}

علاقة قديمة بدأت بصحف قديمة

محمود الريماوي محمود الريماوي 25 مايو 2023
سير علاقة قديمة بدأت بصحف قديمة
عمل للرسام الروسي فاسيلي كاندينسكي

بقايا قلم وممحاة

ـ كيف يمكنك الكتابة بهذا القلم؟

ــ انظر ها أنا أكتب به. أنت لا تعرف الكتابة به.

ــ أعرف، يمكنني الكتابة بقلمك، لكن يصعب التحكم به.

 ــ هل تريدني أن أتخلى عنه... أنْ أرميه؟ حرام لن أفعل.

ــ طيب وهذه المحّاية (الممحاة) إنّها لا تمحو، وتترك وسخًا محل الكلمة الممحوة.

 ــ تترك وسخًا قليلًا. الأستاذ يسامح عليه. سوف أشتري محاية آخر الشهر حين يقبض أبي (حين يتسلم راتبه).

الحديث يجري بيني وبين تلميذ زميل، عن قلم رصاص قزم، عن بقايا قلم تم برْيُه عشرين مرة على الأقل حتى غدا بطول 3 أو 4 سنتمترات. وشأن الممحاة ليس بأفضل حالًا، إنها بقايا ممحاة، لقد ذابت أجزاؤها وتقطعت وبقي منها جزء أصغر من سلامية الإصبع الصغيرة للتلميذ.

مثلهما مثل الدفتر والكتاب، فالقلم والممحاة هما من أدوات التعليم الأساسية، ولا نجاح بدون التوفر عليهما واستعمالهما. بل لا قبول للتلميذ في الصف إن لم يكونا في حوزته.

الفرق أنّ التلميذ ومثله كثيرون (ربما نصف عدد تلاميذ الصف وبعضهم من الأوائل في التحصيل) يستخدم القلم إلى النهاية ويُحسن استخدامه، فإذا ضغط بشدة على رأس القلم فإن الرأس ينكسر، مما يضطره إلى بري القلم مما يقصّر من طول القلم وعمره، وإذا بالغ في تخفيف الضغط فإن القلم يكتب خطوطًا باهتة حمقاء لا كلمات أو أرقامًا. والحال مع المحاية لا يختلف كثيرًا فيجب المحو بضغط متوسط حتى لا تتفتت المحاية.

وقد حدث غير مرة أن تنازلت عن قلمي وهو في الربع الأخير إلى أحد هؤلاء التلاميذ الذي يطير من الفرحة، ويأخذ في تقليب القلم ويصفه بأنه جديد، وما هو بجديد. فأبي لم يكن يدقق على استهلاكنا للأقلام. كما كنت أتنازل عن ممحاتي وهي في منتصف عمرها الافتراضي وكنت أخبر أمي بذلك فتجيبني: معليش... فقراء. من يعط يعطِه الله.

لم أتوقف طويلًا عند ملابسهم الرثة وحقائبهم القماشية المضحكة التي صنعها خياط(ة) على عجل أو مع المحارم (مناديل الجيب) شبه المهترئة أو أحذيتهم البالية، غير أني تعاطفت بشدة مع بقايا أقلامهم وممحاة كل منهم، كما يتعاطف المرء مع ملاح يخوض البحر بقارب هزيل وبمجذاف بطول ذراع طفل.

إليزابيث والسنوسي

نُبحر ونطير بما يتيسر من أدوات، فقد عرفتُ الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا في وقت مبكر ليس من الراديو ولا من صحيفة ولا من كلام أحد، بل من طابع بريدي صغير لبلادها يحمل صورتها. ويعلم الله من أين تحصلت على مجموعة طوابع بألوان مختلفة تحمل كل منها صورتها، إذ لم تكن المراسلات في محيطي ناشطة مع المملكة المتحدة، حتى أقع على رسائل مثبت عليها طوابع تحمل صورتها وهي شابة بالطبع، والتاج الذهبي يكلل شعرها الأشقر...

والحال أني جمعت مئات الطوابع لعشرات البلدان في ألبوم خاص بهذه الهواية الجميلة، حيث كانت تجري عناية فائقة بكل طابع، واستبعاد النماذج غير السليمة واستبقاء تلك التي لحقها ضرر طفيف فقط.

طوابع صغيرة وكبيرة، بأحجام مُربّعة ومستطيلة ومثلثة، تحمل صور طيور وأزهار وأشجار ومعالم تاريخية ومشاهد طبيعية وآثار وسوى ذلك، مع التدقيق في انتسابها لبلدانها وحتى الانتباه لسعر كل منها في بلدانها. وكان الصغار يتنافسون في جمع أكبر عدد منها، ومن لديه حسّ تجاري مبكر فإنه لا يتوانى عن عرضها للبيع وبثمن مرتفع من دون أن يشتريها أحد. فهل سينفق أحدنا العيدية مثلا لشراء ألبوم طوابع؟ فيما لا يتردد البعض في عرض عدد قليل منها للبيع، والطابع الأجنبي أعلى سعرًا من نظيره العربي. غير أننا لم نكن ننشغل بالبيع والشراء، بل بدعوة صديق أو أكثر للفرجة على الألبوم في البيت باعتباره من الإنجازات الباهرة والمقتنيات الثمينة التي يقتضي التحرز عليها وعدم تعريضها للعبث.

