}

المسكين في زمن الإصبع الصغير*

سمر يزبك سمر يزبك 27 فبراير 2023
قص المسكين في زمن الإصبع الصغير*
عمل للفنان التشكيلي السوري سعد يكن

المسكين!

لم ينسَ الفحل المسكين تلك الركلة! يبدو أن هناك أمرًا ما لم أتبيّنه جيّدًا في سلوك الفحلات والفحول يتعلّق بميكانيزم الذاكرة، حتى أني عندما ركلته لم أفعل ذلك متعمّدةً، كنت أقوم بإحدى حركاتي البهلوانية، أقول الحقّ: البائسة، كنت قد نسيت وجهه!

كان ذلك ربما من ألف سنة؟! ونحن نتسابقُ في جماعاتٍ تتفرّقُ حينًا، ثم تتجمّعُ حينًا آخر؛ نصيح ونقفز في الهواء، نتقاتلُ ونضحكُ ونتضاجعُ وننجبُ مهرّجين جُددًا، ثم نرميهم في الهواء ليجيدوا فنوننا القتالية. لم يخطرعلى بالي أن تلك الحركة الرياضية التي أعتزُّ بها قد تحوّلت إلى نارٍ تأكله، ولكن القصّة ليست هنا؛ القصّة أني القتيلة سأروي حكاية قاتلي المسكين!

كان الوقت لا يسعفنا لننظر في وجوه بعضنا البعض، فكما قلتُ لكم؛ كنّا نأكل ونشرب ونهرول، ونلتهم بعضنا بعضًا، وقد كنت حينها أغذُّ السير بهمّةِ انضباط ٍمضحكٍ. بين حين وآخر يختفي أحدنا قبل أن يصل معنا نفس الهاوية!

حصل وركلتُه عندما حاول التهامي. إنها الصدفة العادية لسياق الدفاع عن النفس لا أكثر. الصدفة التي تجعل حركاتِ أجسادنا البهلوانية والاستعراضية تتشابك، أو هكذا اعتقدتُ بسذاجة الحكمة التي تعتقد عرّافات الزمان أنهن يملُكْنَها!

كنت قد درّبت نفسي بدأبٍ على الحركة التي أعيد على مسامعكم مدى فخري بها. لم أحصل ولا على أيّ فوز في فنون المصارعة والملاكمة، ولكنني أجدْتُ القتال، وكان الآخرون لا يحصلون على إجاباتٍ وافية لتعريفي، رغم أني أركلُ مثلهم، كانوا في حالة ريبةٍ! كنت أحملُ وجهًا صغيرًا بعينين قلقتين؛ لي وجه طفلةٍ يتّصل برقبة نحيلةٍ وطويلةٍ لجسد امرأةٍ ناضجة، يسكن صدري قلبُ غزالٍ بسبع حيواتٍ مخبأة في قبضة الهاوية، أطرافي تنتهي بأصابع امرأةٍ عجوز؛ أصابع طويلة تنبتُ منها آلاف المخالب! مخالبي مثل نهايات أغصان الشجر اليابس، لكنها مقلّمة بعناية، لقد كنت وحش الألم، ذلك المعلم الكبير للصمت!

عدَا شكلي المريب فقد كنتُ موهوبةً بتَرْكِ الجماعات والحشود، كلما حاولنا في هرولتنا أن ندقّ على وجوهنا تلك الوشوم، كنت أهرب. نعم كنت أهرب، وهذا أمر أجيدُهُ ببراعةٍ قليلٌ نظيرُها، رغم أني أعرف أني مهما هربت فسأقعُ معهم في هاويتنا جميعًا، ولكن لا عليكم، فأنا أستطرد في قصّتي الصغيرة جدًّا، وهذا أمر سوف تسامحونني عليه، فقد قُتلتُ خمسَ مرّات، ولم يبقَ لي الكثير، وصارتْ هناك فجواتٌ في رأسي. حسنًا، كنت أتحدّث عن الركلات الرياضية التي تجعلني في حالةٍ من تنافرِ الجاذبية! إذ أجدُ نفسي أطيرُ في الهواء، ثم أركض وأهرول، أقعُ وأهوي، ثم أعود لممارسة تلك الحركات التي تتحوّل إلى رقصٍ متناغمٍ مع حركات الآخرين والآخريات، كنّا نبدو مثل لَقْطةٍ بطيئةٍ ومكرّرة في فيلمٍ سينمائي كوميدي.

