمعات. أقول هذا ونحن حيال مجرد حركة مقاومة موجّهة عسكريًّا ضد الكيان الصهيوني فقط، وشعاراتها تؤكد ذلك "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية"، وليست ثورة مكتملة الأركان، الاجتماعية والثقافية والعسكرية وغيرها.

ضمن هذه الرؤية المحددة، وما تنطوي عليه من تفاصيل، نعود إلى الفارق الكبير والحاسم بين التنوّع والتعدّد من جهة، وبين الخلاف والتمزّق من جهة أخرى. ولا بدّ من التأكيد على أن الاستعمار الصهيوني لفلسطين، هو العامل الأبرز في تكريس الانقسامات بين القيادات والفصائل الفلسطينية، لكنّ لهذه الانقسامات جذورًا في المجتمع الفلسطينيّ، وهي انقسامات ذات جذور طبقيّة في الأساس، تغذّيها العوامل الدينيّة والثقافيّة، مثلما تزيد في عمقها العلاقات المختلفة مع الاحتلال، ورؤية الصراع، بين من يراه صراعًا دينيًّا، ومن يراه قوميًّا، وبين قلّة تراه صراعًا ضد الاستعمار والإمبريالية والكولونياليّة وما بعدها... وهذا ما يمنح "الجماعات" هويّتها التي تميّز مواقفها، وتصنع هذه المواقف أيضًا.  

لا أرى أن ثمّة مشكلة في تعدّد الهويّات حين تكون في الإطار الفلسطينيّ نفسه، لكنّنا بتنا، مع الوقت، حيال هويّات يمتزج فيها القوميّ بالدينيّ، بل الطائفي والمذهبيّ الضيّق، ما يهدّد بقدر من التمزّق حتى حدود المحو. فهل يجوز لنا التساؤل إذا ما كنا حيال هذه المخاوف المنظورة، في ظلّ التعرّض لهجمة استعماريّة عالميّة، رغم كلّ أشكال المقاومة الجارية؟ 

-4-

أخيرًا، يبدو أنني مضطرّ للقول إن الموقف النقديّ الذي أنطلق منه، ليس هو القول الفصل بطبيعة الحال، كما أنه بالتأكيد ليس عدائيّا تجاه أي أحد، حيث إن النقد ليس مطلوبًا فقط، بل هو ضروريّ في مثل حالنا الفلسطينيّة، وهو النقد الذي يجسّد واجبًا أخلاقيًّا أساسًا، قبل أن يكون سياسيًّا أو منحازًا لجهة ما... لأنّ "التزام الصمت، أو اتخاذ موقف اللامبالاة، أو الانصياع للسلطة الباغية، كلّها أمور تنمّ على انعدام الحسّ الأخلاقيّ" كما يكرر إدوارد سعيد في غير موضع من كتاباته.

نحن- الفلسطينيّين، والعرب أيضًا- في صراع شرس مع عدوّ ليس طبيعيًّا. عدوّ مريض مسكون بـ"فوبيا المحرقة"، لكنّه ينفذ محرقة أشدّ همجيّة، وهذا يعني أن هويّتنا تتشكّل ضمن هذا الصراع الصعب. فكيف يمكن أن تنجو هذه الهويّة ممّا سقطت فيه هوية ضحايا المحرقة النازيّة؟ هذا امتحان تحكمه جذرية الثورة ضد الاستعمار، وممارسات هذه الثورة، الثورة التي لمّا تتبلور حتى الآن، بعدُ، ولا بدّ أيضًا من إعادة النظر في الفارق بين المقاومة وبين الثورة!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.