}

المعلمون الثلاثة: (محمّد ــ إلياس ــ ميشيل)

منذر مصري 13 أبريل 2024
سير المعلمون الثلاثة: (محمّد ــ إلياس ــ ميشيل)
ميشيل كيلو ومحمد سيدة وإلياس مرقص
(1)
لديّ مشكلة! بل لديّ مشكلات! إلّا أني الآن أتكلم عن واحدة منها على وجه التحديد. وذلك لأنكم، كما صارحني البعض، تعانون منها كما أنا أعاني وربما أكثر، وهي: الإسهاب.

(2)
هنالك صفات سلبية عديدة لما أكتبه، وهذه ردودي عليها:
(مكرّر)... التكرار هو الفن. يقول هذا آندي وارويل، وتنكره بشدّة ولكن فعلته طوال حياتها ليلى نصير. أقول لكم قول العارف: جميع الفنانين يكررون.
(متهوّر)... في الحفرة يوجد تهوّر في كتابة أي شيء. ألا تذكرون أم سمير القصير اللاذقانية وهي تصيح به: "ماذا تكتب يا ابني؟ ماذا تكتب؟".
(ذاتي)... يقول إلياس مرقص في شهادته عن جبرائيل سعادة: "ستقول لي أيها القارئ إنك لا تكتب عن جبرائيل سعادة، بل تكتب عن نفسك!".
(مشتّت)... وماذا يتوقع مني بعد 14 عامًا من الحفر، من النبش بالأظافر والمخالب، بلا طائل، في الحفرة؟

(3)
ولكن (مسهب) الصفة الأشدّ استحقاقًا لأن يوصم بها كل ما أكتبه هذه الأيام، وربما منذ سنوات كثيرة! الفكرة التي يكفي كتابتها عشر كلمات، أكتبها بعشرة أسطر وربما أكثر! ليس في المقالات فحسب، الأمر المقبول لحد ما، بل أيضًا في القصائد، في الشعر! وهذه هي الطامة الكبرى، لأنه، كما تعرفون، يقال إن أهم صفات الشعر، أهم ميّزاته، التي يتفاخر بها على ما عداه من ضروب الأدب، هو التكثيف! ما يستوجب قوله عدة صفحات، يختصره الشاعر ببيت شعر واحد! فمنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، كتبت مطولاتي الخمس، التي لم يتح لي جمعها وإصدارها في أكثر مجموعاتي خروجًا على الشعر: "سير مشبوهة"، دار نينوى 2016، إلّا بعد انقضاء ما لا يقل عن ربع قرن على كتابتها، من بينها "لمن العالم"- القصيدة التي وصفتها بأنها أطول وأسوأ قصيدة في الشعر العربي الحديث. 100 صفحة بالتمام والكمال يا رجل! فوافقني على ذلك، لأوّل المرة، عدد من الأصدقاء، عادتهم مخالفتي في كل شيء. وكأني فهمت وصية محمد سيدة لي: "أعط الصورة حقّها، لا تنقّص ولا تزد"، ألّا أترك فيها التباسًا إلّا وأوضحه، وغموضًا إلّا وأجليه! ظلًّا إلّا وأضيئه، أن أقدّم للقارئ الصورة الشعرية مجلية وسافرة لا تخفي تفصيلًا مهما صغر. الأمر الذي نبّهتني إليه، عناية جابر، عندما أعطاها عباس بيضون مختارتي الأولى "مزهرية على هيئة قبضة يد" ــ دار رياض الريس ــ 1997، وطلب منها الكتابة عنها في ملحق السفير ــ فكتبت بالحرف الواحد: "يستأثر الشاعر باحتمالاته، واحتمالاتك أيضًا! ليقول كل ما من شأنه أن يؤكد له أوّلًا أنه قال كل شيء وارتاح، وليس ثمّة من مزيد". ولكن كيف لي، وأنا على ما تعرفونه عني من عناد ويباس رأس، أن أحذر وأبتعد عن الاسترسال المجاني، الذي تعود عناية وتقول إنه شبهة كتابتي الوحيدة! لا عناية جابر ولا سواها من الأصدقاء، الشعراء وغير الشعراء، الذين كانوا يصيحون بي أن انتبه وصلت للحافة، انتبه تجاوزت الحد! انتبه أنت تقع! استطاعوا منعي من أن أغذّ السير في هذا الطريق وأنا أترنم بسطر من شعري: "أستطيع أن أتخذ لوصولي إليك طريقًا طويلًا". مانعًا نفسي من مجرّد الالتفات، التفاتة خاطفة، إلى صيحاتهم!