تربية مخالبي وسقاية أطرافي كانت مُهمةً لي، حتى أنها نبتتْ وتفرّعتْ، وتحوّلتْ إلى غابةٍ مِنْ حولي، ولم يَعدْ من الممكن رؤيتي بوضوحٍ، ثم أني صرت أرى نفسي داخل الغابة. ببساطة كنت راضيةً، ثم جاء زمنٌ اختلفت فيه النفوس وانقلبت الأحوال، وصار لكل واحدٍ منّا مسرحٌ متنقّل مضيءٌ يحمله فوق رأسه؛ مسرحٌ اسمه: (الهالة المضيئة)، وهو فنٌّ جديدٌ من فنون القتال أيضًا، كانت هرولتنا قد تحوّلت إلى ركض، ولم أكنْ الوحيدة التي تقوم بتلك الحركات البهلونية كما أخبرتكم؛ رجالٌ ونساءٌ يقفزون ثم يعودون، ويقفون على أرجلهم، ومنهم مَنْ يعود ويزحف على أطرافه الأربعة، باختصارٍ شديد، وحتى لا أطيلُ، وأنا ما زلتُ في حياتي السادسة  كان الأمر طبيعيًّا، حتى نبتتْ تلك الأمور الغريبة العملاقة التي سمّيناها (الهالات المضيئة)، فوق رأس كل واحدٍ منّا، وصارت هالاتنا نحن ونحن هالاتنا، حتى أن هالاتِنا صارت رؤوسنا، وتغيّرت أشكالنا البشرية لأن رؤوسنا اختفتْ مع مرور الزمن، وكنّا نطير تقريبًا، نعلو عن سطح الأرض مسافة عدّة سنتيمتراتٍ، وننظر إلى ذلك اللاشيء، ذلك الذي لا نعرفه، للإنصاف، كانت الهالات التي تحوّلت إلى رؤوسٍ لنا تشبه تلك الدوائر البيضاء التي كنّا نراها ونحن صغارٌ لرسوم الملائكة في دفاترنا المدرسية، ولكنها لم تكن دائريةً، كانت مختلفة الأشكال والأحجام، ولكنها كافيةً لتُعلّقَ الأنظار بها، ونرى من خلالها أنفسنا، حتى أننا لم نعد ننظر إلى الأرض، ونسينا شكل أقدامنا. صارت عيوننا معلّقةً على هالاتنا، وأصابعنا الصغيرة لا تكفّ عن اللعب بملمسها الناعم الهلامي؛ ملمس ذو شعور غامر بالهناء ممتلئ بنا وبحيواتنا، سرعان ما يتركنا هذا الملمس الناعم فارغين في حالِ ابتعدتْ أصابعُنا عن مداعبته. حتى تلك اللحظة لم أكن قد جرّبت الموت، وحقيقةً لم أكن أفكّر فيه، حتى ظهرتُ أنا داخل إحدى الهالات، كانت هالته! تذكّرت وجهه، ورأيتُ ما رأيت!

كان عليّ أولًا تلمّس جسدي لأدرك الفارق بيني وبين تلك المرأة التي تشبهني، وتعيشُ في رؤوس الآخرين أعني الهالات! وكان ينتابني تشويشٌ ما لأن صور الجميع كانت تنتقل ببساطة من هالةٍ إلى أخرى، ولم تكن صورًا عاديةً، كانت مجرّد مِزقٍ وأشلاء، وحينها اختفتْ الحركات البهلوانية مع الاستعراضية والكوميدية منها، وتحوّلتْ إلى قتلٍ بالسلاح الأبيض! وحلّ زمنٌ آخر! وحتى أصدقكم القول لم يكن المشهد كوميديًا حينها، وصارت الحياة هناك في رؤوسنا الجديدة المضيئة، وانتشرت الثغرات في أدمغتنا، حتى أننا كنّا نستطيع أن نمرّر أصابعنا بين تلافيف أدمغتنا ونعبث بها كمادّة لزجة، صارت رؤوسنا هناك في مكان ذي جاذبيةٍ أقوى من مغناطيسيةٍ تجعلنا نبتسم، نبدو مثاليين، ونتصرّف بأدبٍ جمٍّ، ونحن ننظر إلى الهالات، مفعمين بالغبطة لعظمةِ كل واحدٍ منّا. هناك بدأت عمليات قتلي حين انتهى السيرك الأرضي، وحقّق مسرح الهالة المضيئة نجاحًا غير مسبوقٍ، حتى أنه طغى على اختراع الطباعة!

