}

حب قاسٍ ينوء به ذلك الكائن

محمود الريماوي محمود الريماوي 22 يوليه 2023
يوميات حب قاسٍ ينوء به ذلك الكائن
(مهنا الدرة)

يتميز شارع تونالي حلمي في مركز أنقرة بأرصفة عريضة نظيفة حسنة التبليط، تنبثق على أطرافها أشجار معمّرة مترعة بالخضرة، فيما يشهد الشارع ازدحامات غير خانقة للمركبات والدراجات النارية، وتؤم المحال التجارية، وبالذات المطاعم والمقاهي والمخابز، أعداد غفيرة من الناس، معظمهم من الأتراك، كما تنبىء سحناتهم.
وإذ تنساب حركة السابلة على الأرصفة، وكذا من أفرع الشارع وأذرعته، بليونة وانتظام، فإن عين الرائي تصادف بين هذه الجموع أُعدادًا ملحوظة من كائنات غير بشرية جرى ترويضها بنجاح، فغدت تضاهي في حركتها حركة البشر في الدقة والالتزام، مع قدر طفيف من الخروج على الإيقاع العام. ويبدو مشهد هذه الكائنات مألوفًا، بل محببًا، بين التاسعة صباحًا والعاشرة ليلًا، وهي تلازم أصحابها ملازمة الصديق والفرد في العائلة.
بالنسبة لزائر شرقي، يبدو المشهد جديدًا بعض الشيء وهو يزور هذا الجزء من الشرق. فقد نشأ الزائر على ثقافة اجتماعية ويومية تفصل في الحيز المكاني بين الكائن البشري وغير البشري، وهو هنا الحيوان. وإذ لا تغيب مقولة الرفق بالحيوان ذات الأصل الديني عن الأذهان، فإنها تجد تطبيقًا انتقائيًا ومتقلبًا لها في الأعيان. وسرعان ما يستذكر الزائر أن مركز جبل اللويبدة في وسط عمّان يزخر بأشخاص محليين وأجانب يرافقون كلابهم. على أن الظاهرة هنا أكبر وأكثر اتساعًا وتكرارًا. وكما في أماكن أخرى، كذلك في المركز الحديث لعاصمة الأناضول، فالكلب كائن يقترن بجملة من التصورات الإيجابية عنه، كما ينم عن ذلك سلوك أصحابه، فهو لطيف، عزيز، مرح، ورفيق، ولا غنى عنه، ويضفي بهجة أنيسة على صاحبه. وقد نبّهت غادة السمان في مقال غير قديم لها بأن صاحب الكلب، حيث تقيم الكاتبة في فرنسا، يتبناه تبنيًا، ولا يقتنيه أو يشتريه، والراجح أن الاحتجاجات العنيفة من طرف المهمشين التي شهدتها المدن الفرنسية في تلك الغضون، لم تبطل ثقافة تقريب الكلاب والإعلاء من شأنها.
شيء من هذا يلحظه الزائر الفضولي في قلب أنقرة. فالكلاب ذات الأجرام الصغيرة، وحتى الضئيلة، تتنافس باقتدار مع تلك الضخمة في الحظوة، وفي النظافة، وفي الحضور الذي تكتنفه العناية والحدب عليها والاعتزاز بها. وقد يهبط أحدهم، أو إحداهن، من السيارة وهو يتأبط بمنتهى الحرص كلبًا صغيرًا بحنو بالغ لا يختلف بشيء عن الحنو على الأطفال. وقد يخفق في احتضانه فيبدو الحيوان وجذعه ملتصقًا بصدر صاحبه وبوجهه المتجه إلى الأمام في وضعية أرنب محمول ومزنوق يكثر من الفرفطة. وقد اعتادت هذه الكائنات هذه المعاملة وتكيفت معها على مضض.
يدرج الكلب، ذكرًا كان أم أنثى، أمام صاحبه، فيبدو كأنه القائد لا المقود، والمتبوع لا التابع. فإذا زاد من تقدمه فإن صاحبه يشكمه بشد الطوق بلطف، فيجعله يدرك بصورة ما توزيع الأدوار بينهما. ولا تنشأ مشكلات في هذه التراتبية. ولا يتعلق الأمر دائمًا بكلب مفرد، فقد يكونان اثنين، وقد يرتفع العدد إلى أربعة، أو خمسة، متعددة الألوان والأعمار والأحجام ترتبط بصاحب (مالك ورفيق) واحد. كلاب تدرج بأمان وتناغم على الأرصفة الفسيحة، ويخلي لها المارة الطريق بكل احترام. وليس معلومًا إن كانت سعيدة أم لا. فهي تحافظ على هيئتها بعيونها السارحة المدمعة، وألسنتها الزهرية الطويلة المدلاة وعلى لهاثها، وعلى شمشمة كل ما تصادفه في طريقها، ولن تصادف شيئًا ذا بال على الأرصفة النظيفة من دون أن تكف عن المحاولة.




