}

يا من قال: "ما مات من في الزمان أحبّ"

منذر مصري 23 أبريل 2024


[في ذكرى نزار قباني، 21/3/1923- 30/4/1998]

 

1- شهادة مجروحة بالشعر

وكأنّك تحتاج لشهادات! وكأنك تحتاج إطراء فلان وفلان لك ولشعرك، أو تحليل دم لدمشقيتك وسوريتك وعروبتك! أو... حتى إنسانيتك! كأنّك تحتاج أن أورد الآن ما كتبه عنك، كاعتراف، كتسليم بعد عنت، كإلقاء سلاح عند قدمي منتصر، كوسام شرف، أحد الحداثيين الحقيقيين في الثقافة العربية جبرا إبراهيم جبرا: "أعظم شاعر حبّ حيّ في عالمنا اليوم". يا من أحنى (الحاج أنسي) رأسه ليخفي دمعته، وهو يصغي إليك ذاهلًا، وكأنه يستمع إلى كرازة رئيس الملائكة، في آخر أمسية شعرية أقمتها في حضن ستّ الدنيا بيروت، أنت الذي بلغ به عته الحب، أن يعامل مدنه كنساء عاشقات. ولكن كيف للحاج الهش الرقيق إخفاء لمعان عينيه، وأنت تلقنه تلك العظة بمجرد نظره إليك: "الجمال، ما إن ينام، حتى يستيقظ".

وكأنّك تحتاج لملفات، لكتب، تستعيد ذكراك في مناسبة عابرة، يحتشد فيها مريدون وغاوون، تعرفهم ولا تعرفهم، ليعاضدوك ويشدّوا من أزرك! وكأنّك تحتاج، كسواك، إلى من يقف في صفك، ويحمل رايتك، ويدافع عنك! وكأنّك تحتاج تذكيرًا أو مديحًا أو تكريمًا أو هتافًا؟

أو ربما تحتاج فجاجة، جحودًا؟ أولئك الذين يعرفون من ثمارهم، كره وغيرة وحسد، أصحاب الشعارات واليافطات، المعرضون أكتافهم بكلائش الأحزاب، آكلو الهواء، كما يصفهم جبرا، من يعطون لأنفسهم الحق باسم تقاليد وأخلاق ومبادئ، ووطنية وقومية وإنسانية، بأن يرفعوا عليك دعاوى، ويتهموك بأباطيل، ويطلقوا عليك أحكامًا، بذكورية ونرجسية وشعبوية وانتهازية، وكأنهم هم أخلاقيون ومبدئيون! وأنثويون وغيريون! ووطنيون وعروبيون! أو كأنّك شاعر من أولئك الذين ليسوا شعراء، ولا يعلمون ما الشعر؟ وما القلب؟ وما العيون؟ وما الشفاه؟ إلّا بكونهم يرددونها ككلمات، ويدّعونها كمزايا، وينصبون أنفسهم بأنفسهم قضاة!

أو ربما يدفعنا حنيننا إليك، غيابك الشخصي والإنساني، شوقنا إلى حضورك الجميل البهي، افتقادنا لما كنت تثيره من عواصف وتضرمه من حرائق في حياتنا، إلى محاولة أخرى يائسة، لاستعادتك حاضرًا حيًّا بيننا، أنت الذي قدمت أمثولة الشاعر الحقة، الأشد حضورًا، والأشد حياة من حياتنا جميعًا.

من هو الشاعر الذي تُسرق حقوق كتبه، وتُطبع وتُصوّر في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد والخرطوم وعمان... بعشرات الآلاف؟ من تصطف على الرفوف مجموعاته الشعرية بجانب المجلات الفنية الرخيصة، وكتب الأفلاك، والروايات البوليسية، وتباع بأبخس الأسعار لتكون بين أيدي وفي أحضان الجميع، في محطات القطارات، ومواقف باصات النقل العامة، ومطاعم الطرق البعيدة؟ من تنحني وتلتقط دواوينه وقد أبدلت أغلفتها الأصلية بصور غانيات بأرديتهن الشفافة، فوق أرصفة الشوارع، وعلى بسطات أسواق الجمعة؟

