}

وثيقةٌ تمحو الوطن!

سمر يزبك سمر يزبك 11 فبراير 2023

كنت أُعيد اكتشاف ما أحاولُ البحث فيه والكتابة عنه؛ معرفته، مراقبته، النظر والتحديق فيه. على سبيل المثال لا الحصر: السرد الثأري بين كُتّاب الداخل والخارج! مسارات القتلة المعنويين والجلاّدين الذين يختنقون غيظًا أننا ما زلنا أحياء ونُفنّد أكاذيب النظام الأسدي. كل ما يتعلّق بالسرد المكتوب والمرئي بكافّة تنويعاته منذ 2011، وحتى هذه اللحظة تحوّل إلى هوس في محاولةٍ لفهم "السردية الجمعية". ماذا يعني أن نكون سوريين؟! كنت قد تابعت يوميات الصحافة المحلّية في الداخل، وعن قرب أردت فهمَ مروية الموالين للنظام وسردية النظام الرسمية في الإعلام، عبر تتبّعِ أثر الشائعات التي اشتغل عليها منذ بداية الثورة أولًا، والحرب لاحقًا، وهناك اكتشفتُ مشروع (وثيقة وطن) الذي أطلقته بثينة شعبان في يونيو/ حزيران 2016، تحت شعارٍ يُسوّقُ بأنها مؤسّسةٌ غير حكومية وبحثية؛ تُعنى بالتوثيق المعرفي والتاريخ الشفوي، وقد اشتهرت بموجب قرار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. هذا التعريف مأخوذٌ من الموقع الإلكتروني المخصّص للمشروع.
يقوم المشروع على فكرة أساسية كما تردّد صاحبته شعبان؛ أنه صار بتأييدٍ ودعمٍ من رئيسها بشار الأسد، وهو، كما تضيف، مُعدٌّ خصّيصًا لتدوين الذاكرة السورية، وهو بمثابة وثيقة وطنية ستبقى للتاريخ؛ كي تفهم الأجيال المقبلة صمود الشعب السوري وتآخيه، ووحدته في وجه الإرهاب، وتفنيد الأكاذيب التي انتشرت لسنواتٍ حول ما حصل في سورية. هكذا تُنهي شعبان إحدى تصريحاتها حول مشروع الذكراة الشفوية الذي ستُعيد من خلاله خلقَ سورية جديدة!
المشروع أصدرَ كُتبًا عن الدكتور عفيف بهنسي، ومذكّرات عبد الله الدنان، والأسير المحرّر من الجولان السوري المحتل مدحت صالح، وخصّص جائزة سنوية اسمها (هذه حكايتي)، وهي جائزة مقسّمة إلى فئاتٍ عدة، يتمّ توزيع ثلاث جوائز عن كل فئة عمرية، وتُطبع القصص الفائزة في كُتبٍ، ويتمّ نشرها سنويًّا.
استطاع المشروع الذهاب إلى سلطنة عمان والصين، وقد حصل لقاءٌ للمستشارة الإعلامية لبشارالأسد مع وفد روسي بخصوصه، وتُطلق إشاعات دومًا، هنا وهناك، بأن المشروع والكُتب التي تصدر عنه سوف يتمّ ربطها بجامعات في دولٍ عدّة، والشائعات التي نعرف أنها عملٌ أساسيٌّ مخابراتيّ في بنية النظام الأسدي لا تقف عند هذا الحدّ، بل يتمّ الترويج بأن هناك جهودًا حثيثة لربط هذا المشروع بجامعات غربيّة ومراكز بحثيّة.
لقد تابعت عبر شهادات الحائزين على الجوائز، ومن خلال الموقع الإلكتروني واللقاءات التلفزيونية مع أصحاب المشروع، وطوال سنواتٍ، ما يروّجون له، هناك مقولةٌ واحدةٌ لم تتغير، تنتهي كل المرويات الأخرى أمامها: حرب الإرهابيين الغرباء على سورية، واستبدال وصف السوريين الخونة؛ بفكرة التآخي والصمود والوطنية التي أظهرتها فئات الشعب السوري كافة للوقوف في وجه المؤامرة، ولا يقف الخطاب العقائدي لمشروع التاريخ الشفوي السوري عند هذا، كما تقول شعبان، فهو وحسب زعمها سوف يُعيد الاعتبار لأولئك الذين صنعوا البطولات، تقول إنهم الأبطالُ غير المعروفين، الناس العاديون الذين يجب رواية حكايتهم، وهم يأتون بملء حريتهم ويتمّ اختيارهم بشفافية، وعلى كل السوريين الذين يرغبون بأن يكونوا جزءًا من هذا المشروع أن يتقدّموا بقصصهم. وتتابع على لسان حسانة مردم بك، إحدى العاملات على المشروع معها، أنه حتى نحن طلبنا من السوريين المغتربين أن يرسلوا بقصههم، لم تقل حتى من اللاجئين، أو النازحين، أو المنفيين!