ليست العلاقة بين الكائن البشري والحيواني في منطقتنا طارئة، فإلى المواشي التي تجري التغذية من ألبانها ولحومها، فإن الخيول والحمير رافقت الناس في هذا الجزء من آسيا. ومع التطور الحضري انتقلت أعداد من الخيول إلى مالكيها في المدن، بينما بقيت الحمير في الأرياف، بالتوازي مع وجود الجمال في البوادي. أما الكلاب فلطالما كان وجودها واسع الانتشار هنا وهناك، وبالذات في حراسة البيوت والمزارع وقطعان المواشي.
وما حدث خلال ثلاثة عقود مضت، أو أقل، أنه تمت من خلال بعض الشرائح الاجتماعية إعادة اكتشاف الكلاب وتغيير النظرة إليها، من كائنات دونية يتم اقتناؤها لأغراض عملية، إلى أخرى لطيفة ومحببة مرغوبة لذاتها من غير نشدان فائدة عملية منها، مع إحاطتها بكامل الرعاية والاهتمام اللازمين.
ولا شك في أن هذا النمط من التعامل مع هذا الحيوان الأليف مجلوب من نمط حياة وراء البحار. فالكلاب ذات حضور قديم كثيف وملموس منذ القدم في غرب آسيا، فما الذي استجد حتى ينقلب التعامل معها والنظرة إليها؟ لا شيء استجد من داخل البيئات الشرقية سوى استدخال نمط حياة غربي، أو لدى بعض الغرب، بالاستئناس بهذا الحيوان وتظهير وجوده كقرين على مستوى طبقي ممتاز، واقعي أو مزعوم، أو تعبير عن مزاج عقلي خاص يتمتع به صاحبه، ثم دعوته إلى عمق البيت، وحتى إلى غرفة النوم. وقبل أيام، كانت "ضفة ثالثة" نشرت حوارًا مترجمًا مع الروائية المتألقة إيزابيل الليندي تذكر فيه أنه من مظاهر يوميات سعادتها في سن الثمانين أن تتناول طعام إفطارها على سرير النوم يحيط بها زوجها وكلباها. وعلى الأرجح أنها لم تعرف في موطنها تشيلي نمط الحياة هذا الذي باتت تتعلق به في أميركا، حيث تقيم منذ أواخر القرن الماضي. ففي الجنوب، كما في الشرق الأوسط، ثمة مشتركات في عسر الحياة وأولوياتها.
مع ذلك، فالفروق الثقافية تفعل فعلها. فقد صادف كاتب هذه الكلمات كلابًا تمشي وسط الحشود جنبًا إلى جنب مع الناس في نيبال بأمان وسلام، من دون أن تلفت انتباهًا، أو تلقى اعتراضًا، أو ترحيبًا. وفي كولومبو، عاصمة سيرلانكا، دخل كلب شوارع إلى مطعم فندق الأربع نجوم، وتجول بهدوء وشرود بين الموائد المأهولة والشاغرة لنحو عشر دقائق، وخرج بتثاقل من تلقاء نفسه. ورفيق الرحلتين محمود الرحبي يشهد على ذلك. فهكذا تتبدى وحدة الكائنات وإزالة الحواجز بينها في جنوب شرق آسيا مُعطى طبيعيًا بغير استعراض، ومن دون مبالغات. إذ إن الرعاية المفرطة لهذا الكائن الأنيس تأتي بنتائج معاكسة. ومنها أنه تحول إلى كائن شبه أبكم، فما أن يصدر عنه أدنى نباح لدى ملاقاة أحد من أبناء جنسه في الشارع، أو في مكان مغلق، حتى يتم نهره وإسكاته من صاحبه، مع أنه أراد ربما التعبير عن سعادته بلقاء نظيره. لقد حرموه من وسيلته الطبيعية في التعبير، من لغته. فيما يؤدي حرمانه من العَدْو إلى جعله يدور حول نفسه بصورة محمومة، في محاولة لتصريف طاقته. لقد جعلوا منه دمية حية، وكائنًا يجهد في التشبه بأسياده، وأولياء نعمته، ويشكو الحرمان من مخالطة أبناء جنسه إلا في أضيق الحدود وبتقييدات ظاهرة.
وإذ تنال حسدًا مفهومًا من بعض البشر ممن يعانون ألوانًا من العسر في حياتهم، فالصحيح أيضًا أن هذه الكائنات تتعرض إلى ترويض قاس وبرمجة شرسة، تكاد تُخرجها من مملكتها الحيوانية، وتجعل منها مجرد أداة متعة وتسلية لأصحابها كبارًا وصغارًا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.