}

جوديث بتلر المشاغبة: في الرابطة الإنسانية

سمر يزبك سمر يزبك 20 فبراير 2023
آراء جوديث بتلر المشاغبة: في الرابطة الإنسانية
بتلر متحدثة عن الصهيونية في المتحف اليهودي في برلين(15/9/2012/Getty)

لا يمكن الحديث عن جوديث بتلر إلا بوصفها الفيلسوفة الغرائبية الخارجة عن النمط، ولا يمكن تأطير تعريفٍ واضحٍ لها، فهي إشكاليةٌ إلى الحدّ الذي لا يمكن للآخرين فهمه، إنها التعبير الأمثل عن سوء الفهم! وأظن أن هذا أفضل ما يمكن لنا فعله لتكسير السائد وابتكار الجديد عبر سوء الفهم هذا. فالصور النمطية الجاهزة التعريف لنا كأفرادٍ ينتمون لجماعات دينية، أو قومية، أو جندرية، لا تزال تحكم علاقة الآخر بنا، وعلاقتنا بذواتنا.
عند بتلر المتمرّدة على الفلاسفة الذين تأثّرت بهم يبدو الأمر مختلفًا؛ إنها تتمرّد على نفسها، حيث لا تتوانى أن تصف في إحدى ترجمات كُتبها لغتها باللغة الإمبريالية! ثم تضيف بتواضعٍ، قلّ نظيره؛ أنها ومع كل ترجمةٍ لكتابٍ من كُتبها تتعلّم شيئًا من علاقة هذه اللغة باللغة التي تكتب بها، إنها تتمرّد حتى على عمل الكلمات!


بتلر ضد إسرائيل، ومع حقوق الفلسطينيين، وهي يهوديةٌ!
إنها الفيلسوفة المتأثّرة بحنّة أرندت، وهي مَنْ أشارت إلى أن الأخيرة (معلّمتها) كانت ذات ميول استعلائية ضدّ اليهود العرب، بتلر التي لا تنتمي إلى أي تصنيف سوى اشتغالها على مساحة العدالة، من الهامش تأتي بتلر لتصيرَ في المركز، كما فعلت وقالت يومًا ما الكاتبة (بيل هوكس)، بأننا نستطيع أن ننقُضَ فكرة المركز بتحويل الهامش إلى مركز، والعيش فيه والنضال من خلاله. اشتغالها على قضايا اجتماعية إشكالية وصعبة جعلها مثار اختلاف، عملُها على العنف والذات، إضافة إلى الجنسانية، كان بالنسبة لي طريقًا ملهمًا.
بدأ اهتمامي ببتلر سنة 2014، كنّا قد عرفناها باللغة العربية متأخّرين، ومن حينها لم أُفارق أخبارها ولا كُتبها، ولا ما تُجادلُ وتُحاورُ به، كان الاهتمام قد جاء عن طريق الصدفة، ففي أثناء بحثي عن مراجع في علم الاجتماع عن الذات وعلاقتها بالآخر، عثرت على كتابها البديع "الذات تصف نفسها"، الذي ترجمه فلاح رحيم، وصدر عن منشورات دار الكوفة، ثم تتالت الترجمات؛ "مفترق الطريق اليهودية ونقد الصهيونية"، بترجمة نور الحريري، و"قلق الجندر" بترجمة فتحي المسكيني، والكتابان صادران عن المركز العربي للدراسات والأبحاث، ثم أخيرًا كتاب "الحياة النفسية للإخضاع" بترجمة نور الحريري، وصدر عن دار نينوى، وقد تُرجمت لها عشرات الحوارات والمقالات.