أشعار من استغلها الناس واستخدموها كشبكات للقلوب الطائرة، وفخاخًا للحب، وشراكًا للبراءة والطهر والعفّة؟ أشعار من أوقعت ملايين النساء في حب ملايين الرجال، وملايين الرجال في حب ملايين النساء؟ أشعار من ما إن يقرأها الناس، كل الناس، حتى يكتشفوا، لأوّل مرة، أو ربما كانوا قد سمعوا عن هذا من قبل، ولكنهم الآن احتاجوا أن يسمعوها منه بالذات، بصوته، حتى يصدقوا ويؤمنوا، بأنهم لا يستطيعون العيش دون حب! وأنه لا معنى ولا طعم لحياة دون حب، بل لا حياة، لا حياة أصلًا دون حب.

يا من أخطأت وأصبت وكابرت وبكيت وندمت. وكأنك بذلك تؤكد إنسانيتك، تؤكد كونك إنسانًا ذا نزعات وذا أوهام وذا عواطف، تؤكد أنك واحد منا. هرعت وقدمت قلبك على صينية من الفضة الدمشقية، إلى من في ظنك أنه يستحقه ويعرف قدره! فقام وداس عليه بحذائه الأسود اللماع وهرسه! على ماذا نعاقبك؟ على ماذا نسامحك؟ يا من قلت لا! لمن لا يقول الآخرون لهم سوى نعم نعم نعم! لا بل، رفعت رأسك، وصرخت لا! لمن يخر لهم الناس ويسجدون صاغرين.

يا من عاش ومات لا يعرف ولا يعترف بأن للشعر قانونًا. وأنه يمكن أن يكون له حدّ وحدود. يا من قال وكتب ومحى وقرأ وآمن، إن الشاعر رسول ونبي وشيطان وملاك وفارس وعاشق وخائن ورجل وامرأة وطفل. وإن الشعر هو اللـه متجليًّا في كلمات وأحرف، لكنه يعلم ويعلّم: "خيارات الشعر محدودة، إما أن يكون مع الناس، أو يكون ضدهم".

يا من قلبك ياسمينة شامية، يا من سرت إلى الله برفقة بكاء المآذن، يا من سار الناس بركب جنازتك، ليوصلوك إلى الجنة. يا من، ليمنحك موعدًا، بكى الغروب على شرفتك! يا من قلت: "ما مات من في الزمان أحبّ"، فمنحتنا الخلود جميعًا.

بين كل مجموعات نزار قباني الشعرية، مجموعته الحادية عشرة (100 رسالة حب) 1970، هي الأثيرة عندي