(4)
ألم يقل الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب (العروض)، وتبعه أبو منصور الثعالبي صاحب "اللطائف والظرائف"، وأبو إسحاق الحصري صاحب "زهر الآداب وثمر الألباب". وبعدهم كثير كثير من رواة الشعر ونقّاده: "الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنّى شاؤوا... يطوّلون قصيره ويقصّرون طويله". وزاد عليهم أبو بكر الخوارزمي، وهذه أتمنى ألّا تنسوها: "إذا أقرّوا بالكبائر، لم يلزمهم بها أحد، ولم تمتد إليهم بالعقوبة يد"! فلطالما رأيت نفسي من أولئك الشعراء الذين عملهم تطوير القصير، وفي أوّل تسعينيات القرن الماضي ظننت أني وقعت على شيء جديد لا سابق له في الشعر كله، عربيًّا كان أم أجنبيًّا، وهو كتابة قصيدة كاملة اشتقاقًا من عنوانها، من تضاعيف المعاني التي يتضمّنها العنوان، كل قصائد مجموعتي "الصدى الذي أخطأ" ــ دار أثر 2011، كتبتها بهذا الأسلوب: (كلما رأيت غرابًا طائرًا تذكريني)، و(بيت مضاء لا يسكنه أحد)، و(الشعر شجرة تعترض طريق البشر)، وسواها.

(5)
وها أنذا أقرّ، بدوري، أن كل ما سقته لكم آنفًا ليس سوى مبررات واهية، ليس سوى ذر الرماد في العيون، ذلك أني مسهب ليس بسببه ولا لأجله ولا قناعة به! بل لأني تلميذ نجيب لثلاثة ثرثارين عظام! أوّلهم معلمي محمد سيدة، الذي أينما وجد، وتشهد على هذا الصديقة ندى منزلجي عندما كان يزورها في مقر عملها، وحينها كانت تسمع مديرية الخدمات الفنية كلها ماذا كان يتكلم!

بو علي ياسين في مديرية التخطيط باللاذقية عام 1984- تصوير منذر مصري

والصديقة الأخرى سميرة عوض عندما صادفته ذات يوم في باص النقل الداخلي، فعرف جميع من كان في الباص قصة خلافه الطبقي والأيديولوجي مع شخص اسمه منذر مصري! فقد كان وحده من يتكلم ويتكلم ولا يترك لأحد سواه مجالًا سوى للصمت، ولكن ليس للاستماع، ليس للإنصات، لأنه كان يكرر ما يقوله للمرة المئة بعد المرة المئة بعد الألف! ولأنه أيضًا كان يتكلم بصوت مرتفع يصمّ آذان كل من يوجد حيًّا على مسافة 500 متر، وربما أبعد! أذكر يومًا أني تباهيت في جلسة مع أصدقاء في كافيتريا (قصيدة نثر) بأنه معلّمي في كل شيء، في الشعر وفي الحب وفي كثرة الكلام وعلو الصوت. إلّا أنه ما إن تركنا الجلسة وابتعدنا خطوتين أو ثلاث خطوات، حتى صاح بي غاضبًا بصوت شقّ عنان السماء وأجفل الملائكة في قيلولتهم في الأعالي: "إن كان هذا ما سوف تتذكرني به بعد أن أموت، فأنا أريدك أن تبطل صداقتي وتنساني منذ اليوم!". إلّا أن المعلم الثرثار، عصفور الكناري المزعج، كما وصفته في إحدى قصائدي الباكرة عنه، كان مقتضبًا ومكثفًا وموحيًا في الشعر أكثر منه شارحًا ومستفيضًا، فأغلب قصائده كانت من أربعة أسطر، أو خمسة، وبعضها لم يزد عن سطرين! الحال نفسه التي كانت عليه قصائدي في السنوات الأولى من كتابتي، وذلك تنفيذًا لأحد أوامر أنسي الحاج المنصوص عليها في مقدمته الشهيرة لديوانه البكر "لن" ــ دار مجلة شعر 1960، والتي اعتبرت البيان العربي الأوّل لقصيدة النثر: "إن كل قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأن قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن حاجة إلى التماسك، وإلّا تعرضت للرجوع إلى مصدرها، النثر، والدخول في أبوابه من مقالة وقصة ورواية وخاطرة"! مع إنه كان بهذا الكلام يناقض ما يورده في موقع آخر من مقدمته، مثلًا: "قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كلّه قصيدة واحدة". ولا أظن هناك ما يجب أن نأخذه على أنسي في هذا، فالشاعر حين ذاك لم يكن قد تجاوز الـ23 عامًا! لينتظر بعدها 15 عامًا حاشدة، أصدر خلالها ثلاثة أهم دواوينه: "الرأس المقطوع" ــ دار مجلة شعر 1963، "ماضي الأيام الآتية" ــ دار مجلة شعر 1965، ثم المفضل بالنسبة لي "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" ــ دار النهار 1970، حتى يكتب ديوانًا كاملًا من قصيدة واحدة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" ــ دار النهار 1975. وكان قد سبقه إلى هذا منذ بداية البداية توفيق الصايغ في كلا ديوانيه "القصيدة ك" ــ مطابع دار مجلة شعر 1960، و"معلقة توفيق صايغ" ــ المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر 1963.

