}

نصوص من دفتر الأصدقاء

رشا عمران رشا عمران 19 ديسمبر 2023
يوميات نصوص من دفتر الأصدقاء
(الياس الزيات)

 

إلى أميرة أبو الحسن

........

كم كانت دمشق طفلتنا المدللة

هل تذكرين؟

ياما أجلسناها في أحضاننا

ياما دللناها، وأرضعناها من لحمنا  

فردنا شوارعها على أجسادنا، لبسنا باراتها معاطف شتوية وزيناها بالدمع آخر الليل أو بالغناء، طاردنا هواجسها اللصة واستعدنا نومها...

ياما شربنا قهوة في بؤبؤي عينيها، ثم قرأنا الخطوط السوداء على حوافها لنعرف ماذا سيحدث بعد حين. هل عرفنا؟

الآن أمد يدي وأراقب كيف ينبت الشجر مكان الأصابع، وأرانا معلقات بأغصان الشجر، أهز يدي فنتساقط على الأرض ونبدأ بالضحك، ثم تسقط الأشجار علينا فنموت من الضحك ونحن بالكاد نتنفس، أرفع رأسي وأنظر اليك فأراك جذعا ضخما نصفه في التراب ونصفه الآخر يختفي تحت الورق. أما أنا فقد ثقلت حتى صرت التراب ذاته، التراب الجاف ذاته، التراب المالح ذاته، التراب وهو يحاول أن يلملم بقايا دمشق التي هوت عن أحضاننا وتمزقت كالورق.

العالم، دفتري القديم، حياتي الهشة، هذا الحاضر الذي يشبه المرض، تدور الأرض وتدور، وأنا أدور معها ولا أتوقف، قلت: ربما أراك في دوراني البائس، لم أفعل طبعًا، لم أر غير اختفائك الثقيل وغير قصاصات من الورق المبقع بحليب ينز منه الخوف.

كانت دمشق تختفي أيضًا ويختفي بؤبؤاها ويختفي معها دفتري القديم الذي لطالما لونته أصابعك؛ بينما يدي كانت تستعيد أصابعها وتدور معي بقسوة، ثم بنفس القسوة كانت تشهر سبابتها وتصوبها نحو دفتري القديم كرصاصة قاتلة.

 

إلى شكران إمام

......

لا تكفي حياة واحدة كي نذرف كل دموعنا، لا يكفي الموت كي يتمكن منا النسيان، هكذا كنا نضع سنوات خيباتنا في حقائب مهترئة كما لو كنا نتجهز للرحيل، اللقاءات في بارات دمشق القديمة، الشرب حتى الهذيان في القبو الأنيق حيث تراقبنا لوحات فاتح كما لو أنها عيناه. نمائم صغيرة كنا نقشرها ونحن نبلع ملح جروحنا وخيباتنا.

ما من أحد يستحق أن يقبر عظامك يا حبيبتي، ألا ترين؟ ها أنت مضيت وحيدة إلى القبر، لم يرافقك أحد، مشيتِ إليه بشكل اعتيادي كما لو أنك تدخلين المطبخ كي تعدّي لنا مازة آخر الليل.

لا يكفي الموت كي يتمكن منا النسيان.

الورق سر الغياب، كان جسمي ملفوفًا بلفات ورق ممزقة. منذ ثلاثة عشر عامًا أقشرها عن جسمي ولا تنتهي، كأن لا لحم لي ولا عظم، كأن دمي زيت يشد الورق اليه فيتكثف.

