}

كنز القناعة...

محمود شريح 19 يناير 2024
سير كنز القناعة...
(سليمان منصور)
قالت لي والدتي، وأنا صبيّ صغيرٌ عاقٌّ لجوجٌ، "القناعة كنزٌ لا يُفنى"، فصبوتُ إلى الكنز، ولم أحفلْ بالقناعة، وكنتُ آنذاك نَهمًا جَشعًا غيرَ آبهٍ بمأساة أهلي إثر نكبتهم العظمى، فما أن كانتْ النكسةُ الكُبرى حتى أدركتُ مدى غِنى القناعة، فملتُ عن كنزِ الوعدِ إلى قناعةِ الرّضى، فرضيتُ بقسمتي وبما لديّ، وكان لديّ كتبٌ ليس إلّا، فكان هذا كنزي حتى الساعة لا ينفدُ، وهي كتبٌ منوّعةُ المشاربِ تزيّن رفّي وتلوّن يومي، ويومي من دونها أجدب، وليلي بعيدًا عنها يبابٌ.
كنتُ إثرَ النزوحِ الكبيرِ أحبو في حديقة لوالديّ لمنزل من حجرٍ، وسمعتُهما يقولان إنّهما أشبه بما مَلَكا في الوطن، فكنتُ دائمًا أتخيّل نفسي هناك، وكان عندنا قنديل نستضيء به ويضيء علينا، فكنتُ أرى على حيطاننا خيالاتٍ وظلالًا تضيء دربي، وأنا أفكُّ الحرفَ في كتاب القراءة الأُولى، فحفظتُ منه ما أنارَ أيّامي الظلماءَ اللاحقة، وهذا ما حَماني من كمداتِ الدّهرِ ومنغّصاته، وكانت كثيرة، وأدركتُ في ما بعد أنّ الأدبَ كان مسؤولًا، وأن بيتَ الشِّعر حكمةٌ وصفاءٌ، وأنّ نصَّ النثرِ رونقٌ ولذّةٌ. وكان زادي الأوّل "الأجنحة المتكسِّرة" لجبران، فحلّقتُ بها إلى آفاق الرومانسيّة، وكان زادي الثاني "المساء" لخليل مطران، فنظرتُ في معنى وجودي، ما قادَني إلى "العَبرات" للمنفلوطي، و"النظرات"، ثم انطلقتُ إلى غيرِ هؤلاء فأبحرتُ لا ساحلَ أمامي، وغرفتُ من آداب العرب ما تيسّر لي، فوجّهني إلى فلاسفة الألمان، فقنعتُ بمسراهم، واقتنعتُ أنّ القناعة كَنزٌ لا يَفنى، وأقفلتُ على زهوي.
وهي القناعة نفسها التي أنقذتْني حتى الساعة من شططِ مغالاة وفخفخة نرجسيّة.
ثمّ أنّي وجدتُ ضالّتي في عُزلتي عن أهلي وصحبي، فكنت أصطحب كتابًا إلى بريّة نائية عند أطراف بيروت، فأجلس في ظلّ شجرة ورفاء أتّقي هجيرةً لافحةً، وأحتمي من صبابة نفسي الحارقة، وكانت ظمأى لسكينة وطمأنينة أتعبَني سبرُ غورِهما، فأصغيتُ لحفيفِ ورقِ الشجرة، وآنستُ بموسيقاه، فطابتْ نفسي إلى حين، معزّيًا نفسي بأنّ لكلّ غرضٍ زمانٌ، وأنّ في عجلتي ندامتي، فسرتُ هَوْنًا في أمر تقرير مصيري، فاصطبرتُ على نفسي حين شاعَ أنّ نورًا ينتظرني في آخر نفقِ ظلمتي، فعلّلت نفسي بالآمال أرقبُها، ولم يكنْ لي عليها سلطان، مُدركًا أنّ الحدثَ يفاجىءُ فلا يمهلُ، ولكن لم يؤذِني إلّا الغرورُ والاعتدادُ بنفسي، وتقتُ إلى هجرهما، ولم يكنْ ذلك هيّنًا عليّ في بادىء الأمر، لكني طمعتُ في ذلك، وطمحتُ إليه، فشقيتُ إلى أن كان بعض رضى في راحة يدي، فتصالحتُ مع نفسي، وتسرّب إليّ شعاعُ فرحٍ فأنساني بعض كرْبي، وإنْ اضطربَ عقلي إلى حين، إذ كنت أنزعُ إلى الشكّ فلا أستقرُّ على يقين متى فكّرت في معنى هذا الوجود السائر بي إلى الرَّدى، شئتُ أم أبيتُ، فخشيتُ الرّقادَ فإذا وسادتي جمرةٌ كيفما تقلّبَ ذهني مُشتعلًا عليها.
وعدتُ إلى نصيحةِ والدتي إثرَ نزوحها عن جليلها، وكانتْ تصفُ لي ما مَلكتْ من جلِّ تينٍ وزيتونٍ، وكان إفطارُها كلّ صباح تينًا وزيتونًا، ربّما لتذكّرها مسقطِها، وتردّدُ على مسمعي "القناعةُ كنزٌ لا يَفنى"، فاقتنعتُ من جديد بمقولتها الضارِبة بفلسفةِ كانط، من دون علمها بهما، فلّما اهتديتُ إلى كانط إثر وفاتها أدركتُ أيضًا ما قاله شاعرٌ قديمٌ:
إذا سلِمَتْ هامُ الرجالِ من الرّدى
فما المالُ إلّا مثلَ قصّ الأظافرِ.
ثم وجدتُ خلاصي من يأسي في العقيدة، فاعتنقتُها غيرَ مبالٍ بما تجرّه عليّ من عواقب، كان أدناها غربةٌ بين نظريّةٍ وممارسةٍ، وكان أقصاها عذابٌ روحيٌ من تطوافي بين بارقة أمل وانحسار يأس، فأدركتُ متأخرًا أن الربيعَ لا يحلُّ بطيرانِ عصفورٍ دوريّ واحدٍ أحد في الأُفق، وأنّ يدًا واحدةً لا تصفّق بمفردِها، وعرفتُ عندذاك إن الكلّ باطلٌ، باطلُ الأباطيل، فأيّ ثمرة يجنيها المرء من العوسجة المُلتهبة، وهل ينضجُ التّينُ في غير موسم نضجه، وهل تستوي العقيدة في جهالة. هكذا حدّثتني نفسي في دياميس تيهي، فما صمدتُ، بل هويتُ.
وحين صحوتُ من سكرةِ العقيدة، وأفقتُ من خداعِ الوهمِ، ولاحَ لي بعين البصيرة أنّ بلادي ذهبت أدراج الرياح، وأن لا مغيثَ لي من مشقّة النزوح الأبدي، سلّمتُ أمري للمقادير، ورضيتُ بقسمتي، والأرزاق مقسومةٌ، فقنعتُ بكنز القناعة، ولسان حالي أبيات أبي الطيّب:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ
أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهل
يعلمنَ ذاكَ وما علمتِ وإنّما
أولاكما يبكي عليه العاقلُ
وأنا الذي اجتلبَ المنيّةَ طرفُه
فمن المُطالَبُ والقتيلُ القاتلُ.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.