قتلٌ أوّل: رأيتني هناك ممددةً داخلَ هالته وسط كومة حطبٍ، أنظر بذهول، كان يحمل شعلة نار، ومن حوله هياجٌ شديد، وهو يصرخ، والأقدام التي عامت فوق الأرض حملت تلك الوجوه المستثارة! ثم جمع المزيد من الحطب وغطّاني به وأشعل النار. كنت مربوطةً بعمود رخام، ولم أكن حتى أذكر وجهه، حتى شعرت بلسع النار وحدّقت فيه، وصرخت، ولم يُسمع صوتي داخل الهالة.

قتلٌ ثانٍ: كنت أخرج من رماد المحرقة، وقد فقدتُ قدمي اليمنى. مع ذلك كنت أتمطّى، ربما كنت أغفو أثناء الفجوة السوداء التي مرّت في الزمن. ثم رأيتني معلّقةً كذبيحة في غرفةٍ زرقاءَ، وكان هو نفسه يتوسّط هالته يمسك بسكّين صغير، ثم وبأناةٍ شديدةٍ، وبحركاتٍ انسيابيةٍ يرّقص يديه وهو يصرخ بالجموع الهائجة. لم أفهم ما يقول، لكني رأيت شفتيه الممطوتتين، ثم لمحت انحناءاتِ جسده، وهم يصفّقون له، وقبل أن يبدأ بتجريف لحمي قطعةً قطعة، كان يبتسم للجمهور. لقد كان حريصًا كل الحرص على أن يفعل ذلك محافظًا على قياسٍ دقيقٍ، كل تجريفٍ ما يعادل خمسةَ سنتيمتراتٍ من مساحة جسدي، وهكذا... هكذا...

قتلٌ ثالت: كنت في هالته من جديد، وقد صرتُ نتفًا من اللحم المقطّع، فقدتُ شعري وصرتُ صلعاءَ، وكان ينظر وقد انتفخت عيناه، كان الصمت يعمّ، والجميع ينتظر ما يحصل، ولم ألتقط أنفاسي بعد! وهم يستعدّون للهرولة، حينها نهضتْ تلك القطع المفرومة من لحم جسدي كسربٍ من الطيور الوردية اللون، وتشكّلتُ من جديد، وجلستُ فوق محرقتي أحملُ سكّينه الصغيرة، ودخّنت سيجارتي مثل أبطال الكاوبوي! ثم رأيت تلك الدودة تأكله، وأنا أطيلُ التحديق فيه، فقد كنتُ أعرف أن الأعين مصوبةٌ عليّ في الهالات، نظرتُ فيه بهدوء حتى تلتقط كاميرات الهالات تحديقتي البطولية تلك، كنّا جميعًا كما قلت لكم مهرّجين! ثم رأيت تلك الدودة تأكله، وبالكاد وقفتُ، حتى لمحتُ فوّهة مسدّسٍ أسودَ طويل، فوّهةٌ نحيلةٌ ودقيقةٌ تتطاول وتنمو حتى التصقت بجبهتي، ثم خرجتْ كُرةٌ صغيرةٌ معدنيةٌ تسمّيها الجموع رصاصة. تلك الكرة الصغيرة جدًّا سحقتْ جمجمتي!