لم تنفعني تمارين الغرام ولم تحمني من السقوط على وجهي كفأرة تقضم كتابًا مسمومًا ولا تموت. هل نفعت أحد منا؟

الورق لغز الغياب، غبنا كثيرًا، صار غيابنا فضيحة نداريها بالغياب، ماذا فعل بنا الرجال؟ هل انتهينا من تعدادهم؟ ماذا فعلت بنا الوحدة؟ هل اكتفت من لحم قلوبنا؟ كأن كل ما قلناه كان همسًا لم نفهم منه حرفًا واحدًا، احترقنا كمكتبة مشتعلة، كمرسم قضى عليه عود ثقاب، كأشجار تهب عليها نار غاضبة. مشينا في الشوارع كمتسولات، مشينا كملكات، مشينا متكئات على ملابسنا السوداء والغضب يعاشر أبصارنا، مشينا في عين الغضب، دعسنا على بؤبؤها، أكلنا حدقتها بتلذذ، جلسنا هناك ومددنا سيقاننا العارية.

ثلاثة عشر عامًا وأنا أقشر عن جسمي ورق الغضب دون جدوى، أحاول أن أغطي ساقي العاريتين، روحي العارية، لحم قلبي الذي نهشته طيور غريبة؛ كيف هي عظامك الآن يا حبيبتي؟ هل ما زلت تعانين من أوجاع القدم؟ كيف حال قلبك الجميل؟ هل عادت السكينة إليه؟ هل اكتفى الحزن من وجهك الطيب؟ مت مثلك يا صديقتي وربما رأيتك في تلك الثواني، لم تعرفيني حتمًا، كنت ملهية عني بالحركة الدائرية لأصابعك الطويلة وهي ترسم دمشق؛ قولي لي يا شكران هل يمكنك أن تري دمشق اليوم؟ شوارعك المفضلة فيها؟ هل ترينها ملونة؟ هل تصلك فضيحة غيابنا؟ لن نعود يا حبيبتي، لن ينتهي منا هذا الغياب، سترسمين أنت دوائر دمشق وسأفكر أنا بها كورقة ملطخة بألوان قاتمة في دفتري العتيق.  

 

إلى عاشور الطويبي

....

لم أعد أكترث كثيرًا بالشغف ولا بالحب ولا ببرزخ الذروة في ليلة مفاجئة

لا تعنيني الأحلام الكبيرة ولا أهتم بمثالية القيم.

لا تشغلني الثورات إن انتصرت أو هزمت طالما الأوطان أضيق من بنطال قديم يباع في سوق الملابس المستعملة.

لم أعد أكترث بكتابة نص عظيم فالخلود ليس سوى فكرة تثير السخرية، الموت هو الفكرة الوحيدة عن الخلود.

مثلك أنا

لم أعد أريد شيئًا مهمًا

أمشي في شارع مزدحم، أرى بائعات الخضار يفترشن البؤس أول الليل، والمدمنين يمدون أيديهم بوصفات طبية مزورة، وأسمع ضحكات مثيرة لصبايا يعاكسهن بائعو الأعلام الرخيصة، أنت تعرف أن تجارة الأعلام رابحة في وقت الحروب.

رائحة سمك بدأ بالتعفن تجذب إليها قطط الشارع الودودة.

هنا توجد حياة لا أعرفها، لا يهتم أصحابها بما يحدث على شاشات التلفزيون ولا بالكلمات المرصوفة في الكتب التي يبيعها بائع كتب مستعملة. هنا تباع كل الأشياء المستعملة.

هنا يوجد شغف بثمن زهيد يحلم أصحابه ببيع آخر ما لديهم من بضاعة الليل. الليل هنا مستعمل أيضًا، يقايضه السهارى بعلبة دواء محلي أو بحذاء بلاستيكي تنتجه معامل رخيصة في الصين.

هل يشهد نيرودا أن البشر هنا قد عاشوا؟

هل يروي ماركيز قصصهم العادية؟

أما عني فأريد أن أعبر هذا الشارع كل يوم لأرى أوهامي مبعثرة ومغبرة كقطع عتيقة لدى بائع أنتيك عجوز.

أريد أن أمشي هنا طويلًا كي أصل إلى بيتي متعبة أبدّل ثيابي ثم أنام وجلدي مغطى بالتراب...

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.