}

ماذا يفعل أهل الحفرة؟ يحفرون

منذر مصري 4 ديسمبر 2023
يوميات ماذا يفعل أهل الحفرة؟ يحفرون
"ثم ماذا؟" (لؤي كيالي/ 1967)

4/ 10/ 1973:
ـ فجأة، الساعة الثانية عشرة ظهرًا، ونحن منهمكين في تدريباتنا اليومية، تم استدعاؤنا إلى قاعة المطالعة، ليبلغونا أنّ الدورة التدريبية لطلاب ضباط الإشارة رقم (...) انتهت، وذلك قبل موعدها المحدد بثلاثة أشهر، وأنّه يجب علينا أن نلتحق فورًا، وإن من دون أن نخبر أهالينا، بالقطعات العسكرية التي جرى فرزنا إليها! وكان نصيبي، لواء المشاة رقم (...) المتوضّع في نهاية الشريط الحدودي للقطاع الجنوبي، النقطة التي تتلاقى فيها الحدود السورية والأردنية والكيان الصهيوني، أي الوجهة الأبعد بين جميع الوجهات التي فرز إليها رفاقي، على الإطلاق. ما أوحى لضابط التوجيه السياسي أن يقول لي ساخرًا: "لا بد أن لك واسطة كبيرة يا ملازم منذر حتى يفرزوك إلى ذلك اللواء!"، جاملًا بسخريته رتبتي الجديدة. قطع علينا هرجنا ومرجنا دخول قائد مدرسة الإشارة بهيئته الصارمة، وإلقاؤه خطبة مختصرة، بالكاد فهمنا منها شيئًا، ختمها: "آمل أن يرى وطننا النصر على وجوهكم". عندها استدرت وأخذت نظرة بانورامية لوجوه رفاقي، فرأيتها كلها صفراء شاحبة. فقد تأكّد للجميع أنّ ذلك يعني أنّنا ذاهبون للحرب.

6/ 10/ 1973:
ـ "الأفاعي لا تخيف، ولكن انتبه من العقارب"، قال لي أمين مستودع كتيبة الإشارة أبو أحمد، وهو يشير إلى الحفرة الفردية التي خصصت لي على الخط الأول للجبهة.
ـ يستهل المساعد أبو أحمد أي قصة يرويها بعبارة: "أنا واحد من الناس". ما يجعلني أصدق أي شيء يقوله.
ـ ما إن هبطت إلى قاع حفرتي، وفوق رأسي، على ارتفاع منخفض، تحوم طائرات لا نعرف الصديقة من العدوّة، وأصوات المدافع تكاد تصمّ أذني، حتى سمعت نفسي أصيح: "إنّها تصلح صلاحية تامة كقبر".

8/ 10/ 1973:
ـ وأنا قابع في حفرتي الفردية، هنالك فتحة صغيرة يخرج ويدخل منها النمل، بعضها، لا أدري لأي غاية، يصعد عليّ ويتسلّقني حتى يصل إلى رقبتي، ها أنذا ألتقط واحدة كبيرة منها بطرفي سبابتي وإبهامي وأحملها إلى حافة الحفرة، وأقول لها بصوت مسموع: "الله معك".
ـ مضى أكثر من ثلاث دقائق وأنا أراقب نملة تشق طريقها بين شعيرات ساعدي:
[قولي لي إلى أينَ أنتِ ذاهبة
قولي لي ماذا تبغين
أيَّتها الطفلةُ الصغيرة].

28/ 11/ 1973:
وصلني للتو خبر استشهاد أحد عناصر فصيلة إشارة المرصد عند قيامه بإصلاح خط الهاتف الأرضي بالقرب من ساقية صغيرة على مبعدة أمتار من الشريط الحدودي الفاصل بيننا وبين العدو! العمل الذي كان يقوم به كل مرة من دون أي إجراء احترازي، وأحيانًا من دون أن يحمل أي سلاح. أذكر، أول استلامي قيادة الفصيلة رفضه الحازم لطلبي منه صب الماء من الإبريق البلاستيكي لأغسل يدي، ليس لأنّ بين جنود الفصيلة من هو أقل منه رتبة، بل لأنّه الأكبر سنًّا، فقد احتفظ به في الخدمة الاحتياطية للسنة الرابعة على التوالي!
[خضَّبَ دمُ الحرية
القُبَّرةِ الذبيحة
مياهَ الساقية
وهكذا ابتدأت من ضفافِها
وعلى صدورِ مَن شربوا منها
رحلاتُ شقائقِ النُعمانِ الخاطفة].