ومن تقنيات جمع الطوابع أنّ الهواة يتبادلونها، فإذا كنتُ أتوافر على طوابع عديدة لمصر، حتى لو كانت قديمة ومهمة وتحمل صورة الملك فاروق، فإني أقايض اثنين أو ثلاثة منها بطابع ليبي نادر يحمل صورة الملك إدريس السنوسي بطربوشه الأحمر القصير.

حقًا وصدقًا فإني أجهل الآن كيف كنا نتحصل على طابع برازيلي أو هندي أو ألماني، أمّا الطوابع العربية فمقدور عليها، إذ إنّ الاعتماد على الذات من القيم الراسخة والمواضعات الثابتة التي نشأنا عليها.

أين ذهب ألبوم طوابعي؟

ذهب مع الريح... مع ريحٍ صرصر ما.

لعلي قد قايضته مع مكتبة مقابل أعداد من مجلة "بساط الريح" اللبنانية أو "السندباد" المصرية، وهذه المجلات القشيبة بدورها ذهبت مع ريح أخرى.

ما أشدّ هبوب الرياح على محطات الحياة، وألعنها الريح اللئيمة التي تحمل نبأ غياب عزيز.


الكلمات تلعب بي

كان جدّي أبو يوسف في خمسينات القرن الماضي يشتري كمية من نُسخ الصحف القديمة لاستعمال أجزاء منها لتغليف مبيعاته. وكنت وأنا ابن التاسعة أو العاشرة أتسلل وأجلس قرب الخزانة السفلية التي تضم الصحف القديمة، أسحب عددا من الصحف أقلّب صفحاتها وأقرأ ما فيها من مواد متناثرة مثل الحكايات والخواطر والتعليقات القصيرة، وجدّي يزعق بي: ماذا تفعل... إنّها صحف قديمة؟ فأقول له إني لا أقرأ الأخبار فيها. وبما أنّ عدد نسخ الصحف يفوق المئة نسخة مثلًا، فقد كان جدي يتصور أني سأظل على جلستي ولن أغادر حتى أنهي قراءة جميع الصحف. لكني كنت أتعب من الجلسة قعودًا أو قرفصاءَ، فأنهض منتشيًا لما قرأت وأغادر لأعود في أول فرصة لاحقة لأستكمل ما بدأته.

هكذا فإنّ علاقتي بالصحف قديمة، وبدأت للمفارقة بالصحف القديمة التي كانت جديدة بالنسبة لي ما دمت لم أقرأها من قبل.

وفي طريق العودة من المدرسة، مدرسة البحتري ثم مدرسة هشام بن عبد الملك، كنت أمر على الدكان وأطلب من جدي أن أطلع قليلا وبسرعة على صحيفة اليوم... ذلك أنه كان يقرأ صحيفة "الدفاع"، أما أبي فكان يحضر معه إلى البيت صحيفة "الجهاد". وكنت أميّز الصحيفتين بسرعة وسهولة عن بعضهما. وكان جدي يحبني فحين كانت علب الراحة (الحلقوم) في الدكان تتقادم قليلًا من دون أن تفسد، ومن دون أن تتيسر فرصة بيعها، فقد كان يمنحني علبة كرتونية كاملة منها إذ يعرف مدى ولعي بالحلويات. وقد كان لكلمات صحفه القديمة من المذاق المستساغ المحبب، ما لا يقل عن لذة راحة الحلقوم المعطر التي يمنحها لي.

إنه جدّي لأمي أبو يوسف (محمد يوسف سحويل) الطويل القامة والنحيل، وأبيض البشرة بعينيه الزرقاوين زرقة البحر، بصرامته التي يخالطها مرح وبملابسه التقليدية المخططة والبرّاقة، الذي لم ينشأ في دكانة ورثها عن أبيه مثلًا، فقد بدأ حياته المهنية بقراره السفر برفقة عمّي شريف إلى كوبا، ويعلم الله لم اختارا السفر إلى ذلك البلد دون غيره، وعلى الأغلب لأنه لم يكن طرفًا في الحربين الكونيتين، وكم أمضيا يمخران عباب أمواج البحر حتى أدركا تلك الجزيرة التي كانت خاضعة لأميركا في عشرينات القرن الماضي، وما هي طبيعة ترتيبات السفر ومحطاته، ونوعية الحياة والاجتماع في الباخرة التي أقلتهما، غير أنّ الذي أعلمه أنّ جدي أقام أحد عشر عامًا متصلة في تلك البلاد (عمي شريف أقام سبعة أعوام وقفل عائدًا) أمضاها جدّي بائعًا متجولًا وكادحًا مثابرًا ساعيًا بإرادة لا تلين إلى الرزق في أرض الله الواسعة، من غير أنْ يُقعده الحاجز اللغوي بين عرب وكوبيين ناطقين بالإسبانية والإنكليزية، إلى أنْ عاد وأنشأ دكانته في أريحا بالشراكة مع عمي شريف في البدء ثم انفرد بها، فيما تولى عمي شريف آنذاك رئاسة البلدية، وامتلك جدي أراضيَ عديدة في أريحا وفي قريته عبوين، وأخذ يستعين إلى جانب الأكياس الورقية بلونها البني الفاتح، بصحف قديمة لتغليف مبيعاته ذات الأوزان الخفيفة.

* من كتاب السيرة "الحياة مشيًا تحت سماء أريحا"... يصدر قريبًا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.