2- 100 رسالة حب، 100 قصيدة نثرية

أحسب، أن شهادتي المضطرمة هذه، المفعمة بمشاعر وأفكار، أنا نفسي لم أكن أتوقعها أن تخرج مني، التي دلقتها بسخاء غير مسبوق، وبلا أدنى تحسب أو تردد، لا تستمد أي قيمة تذكر، سوى من أنها تجيء من شاهد ليس من أهله، ولا حتى من حفظة بيت واحد من أشعاره! هذا إذا لم أكن العكس تمامًا. أذكر كيف كنت أرى دواوين نزار مدسوسة بين كتب ودفاتر زملائي المدرسية في "ثانوية جول جمال"، فلا أعير ذلك أي اهتمام. ثم أني سبق وقدمت اعترافي ببنوتي الشعرية لشعراء هم أبعد ما يكون عن نزار قباني، قلبًا وقالبًا، شكلًا ومعنى! كتوفيق الصايغ وشوقي أبي شقرا وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، وآخرين كنقولا قربان وإبراهيم سلامة وعصام محفوظ شبه مجهولين والمجهولين عند عموم جمهور الشعر العربي. ولكن إذا كان قد فاتني متابعة إصدارات مجموعاته الواحدة تلو الأخرى، التي كان إصدار كل منها يصنع حدثًا إخباريًا عامًا! كما كان يفعل الجميع، فقد كنت حريصًا كفاية على اقتناء أول مجلد لأعماله الشعرية الصادرة حتى نهاية السبعينيات! الذي علامته عندي صورة صغيرة لأمي وضعتها على تكعيبته، تحت الغلاف البلاستيكي الذي كنت أغلف به أكثر كتبي! الأمر الذي، أصدق أنه، كأيقونة شفاعة، أنقذته من الحريق الذي حدث في مرسمي، في 12/2/2019. غير أني، ومتابعة لهذا الاستدراكات، أجدني مضطرًا لأن أعترف أيضًا أنه بين كل مجموعات نزار قباني الشعرية، مجموعته الحادية عشرة (100 رسالة حب) 1970، هي الأثيرة عندي! وذلك لسبب مفهوم وواضح... وأيضًا مباشر، وأظنه لهذا يتضمن مقدارًا ما من الفساد، أني أعتبر رسائله هذه قصائد نثرية! أي أني أشد طرف اللحاف صوبي وأغطي به خاصرتي المكشوفة! وها أنذا أقوم باستغلال الفرصة، المقدمة التي وجد كتابتها ضرورية، إن على صعيد المعنى وإن على صعيد الأسلوب، لتبرير نشره هذه الرسائل، التي يمكن لي اعتبارها، شديدة الندرة، رغم مثولها أمامنا كل هذا الزمن، لمعرفة، حقيقة، رأي نزار قباني، كشاعر، يقول عن نفسه، بما يشبه أيضًا الاعتراف: "بالرغم من الحرية التي كنت أمارسها كشاعر، كنت أحسّ في كثير من الأحيان بأنني مقيد بأصول الشعر، وقواعده، وإطاراته العامة". حول ما اتفق الكثيرون على تسميته (قصيدة النثر)، ما عدا نزار قباني وبقايا شعراء كلاسيكيين وأشباه كلاسيكيين أمثاله. بعد ذلك يكمل نزار كلامه فيقول: "...هناك أشياء خلف ستائر النفس، تريد أن تعبّر عن ذاتها خارج شكليّات الشعر ومعادلاته الصارمة. وبتعبير آخر... كانت هناك منطقة في داخلي، تريد أن تنفصل عن سلطة الشعر، وتتجاوز الشعر!". وفي النهاية يقول، وكأنه حسم أمره: "إن بعض هذه الرسائل فيها شيء كثير من قماشة الشعر... وبعضها الآخر شعر حقيقي". إذًا، يعترف نزار قباني بأن خمسة أسطر متخففة من الإيقاع، ومتعففة عن القافية، يمكن أن تكون شعرًا حقيقيًا! فماذا نريد أكثر؟

أما بالنسبة لي، فلا أظن لهذه الرسائل الشعرية القدرة بأن تصل إلى سوية قصائد أنسي الحاج على سبيل الحصر، باعتبار أنسي، بدوره، شاعر حب! لذا راق لي استدراك نزار الدقيق وقوله: "بعضها الآخر شعر حقيقي"، بعضها لا كلها؟ وهي إن كانت تذكرني بشاعر حب آخر أعرفه، فسيكون (محمد سيدة 1941-2003)، وقد سبق وذكرت في كتابي عنه (محمد سيدة– هامش الهامش) 2019، أن نزار قباني هو الشاعر الوحيد الذي تأثر به محمد. وذلك لسبب وحيد أيضًا، هو أنه لم يكن يعرف سواه! لم يكن يطيق، وليس لديه القدرة على قراءة شعر آخر سواه! مرة بحجة أنه لا يريد أن يتأثر بأحد! ومرة، دخلت عليه يومًا، فإذ بكومة كبيرة من المجموعات الشعرية، السورية والعربية والمترجمة، على أرض القبو. أغلبها ممزق الأوراق، وكأنه كان يحضرها للحرق! حجته الدامغة وقتها: "إذا لم يكن شعري أفضل منها، فلماذا أكتب؟".