7/ 2/ 2019:
بعد ذلك بما يقارب نصف القرن، تغير العالم، تغير حتى بات وكأنّه عالم آخر. لدرجة ما عاد يصح قول إن العالم انقلب رأسًا على عقب، ذلك أنّه ما عاد له، بالنسبة لأغلب الناس، رأس ولا عقب. لكن ذلك لم يمنع أنّي عند الساعة الخامسة عصر الخميس، التاريخ أعلاه، بدأت أمسيتي الشعرية (قصائد من الحفرة) ضمن نشاطات معرض القاهرة الدولي للكتاب، بعدة جمل مقتضبة لمعنى الحفرة التي كتبت قصائدي وأنا أرتع فيها، أنقلها هنا مع بعض الشرح:
1 ـ يحصل عادة أن تخطر على بالي عبارة أفرح بها، ظانًّا أنّي أول من اكتشفها، وأول من قالها. ولكن سرعان ما يتبين العكس. فمنذ أربع سنوات خلت، عندما جافاني النوم في فندق 35 غرفة في بيروت، لم أجد ما أفعله في الساعة الواحدة والنصف ليلًا أفضل من أن أتمشى في شارع الحمرا المغلق والخالي من كل أثر للحياة ما عدا القطط! مستعيدًا ذكريات مشاوير ليلية لا تنسى مع عباس بيضون، ويوسف بزي، ويحيى جابر، وإسكندر حبش، والسوريين المقيمين في بيروت، تلك الأيام: عهد فاضل، والراحل زهير غانم، ونحن نتنقل من بار إلى بار، ومن نادي ليلي إلى نادٍ ليلي، لنلقي السلام على بول شاوول، وحسن عبد الله، وبلال خبيز، وفادي أبو خليل! والجميع شعراء! فإذ بصوت أنثوي ممطوط يصل إلى مسامعي صادرًا عن شبح لم أستطع، بسبب العتمة، تمييز ملامحه: "إنتا من وين؟" السؤال المثالي للتحرش بمتسكع ليلي في شارع الحمرا في تلك الساعة من الليل. عندها خطوت، لا بل قفزت مبتعدًا عن المرأة التي ظهرت من العتمة وأنا أجيبها: "من بلاد اللـه الضيقة". العبارة التي فاجأتني أنا بالذات، لأنّها خرجت مني بلا تفكير، والتي عندما استعدتها، ورحت أقلبها في رأسي، لاحقًا، وجدتها صالحة كعنوان لمجموعتي الشعرية الجديدة التي أرجأت إصدارها سنينًا. إلى أن تكشف لي، وبعد مدة زمنية قصيرة، أنّه قد سبقني إليها آخرون ليسوا بقلّة، وأن أحدهم اتخذها، حرفيًا، عنوانًا لأحد كتبه!