الوطن الذي تريد شعبان ومجموعة "وثيقة وطن" كتابة ذاكراته هو وطن الأسد الخاصّ بها، وليس وطن السوريين، وهذا أمرٌ بديهي، ولكن يجب قوله في بعض الأحيان، ويجب الاعتراف أنها تفعل ذلك عبر استغلال قصص الضحايا فعلًا؛ فهم أناسٌ عاديون، مثلهم مثل غالبية السوريين الذين نالهم من المذبحة نصيب. في القصص شهاداتٌ لنساءٍ عانينَ الخطف من قِبل جبهة النصرة، الطفلة التي اُختطفت لأربع سنواتٍ من ريف اللاذقية لا تكذب! لقد كانت أسيرةً لدى جبهة النصرة، ومعاناة المعتقل السابق في السجون الإسرئيلية مدحت صالح حقيقة موثّقة، توفّي مدحت صالح، وأصدروا كتابًا يروون فيه فظائع ما تعرّض له من تعذيبٍ في السجون الإسرائيلية. الجولان حاضرٌ بقوةٍ في سردية وثيقة وطن. داعش وجبهة النصرة حاضرةٌ أيضًا. إحدى الفائزات بجائزة (هذه حكايتي) هي صبيةٌ من مدينة الرقّة تروي قصّة مؤثّرة جدًّا: عندما دفنَ أحد الآباء ابنه الحيّ بدَلَ الميّت. هذا أمرٌ نصدّقه، ونعرف أنه حدثَ، كانوا حينها يهربون من داعش التي احتلّت المدينة.
لا يوجد ذكرٌ في مشروع "وثيقة وطن" للسجون؛ سورية بلدٌ لا سجناء فيه، ولا يوجد فيه أجهزة مخابرات، سورية السعيدة لا تعرف السجون! لم يُقتل الرجال تحت التعذيب في السجون، ولم تختفِ الأمّهات وأطفالهن، حتى أن النساء لم تُغتصب في الزنازين!! لا يوجد لدى المشروع أيّ ذكر للشباب السلميين الذين كان يتمّ اقتناصهم في المظاهرات الأولى في (دوما) وغيرها، لا يوجد حتى ذِكرٌ لتدمير طائرات النظام للمشافي والمدارس والأسواق، لا يوجد حتى إشارة يغطّون بها تزوير التاريخ بشهادةٍ عن جنودهم الفقراء الذي كانوا يُتركون للموت في المعارك، وإذا عادوا أحياء مقطّعي الأطراف، يتمّ صرف مبالغ هزيلة لعائلاتهم التي تموت جوعًا، أو يتحوّلون إلى صورةٍ تذكارية تجمع رئيس بثينة شعبان وزوجته!
الحديث يطول عن فظائع النظام المثبتة بالصوت والصورة، عن مجازره التي تتكشّف يومًا بعد يوم، ولا مجال هنا لذكرها.
ما يجب قوله هنا بأني أصدّق أولئك الناسَ الذين يستخدمونهم، لأني بنفسي كنت قد جمعت مئاتِ الشهادات المماثلة لِمَا حصل لأهل الرقّة، ودير الزور، وريف دمشق، وريف إدلب، واللاذقية، ودرعا، وحلب، وحمص و... لقد نشرتُ بعضها، وحرصت على أن تكون النساء هنّ مَن يروينها عن قصد وتصميم؛ لأن النساء هنّ مَن واجهن وقاومن العنف المركّب، كوحش ذي رؤوس متعدّدة: نظام فاشي إجرامي، ومجتمع محافظ ذكوري، وتشدّد ديني، رفاق وناشطين ومثقّفين يحملون قيم المجتمع الذكورية التي تنظر إلى أولئك النساء كَبشرٍ من الدرجة الثانية؛ هذا أمرٌ عانت منه النساء في الثورة والحرب، ليس من داعش فقط وأخواتها، بل حتى من طبقة النخب، الشهادات التي نشرتُ القليل منها تؤكّد جزءًا بسيطًا مما قالته النساء اللاتي يروين في مشروع وثيقة وطن، لكني أيضًا وثّقت المظاهرات السلمية؛ شهادات لنساءٍ اُغتصبن في سجون المخابرات السورية، ولرجالٍ شهدوا موت الرجال تحت التعذيب في السجون، وثّقت أيضًا مجازر الكيماوي والسكاكين في ريف دمشق و... و...
أذكر هنا الصحافي السوري عروة خليفة المعارض للنظام الذي نشر تحقيقًا في موقع "الجمهورية" تحت عنوان "شتاء عدرا الأحمر"، وهو تحقيق يصف فيه كيف تعرّض الموالون للمجازر، ومنهم من الأقلّيات المتعدّدة، من قبل "جيش الإسلام"، و"جبهة النصرة"، في منطقة عدرا العمالية في ريف دمشق، وكان لديه من النزاهة ليتحدّث عن الوجه الآخر للعنف والمجازر التي اُرتكبت بحقّ المدنيين السوريين، كل السوريين على اختلاف دياناتهم وتوجّهاتهم. أُدرج هذا المثال فقط للتذكير عمّا تعنيه الذاكرة التي حاولنا كتابتها، نحن الذين كنّا ضدّ نظام الأسد، أتحدّث هنا عن أوجه الحقيقة التي نحاول قولها بحياديةٍ وبانتماءٍ جمعي لهويةٍ سوريّةٍ وطنيةٍ، ناظمها الوحيد هو العدالة لكل السوريين.
إن هذا المشروع يحجب أحد أهمّ وجوه الحقيقة الكبيرة والواضحة لِمَنْ يريد أن يحدّق في آلامنا، حقيقةٌ يعرفها كثرٌ ممن يعيشون في الداخل السوري وخارجه. حقيقةٌ يعرفها كثيرون في العالم، ويتغاضون عنها مع اختلاف أسباب كل منهم عن هذا التغاضي! هي أن صانع الإرهاب ما يزال جالسًا... جاثمًا هناك في دمشق، ولديه من قوة الإجرام ما يجعل ناطقته الإعلامية تطلق مشروعًا لتزوير التاريخ.
كان الأجدر أن يُسمّى هذا المشروع: محو وطن...!!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.