قتلٌ رابع: كان ذلك في يوم مشمسٍ وبعد أن أكملَ رأسي عملَه، وطردَ كرة الرصاص من وسط جبيني، لفظَها كما يلفظُ طفلٌ لقمة طعام، ثم مشيتُ فوق رمادي في المحرقة، وكانت أذناي قد اختفتا مع قطع اللحم المفروم، ولم تلحقا بالسرب الذي أعاد تشكيلي، وكانت الدودة قد تحوّلت إلى ثعبان يأكله من أحشائه ورأيت تغضّنات وجهه، وهو يحضّر حبل المشنقة، ويطرق مسامير أعمدةٍ خشبيةٍ ضخمة، ويتأكّد من جودة الحبل الثخين، وهناك لم يكن وحيدًا عندما تقدّم، لقد حملوني باعتياديةٍ، كانوا يَبدون لطفاء، إنهم المجهولون الذين لا أعرفهم، ملامحُهم عاديةٌ؛ منهم مَن تثاءبَ، وآخرون تبادلوا القبلات وهم يهرولون ويحملوني، ربما كانت عادات رياضية صحيّة بالنسبة إليهم!  

متُ شنقًا، ورأيت عينيه السعيدتين، ولمحت أطراف أصابعي؛ أغصان الأشجار اليابسة المقلّمة الحادّة، وهي ترتجف قبل أن أتهادى في فضاء هالته... هكذا مثل رقّاص ساعةٍ.

قتلٌ خامس:عندما قطعوا الحبل كانت يدي الأخرى قد اختفت، مع قدمي اليسرى، وتكسّرت أطراف أغصاني اليابسة في أصابع قدمي اليمنى، ثم خرجتْ تلك النحنحات، وبصقتُ شيئًا من فمي، ورأيت عينيه وأنا أستعيد أولى لحظات شهيقي، كان الثعبان في داخله قد اقترب من حوافّ قلبه، فتلوّى ألمًا وسقط، ثم زحف على ركبتيه وهو يطلب الاستغاثة، وسمعت ذلك الصوت، ولم أع ِما حصل لاحقًا، كانت اللكمات والضربات تنهال عليّ من كل حدبٍ وصوب، لم يقف المجهولون على الحياد، جرّوني معه حتى أوّل البحر، ابتلعتُ الرمال وانتفختُ حتى صرت هضبةً، ولكنهم لم يتوقّفوا، دخلوا بي البحر، وهناك غطّسوا رأسي في الماء، حتى تهاديت برفقٍ وانسيابية مع الأمواج. الحقّ أقول: لقد كانت الأمواج رقيقةً، وقد أرجحْتُ جسدي حتى غفوت.

لست خارقة طبعًا، وليس لمجرّد أني أجيدُ بعض حركات فنّ الجودو والكاراتيه يعني أني لا أموت، ولكن حصلت الأمور بطريقةٍ عادية جدًّا، كما تحصل ربما دومًا، أو أنها ظواهرٌ لا تحصل دائمًا... ولكنها لصدفةٍ ما تحصل، نبتتْ غلاصمٌ تحت جلد رقبتي، وسبحتُ وحيدةً، وهم يتفرّجون، وكان هو واقفًا، وقد رأيت أنه قد تحوّل إلى جلدٍ وعظم! يحدّق بي مذهولًا، انفضّ الكثيرون من حوله، كانت هناك مسارحٌ من الهالات المضيئة تظهر وتعجّ بالمحارق والمشانق والهرج والمرج، كانوا مهتاجين تتطاير من أعينهم لمعاتٌ ناريةٌ، وكنت قد فقدت صوتي بعد أن نبتت الغلاصم في رقبتي، وصرت خرساء. ولم أفقد بصري، لأني كنت أستطيع رؤيته وهو يتحوّل إلى خطيبٍ عظيمٍ يقف وسط هالته وقد تطاولت يداه، وهو يحاول إقناع ما تبقّى من متفرّجيه على قتلي للمرّة السادسة، لكنه خرّ على ركبتيه وهو يصرخ: ياالله... ياالله لماذا تركتني هنا وحيدًا مع هذه القاتلة؟!  كان قد بدأ بقضم أصابعه، وبالتهام أطرافه، قبل أن يصرخ بالجموع صرخةً موجعةً مدوّية ترقّ لها القلوب، بينما يشير إليّ: القاتلة... اقتلوها... اقتلوها...

لا أخفيكم كانت تلك هي اللحظة الخاطفة التي اندفعت فيها جموع الحشد بهياجٍ وصياحٍ قلّ نظيره، وهي ذاتها اللحظة التي بدأت فيها حكايتي وأنا أردّد: المسكين!

*الإصبع الصغير: مستوحى من تعبيرٍ أطلقه الفيلسوف الفرنسي ميشال سار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.