}

أنيس صايغ خير معلّم

محمود شريح 25 ديسمبر 2023
سير أنيس صايغ خير معلّم
أنيس صايغ (1931 ـ 2009)

أنيس صايغ، يوم كان مدير عام مركز الأبحاث المُلحق بمنظّمة التحرير الفلسطينية، وجّه إليّ رسالة يدعوني فيها إلى رؤيته، وكان ذلك في أبريل/ نيسان 1975. ذهبتُ إليه طائعًا من باب محبّتي لقصائد أخيه توفيق، وكان لقاء مع أنيس رحبًا وواعدًا في مكتبه في مبنى مركز الأبحاث في شارع كولومباني المتفرّع عن شارع السادات في رأس بيروت، لم تغب عن شفتيه بسمة. قال أُريدك محرّرًا هنا مع فريق تحرير "اليوميّات الفلسطينية"، وهو الكتاب الصادر سنويًا عن المركز، وفيه عرضٌ يوميّ بأحداث فلسطين وأهلها، وتباشر الدوام بدءًا من أول يونيو/ حزيران. ولمّا أعلمتُه أني أتخرّج في أميركية بيروت في نهاية يونيو/ حزيران، أجاب تذهب إلى الجامعة صباحًا، وتأتي إلى هنا ظهرًا، وتتخرّج عندي، فكان له القول الفصل.
كنتُ في مكتب واحد مع إنعام عبد الهادي ونعمت سخنيني، وغازي الخليلي، وناشي طه. وكان مكتبنا هذا مجاورًا لمكتب المشرف علينا عصام سخنيني، زوج نعمت، وكنا نناديه أبو "يعرب"، نسبة إلى اسم ابنه يعرب، وكان نائب مدير المركز إبراهيم العابد، فيما كان محمود درويش سكرتير تحرير دوريّة "شؤون فلسطينية" الصادرة عن المركز مُحاطًا بهالة من التقديس والاحترام.
كان دوامُنا في المركز من السابعة والنصف صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، وينطبقُ هذا على اثنين وسبعين باحثًا ومحرّرًا ومترجمًا وإداريًا هم أركان مركز الأبحاث، ويُستثنى منه محمود درويش. ولمّا احتجّ بعضُنا على هذا الخروج عن القاعدة، دعانا أنيس صايغ إلى اجتماع عام قال فيه بعد تقديم الحلوى والقهوة: أنا أخي توفيق شاعر، وللشاعر مزاجُه، ودرويش شاعر، يأتي إلى المركز متى يشاء، ويغادره متى يشاء، فأفحمنا أجمعين.
كان مكتب تحرير "اليوميّات الفلسطينية" في الطابق الأوّل من مبنى المركز، فيما احتلّ المركز خمسة طوابق أُخرى كان فيها صبري جريس، وصادق جلال العظم، وليلى القاضي، وهاني الهندي، وسلمى حدّاد، وخيريّة قاسمية، وهيثم الأيوبي، وسكنَ في الطابق السابع شخص اسمه أحمد سامح الخالدي مع عائلته، وكان أستاذ الكيمياء الحيوية في أميركية بيروت. وكانت ثلّةٌ من جيش التحرير الفلسطيني تحرسُ المركز عند مدخله، وكانتْ رواتب العاملين في المركز وافدة من ميزانية جيش التحرير نفسه. وفجأة اتّسعت رقعةُ الحرب الأهلية في بيروت والجبل، فغادرتُ المركز إلى أبو ظبي لأربع سنوات، وما إن عدتُ إلى بيروت لدراسة الفلسفة في أميركيّتها حتى كان لي أنيس صايغ بالمرصاد، فدعاني إلى كتابة مادة "توفيق صايغ" لـ"الموسوعة الفلسطينية"، فصدرَ القسم الأول منها في 1984 في 2500 صفحة من القطع الموسوعي، وطُبعت منها عشرة آلاف نسخة كان نصيب بيروت الأوفر إعدادًا وإصدارًا وطباعة وتوزيعًا. ثمّ هيّأ أنيس صايغ فريقًا يُشرف على إصدار "الموسوعة الفلسطينية" في قسمها الثاني، فعهدَ إليّ مع صقر أبو فخر، ونيرمين عبّاس، وزينب ساق الله، ومسعد حدّاد، ومحمود بركات، بمهمّة تحرير موادّ الموسوعة، فصدرت في ستة مجلّدات في 1989، عن مطابع Stampa في روما، مع فهرس عام، تناولتْ فلسطين جغرافيةً وتاريخًا وحضارةً وأدبًا وقضيةً في خمسة وسبعين دراسة أعدّها أربعة وستّون باحثًا.