(6)
لا أعرف بالتحديد عدد مؤلفات وترجمات إلياس مرقص، وذلك لأنه من الصعب لليوم أن تحصر، أعرف أنها بالعشرات، منها كتاب أقرب للمجلد الكبير، ذلك أنه كان أحد مراجعنا الأساسية، أنا ورفاق صفي: الفلسطيني نعمان كنفاني أخو غسان، والسوداني عمر عبد السلام، وعبد اللطيف عوّاد المغربي، في رسالة تخرّجنا من كلية العلوم الاقتصادية في حلب 1971: (خمسة نماذج عن التنمية الاشتراكية في العالم الثالث) عدد صفحاته 704 صفحات عنوانه "الماركسية والشرق". إلّا أن إلياس كان يقول لي، بلهجة أقرب للشكوى، إنه لديه مشكلة في كتابة المقالات، لا يستطيع أن يكتب مقالة قصيرة، بثلاث أو أربع صفحات صالحة للنشر في صحيفة، الحد الأدنى لمقالاته 15 صفحة أو 20 صفحة. أما شهادته التي ذكرتها أعلاه في كتاب "مع جبرائيل سعادة" ــ دار المنارة 1996، فقد كانت تزيد عن 50 صفحة، اختصرها إلى 15 صفحة بناء على طلب سجيع قرقماز معدّ الكتاب!

(7)
ما أذكره في دفتر مذكراتي: 4 كانون الثاني/ يناير 1984، أنّي اصطحبت إلياس مرقص العائد لتوّه من بيروت، حيث كان يشرف على إصدار مجلة "الواقع"، لحضور السهرة التي دعانا أنا وميشيل كيلو إليها، بو علي ياسين في بيته في المنطقة الصناعية القديمة وسط المدينة. وكان ذلك من دون إخبار بو علي ولا ميشيل، لرغبتي أن أفاجئهما، ولمعرفتي كم سيسرهما حضور إلياس بيننا. وهذا ما حصل. قضينا سهرة رائعة لا تنسى، مع أني نسيت كل ما تكلمنا بها، ولكن ليس ما قاله لي ميشيل ونحن نستمع إلى إلياس يروي قصصه ويشرح نظرياته: "تصرف رائع منك أنك أحضرت إلياس للسهرة". فقلت له مازحًا: "أحضرته ليحمل عنك كتفًا في الكلام، كي لا تبقى تتكلّم لوحدك!" ولكن ليس ميشيل كيلو من يترك صاعًا كهذا يمرّ دون رده صاعين، فقد أجاب مباشرة، وكأن الجواب حاضر على رأس لسانه: "البركة فيك يا أخي".

(8)
وكالعادة بوعلي ياسين، كان الصامت الوحيد بيننا!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.