ثم يأتي، ما لا أستطيع أن أتفق مع نزار حوله، مهما بلغت مهارة نزار في تزويق وتجميل أفكاره وجعلها شعرًا، وهو، ويا للمفاجأة الصادمة، نظرته للحبّ، ونظرته للمرأة العاشقة، ومن ثم نظرته للشعر! نعم لا أستطيع موافقته حين يقول: "إن الحبّ انفعال رائع، بغير ريب، ولكن الأروع منه هي هذه الحرائق التي يتركها على دفاترنا، وذلك الرماد الذي يبقى منه على أصابعنا، والمرأة هي الأخرى جميلة، ولكن الأجمل منها هو آثار أقدامها على أوراقنا بعد أن تذهب". لا يا معلم! أي حرائق وأي رماد! الحب ذاته أروع من كل ما يمكن له أن يخلفه على دفاترنا، حتى ولو كان غبار ذهب. والمرأة ذاتها، قدماها ذاتهما، أجمل من أي أثر تتركه على أوراقنا، حتى ولو كان لؤلؤًا ومرجانًا! فنحن، شعراء هذه الأيام، شعراء آخر زمن، لسنا على هذا القدر من الشاعرية التي تسمح لنا بمقايضة الأحاسيس الحية الفوارة، بالكلمات، ولا الحقيقي الملموس بالخيال! للأسف، نحن شعراء أحاسيس وغرائز!

نزار قباني لم يكن يطيق، وليس لديه القدرة على قراءة شعر آخر سوى شعر محمد سيدة


ولوضع كل ما ذكرنا، في سياقه الأمثل، ولأخذه، ممسكين به من يده، إلى حيث يجب أن يصل، أحسب الآن أنه من المناسب أن أقوم بانتقاء عدد من هذه القصائد، لن يزيد عن عشر من أصل مائة، أوردها متسلسلة وعلى أنها البرهان الكافي والوافي على ما ذكرت. بقدر ما أرجو أن يتضمن هذا الإجراء الاحتفاء اللائق بشاعريتها وجمالها وبراءتها... استمتعوا:

1-

خذوا جميع الكتب
التي قرأتها في طفولتي
خذوا جميع كراريسي المدرسيّة
خذوا الطباشير
والأقلام
والألواح السوداء
وعلّموني كلمةً جديدة
أعلّقها كالحلق
في أذن حبيبتي...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2-

نهار دخلتِ عليّ
في صبيحة يوم من أيام آذار
كقصيدة جميلة تمشي على قدميها
دخلت الشمس معك
ودخل الربيع معك
كان على مكتبي أوراق فأورقت
وكان أمامي فنجان قهوة
فشربني قبل أن أشربه
وكان على جداري لوحة زيتية
لخيول تركض
فتركتني الخيول حين رأتكِ
وركضت نحوك...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

3-

لأنني أحبكِ
يحدث شيء غير عاديّ في تقاليد السماء
يصبح الملائكة أحرارًا في ممارسة الحبّ
ويتزوج اللـه
حبيبته...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

4-

وعدتك
أن أبقى محتفظًا بوقاري
كلما ذكروا اسمك أمامي
أرجوكِ
أن تحرريني من وعدي القديم
لأنني كلما سمعتهم يتلفظون باسمك
أبذل جهد الأنبياء
حتى لا أصرخ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

5-

كنت أعرف دائمًا
أنكِ فلة
ولكنني عندما رأيتكِ بثياب البحر
أدركت
أنك شجرة فل...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

6-

طالت أظافر حبنا كثيرًا
علينا
ان نقص له أظافره
وإلا ذبحكِ
وذبحني...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7-

كلّ رجل سيقبلك بعدي
سيكتشف فوق فمكِ
عريشةً صغيرةً من العنب
زرعتها أنا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

8-

أرجوكِ أن تحترمي صمتي
إن أقوى أسلحتي هو الصمت
هل شعرتِ ببلاغتي عندما أسكت؟
هل شعرتِ بروعة الأشياء التي أقولها؟
عندما لا أقول شيئًا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

9-

المتعامل معكِ
كالمتعامل مع طيـّارة ورق
كالمتعامل
مع الريح والصدفة ودوار البحر
لم أشعر معكِ في يوم من الأيام
بأنني أقف على شيء ثابت
وإنما كنت أتدحرج
من غيمة
إلى غيمة
كالأطفال المرسومين على سقوف الكنائس...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

10-

لا أنا أستطيع أن أفعل شيئًا
ولا أنتِ تستطيعين أن تفعلي شيئًا
ماذا يستطيع أن يفعل الجرح
بالسكين المسافرة فيه؟

(اللاذقية)

(*) ملاحظة: سبق أن كتبت الشهادة مرتين، الأولى على أن تنشر في ملف، والثانية كمشاركة في كتاب، عن نزار قباني، ولأسباب لم يحدث ذلك!

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.