تبلغ بتلر من العمر حوالي السبعة وستين عامًا، وُلدت في عائلة يهودية أرثوذكسية، ولكنها واحدةٌ من أهمّ الأصوات المناهضة للصهيونية. عُرف عنها بأنها لطالما كانت فتاةً مشاغبةً؛ لم تُخالف فقط مرجعيات البيئة التي نشأت فيها، بل حاورتها وأعادت صياغتها. درست الفلسفة، وكانتْ من أهمّ انشغالاتها على إعادة تعريف المفاهيم الإنسانية والوجدانية التي تحدّد علاقات البشر، وتفكيكها على أساس التطلّع إلى مستقبل إنساني أكثر انفتاحًا وعدالةً. على سبيل المثال، تشير إلى أنها لا تستطيع الإحالة إلى مواقف (فوكو) في ما يخصّ القوة؛ لأن القوة في المجتمع قد تحوّلت، ويجب النظر إليها بطريقة جديدة. مع ذلك، فقد ناقشت فوكو، وليفيناس، وهيغل، وتأثّرت بهم، وأعطت المعنى الفلسفي لعملها بعدًا متحوّلًا لا يقف عند ثباتٍ، إشكاليتُها تلك، وسوءُ الفهم اللاحق بما تطرحه من أفكارٍ لم يكن نابعًا كما تقول في أحد حوارتها بسبب الترجمة وانتقال كُتبها إلى لغاتٍ أخرى فقط.
أنا أعتقد أن سوء الفهم وتأويل كُتبها في الغرب يتعلّق بالمسألة اليهودية، حيث تصف إسرائيل بدولة العنف. ورغم وصفها لنفسِها باليهودية المناهضة للصهيونية، فذلك لم يشفع لها، إذ حظيت بمعاداةٍ رهيبةٍ من قِبل غالبية اليهود، الذين ألصقوا بها صفتي الخيانة والفساد الأخلاقي، حتى أنها تعرّضت لحملة تنمّر وحربٍ إعلامية شديدة سنة 2012، عندما حصلت على جائزة تيودور أدورنو، حيث دعا أكاديميون ألمان إلى سحب الجائزة منها. فالجائزة جاءت متزامنةً مع حملةٍ دعت إليها بتلر في أميركا لمقاطعة إسرائيل بوصفها دولة عنفٍ.
لم يتوقّف سوء الفهم المتعلّق بها عند حدّه السياسي، فقد كانت دعواتها اللاعنفية، وإعادة إحياء قضية الجنسانية، مصدر كراهيةٍ عميقةٍ لها، وقد جاءت هذه الكراهية ملتبسةً حتى من قِبَل النسوية نفسها كنظرية مطروحة. لقد انتُقدت من قبل النسويّات أنفسهن، وإن كانت بتلر قد كتبت في وقتٍ مبكّرٍ كتابَها عن "قلق الجندر"، الذي تُرجم إلى العربية بعد أكثر من ثلاثين سنة. كل ما فعلته أنها قامت، وبشكلٍ لافت، بتطوير ما كانت سيمون دي بوفوار قد دعت إليه في مقولتها الشهيرة: بأننا لا نُولد نساءً، بل نصبح، ثم عادت وجادلتها، واختلفت مع أفكارها.
تعزّزُ بتلر تلك الرابطة الإنسانية التي يمكن البحث فيها للحديث عن مفهوم الهشاشة التي ابتدعتها في تصويرٍ بليغٍ لِمَا يمكن أن يستدعي تفكيك سوء الفهم والعلاقة مع الآخر والتعاطف الإنساني، وهي واحدةٌ من أهمّ إشكاليات عالمنا المعاصر، إذ إنها تحاول في سعيها في كل ما تُجادل فيه إلى تقويض أركان الثبات الملحق بالفلسفة، بكونها عِلْمًا ثابتًا وجامدًا، إنها تفعل ذلك على طريقة أصليّة وأصيلة لِمَا يمكن وصفه بالديالكتيك العميق كما طرحته الماركسية. وسوف نلحظ أثر ماركس الخفيّ في لبّ شغلها على مدار سنواتٍ طويلةٍ، فهي مثله تعمل من داخل السؤال نفسه، تهزّ جموده، وتقترح أجوبةً له. إنها تنظر إلى العلاقات المتشابكة والعنيفة التي تحكم البشر في ما بينهم، وتقترح حلولًا لِمَا يمكن أن نطلق عليه مسمّى: بشرية جديدة تنزلق أكثر فأكثر نحو اعتيادية العنف.
كتبت يومًا بتلر: "بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرف نفسه على نحو نهائي ومؤكّد، فإنه من المهمّ لنا ألّا ننتظر جوابًا شافيًا بأي حال. إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحًا، بل حتى ثابتًا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام في الإمكان فهم الحياة، بوصفها على وجه الدقّة ذلك الذي يتجاوز أي وصفٍ قد نقدّمه له".
لا أجد توصيفًا في هذه العجالة عند الحديث عنها، أكثر بلاغةً من العبارة السابقة الداعية إلى اختراع حياة كريمة عادلة؛ حياة كفرصةٍ محتملة ورحيمة للعيش البشري!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.