2 ـ قلت: "أفرح بها". ولكن في الحقيقة لا يمكن لي أن أكون فرحًا بتسمية سورية "حفرة" على الإطلاق. ألست القائل، مع الاعتذار عن البراءة الزائدة للعبارة: "سورية بلدي كما خالدية أمي". وألست أيضًا من غضب وأزبد حين كتب أحدهم: "سورية، باتت حفرة خراء"! فجأرت كثور مذكرًا إيّاه بأنّها البلد الذي ما يزال يحيا فيه لليوم 16 مليون رجل وامرأة وطفل من الشعب السوري، الذي بالصدفة المحضة هو شعبه أيضًا، أي أهله وأخوته. والذين لم يرغبوا، أو رغبوا، وربما استماتوا، ولكن لم يتح لهم السفر، من أحبته وأصدقائه ومعارفه! لكني لم أعدم صديقًا تطوع لأن يجيبني عوضًا عنه: "وما الفرق بين أن تقول حفرة من دون أن تحدّد حفرة ماذا، ويقول هو حفرة خراء؟ فكلاكما تقولان إنّها حفرة"!
3 ـ صحيح أنّ أناسًا جميلين جدًا غادروا الحفرة، أخوتنا، أبناءنا، وأعز أعز أصدقائنا، نصلي أن يوفقهم اللـه ويسعدهم، وأن يزورونا حين تسمح لهم ظروفهم، أو حين ينجلي عنّا وعنهم ذلك اللحاف الأسود من الدخان الخانق الذي يكاد يخنق السوريين أينما كانوا. ولكن الصحيح أنّه في الوقت نفسه، في الحفرة السعيدة نفسها، ما يزال يعيش ويكافح من أجل البقاء أحياء، ولو بالحد الأدنى من شروط الحياة، أناس في منتهى الجمال، هم أيضًا أخوتنا وأبناؤنا وأعز أعز أصدقائنا. الفرق هنا أنّ مصيرنا، نحن القاطنين، القانطين في الحفرة، ما زال معلقًا بما يجري، وما يمكن أن يجري فيها، ما زال مصيرنا معلقًا بمصيرها، أما هم، فعلى نحو أو آخر خارجها، على الضفة الأخرى، بعيدون عنها مسافة أمان ما، مشغولون بمصائرهم، حيث حط بهم الرحال. وأعد هذا جوابًا على انتقاد أحد الأصدقاء بأنّي مرة أقول: "غادر سورية أجمل ناسها"، ومرة أقول: "بقي في سورية أجمل ناسها". لأنّه، كان وما يزال صحيحًا، بالنسبة لي، أنّ هناك سوريين جميلين أينما وجدوا.
4 ـ شرط العيش في الحفرة أن لا تمدّ رأسك خارجها! وهذا خلافًا للنصيحة التي كثيرًا ما تسمعها، بأنّه من الجيد أن تغادر من حين لآخر وتستنشق هواء نظيفًا، كما يقولون. والحقيقة، أنّه ربما أنا من القلة، وربما القلة النادرة، الذين يتاح لهم السفر خارجًا من حين لآخر، وأنه حدث وسافرت والتقيت بأحبة وأصدقاء وقضيت أوقاتًا جميلة خلال سفري إلى هذا البلد أو ذاك، ولكن المشكلة، أنّك لا تستطيع إلّا أن تقارن، وإلّا أن تتحسر، وإلّا أن تشعر بالقهر، على ما آل إليه حال بلدك وحال أهلك في بلدك، ممّا ينغّص عليك كل لحظة فرح قد تمر فيها، كل شعور بسعادة لأنّك قرب من تحب. وخاصة أنّك لا تستطيع أن تخرج من رأسك فكرة أنك ستعود بعد أيام، أو حتى بعد أشهر، لا محالة! ثم عندما تعود إلى الحفرة، وتجد نفسك تحت وطأة ذلك الشعور بالكدر والكآبة و... عدم الأمان، لأسبوع، أو لأسبوعين، أو أكثر.
5 ـ هناك مثل صيني: "ما إن تقع في حفرة حتى تقع فوقك الحجارة". يشبه كثيرًا، المثل الشعبي الذي يردده السوريون عندما يصفون حال بلدهم: "عندما تقع البقرة تكثر السكاكين"، وكأنّهم يتلذذون بلفظة (سكاكين).
6 ـ "يحفرون" هكذا... أجبت على سؤال صديقي الروائي وحيد طويلة في تلك الأمسية الشعرية في معرض الكتاب في القاهرة: "وماذا يفعل أهل الحفرة يا منذريوس؟". وذلك لأنّهم بعد أن فقدوا كل قدرة أن يتسلقوا جدران الحفرة، أو أن يطيروا فوقها، وكل أمل من أن يأتيهم الخلاص من الأعلى، سلم من الحبال المعقودة يتدلى لهم من السماء! لم يجدوا أمامهم سوى القاع، قعر الحفرة الموحل، يحفرون به. وهم فعلًا ينجحون، وهذا ما يشهد لهم به القريب والبعيد، في جعل قاع الحفرة أعمق فأعمق فأعمق، ما يعيد لهم الأمل أن تظهر لهم، عبورًا بكل ما في جوف العالم من فجائع ونكبات وكوارث، ثغرة ما، فتحة صغيرة، ينبثق منها بصيص نور!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.