كان أنيس صايغ أوّل الواصلين صباحًا إلى إدارة الموسوعة، ثم سكرتيرته ديانا أندراوس، ومساعده شقيقها عادل أندراوس. كان المحرّرون يداومون يوميًا إلى جانب إحسان عبّاس، ونقولا زيادة، وقسطنطين خمّار، فيما كان جبرائيل جبّور يصحّح الپروڤات في مسكنه، إضافة إلى تشكيله آنذاك عبارة الكتاب المقدّس، ولما عجبتُ من جهده هذا وقد اقترب من التسعين، همسَ: أنا آخر من يشكّله.
كانت پروڤات الموسوعة تمرّ على ستة مصحّحين قبل وصولها إلى مكتب أنيس صايغ للنظر فيها ثم ذهابها إلى سكن جبرائيل جبّور. وكان على طاولة أنيس جرسٌ صغير يقرعه في إشارة منه للمحرّرين أن النذير شؤم ودعوة إلى اجتماع طارىء في مكتبه. دخلتُ مع صقر، ونيرمين، وزينب، ومحمود، ومسعد، وبدا أنيس متجهّمًا. حملَ صفحة من الموسوعة إلى أعلى بيدٍ مرتجفة، وقال هذه قرأها جميعكم، وما هذه الأخطاء فيها، وكنا نراهن أن نظّارته السميكة قد تُسقطُ عيوبَنا، لكننا انتبهْنا إلى أنه إضافة إلى نظّارته السميكة يطبق على الصفحة بمكبّر يفضحُنا، فاستعذْنا بالله، وهممْنا بالخروج من مكتبه على عجل خجلًا، لكنه بادرَنا: أوصيتُ على صدر كنافة نابلسية لكم عسى تصحّح رؤيتكم، وابتسمَ كعادته.
لمّا ساءت أحوال بيروت منتصف الثمانينيات، وحُوصرت مخيّماتها، كان يقلّني معه صباحًا إلى مكتب الموسوعة في سيارة يقودها سائق عنده، وعلى زجاجها الأمامي ملصق يشير إلى أنها ملك طبيب، وهكذا لم يعترضنا حاجز، ولم يستوقفنا مسلّحون.
ذات مساء، اتصل بي هاتفيًا، وطلب مني الذهاب إلى سكن فؤاد رفقه، واصطحابه إلى منزله ليلًا، وكان لقاء أعلمه فيه أنه وبطلب من الحزب السوري القومي عهد إليه مطلع الخمسينيات بإدخال فؤاد إلى الحزب بعد التأكّد من صلاحيته وسلامة أخلاقه. بعد أشهر من رصد حركات فؤاد، رفع أنيس تقريرًا إلى رئاسة الحزب قال فيه إنه من الأنسب للحزب بقاء فؤاد خارجه، فهو روح رومانسي طليق، مرّة جالسًا على فرع شجرة وبيده كتاب، ومرّة أُخرى منبطحًا على العشب ينظم قصيدة. استمع فؤاد إلى رواية أنيس عنه وكلّه آذان صاغية، وكان آخر لقاء بينهما، إذ أسلما الروح إثر هذا اللقاء بعد عمر من العطاء الفكري، فكأنّ حدس أنيس صوّبه.
كان أنيس خفيف الظلّ، مرحًا، رقيقًا، شفوقًا، رفيقًا، سخيًّا، معطاء، لطيف الحجم، دائمًا أنيقًا في بذلة وربطة عنق منسجمتيْن، وفيًّا لصحبه، وشديد الولع بأخوته يوسف، وفؤاد، وفايز، وتوفيق، ومنير، وماري. فلا عجب أن سمّاه أبوه القسّ عبد الله صايغ "أنّوس". حلّ أنيس مكانَ أخيه فايز في إدارة مركز الأبحاث بتفويض من أحمد الشقيري، فوفدَ أستاذًا من كامبردج، فيما غادرَ فايز أستاذًا إلى جامعة نيويورك.
في حفل تكريمه من قبل الحزب السوري الاجتماعي، طالب رئاسة الحزب بردّ الاعتبار إلى أخيه فايز، ووضع خلافه مع أنطون سعادة في إطاره الصحيح. كان جريئًا في دفاعه عن أخيه، ومنصفًا في ولائه لأنطون سعادة.
كنت أراقبه عن كثب لأتعلّم منه، وكان خيرَ معلّم. كان لون حبره المفضّل هو الأخضر، لكنه متى صحّح پروڤات المطبعة، فبالقلم الرصاص، وفي رأسه ممحاة، فكنت أراه يكتب ويمحو وينفخ على الپروڤة أمامه ليطير عنها ما علق عليها من آثار الرصاص والممحاة، وكثيرًا ما يلجأ إلى مبراة يروّس بها رصاصة قلمه.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.